============= تتمـــــــــــــــــــــــــــــــــــة
=============
كما تمّ الاتفاق على أنْ يسافر معه الى
موسكو اثنان من الضباط الأمراء طلبهما العميد رفعت شخصياً وهما اللواء شفيق فياض
واللواء علي حيدر كما سافر معهم اللواء محمد الخولي وكان ذلك بطلب خاص من العميد
رفعت حتى يطمئنّ الى أنّ الطائرة لن تنفجر بعد اقلاعها بالجو, وصدر أمر الايفاد
بتاريخ 28/5/1984 وسافر العماد ناجي جميل مع حاشية العميد رفعت, وظلّ الرفاق قرابة
شهر في موسكو, وكان العميد رفعت ومجموعته قد ودّعوا موسكو بعد سلسلة من المقابلات
البروتوكولية الشكلية مع المسؤولين السوفيات، وبهذه المناسبة لابدّ من شهادة حق
للتاريخ فقد كان موقف أصدقائنا في موسكو مع الرئيس الأسد قولاً واحداً وكلّفوا
رسميّاً مستشار قائد الوحدة /569/ (سرايا الدفاع) بأنْ ينقل اليّ عن طريق كبير
المستشارين الجنرال »غوردينكو« معلومات عن الحالة النفسية للعميد رفعت وضبّاطه،
وكنت أنقل هذه المعلومات لسيادة الرئيس كما كنت أضع الرفاق في القيادة العامة
بالصورة وكانت هذه المعلومات مفيدة للغاية بالنسبة لنا لأنّه أمر أساس لتقدير
الموقف أنْ تعرف حالة الخصم النفسية.
وضاق اللواء شفيق واللواء علي حيدر ذرعاً
بالاقامة في موسكو وخشيا أنّ زحمة أعمال الرئيس الأسد قد تؤخّر صدور الأمر الخاص
بعودتها الى أرض الوطن وأرسل اليّ اللواء شفيق رسالة مؤثّرة واتّصلت هاتفياً بهما
الى موسكو وطمأنتهما بأنّ الرئيس لن ينسى أبداً أبناءه، وعندما أعلمت الرئيس
بالموضوع استغرب وقال لي: هل أمضيا شهراً في موسكو؟، وعندما أجبته: نعم,, قال:
أَصْدِرْ نيابةً عنّي الأوامر بعودتهما الى أرض الوطن,.
وهكذا عاد أبو علاء وأبو
ياسر من بلاد الغربة، مع أنّ الاقامة في موسكو ذلك الحين كانت تعتبر مثل الاقامة في
باريس باستثناء أنّ الاقامة في موسكو كانت تكلّف أقل بخمس مرّات, ولكن شعور المرء
بأنّه يعيش الغربة وأنّه ليس ذاهباً باجازة أو نزهة تجعل الحياة صعبة لا
تطاق.
وهكذا أسقط الأسد جميع الرّهانات المعادية المحلية والعربية والأجنبية
التي كانت ترى بوصول العميد رفعت الأسد الى السلطة هو انضواء سورية تحت المظلّة
الأميركية ونهاية لوقفة العز والشموخ التي اتّسمت بها المسيرة التي قادها أمين هذه
الأمة.
والحق ما شهدت به الأعداء:
بعد
جلسة المصالحة التي تمّت بين الرئيس الأسد وشقيقه رفعت قال رفعت للسيد الرئيس: أريد
أنْ أقول لك شيئاً حقيقةً لا يعرفها أحد ولا يجوز أنْ تظلّ في عالم الغيب,, وأقسم
لك بالله أنّه لولا العماد مصطفى طلاس كل جماعتك في الأركان لا يساوون (فرنك)
(الفرنك: أصل الكلمة (France) وهي عملة كانت تعادل خمسة قروش سورية زمن الانتداب
الفرنسي 1920-1945). وقد حاولت عدّة مرات الدخول الى مبنى القيادة العامة ومعي ست
سيارات مرافقـة بهدف السيطرة على المبنى وكنت أفاجأ دائماً بوجود العماد طلاس في
مكتبه,, وهذا ما كان يضعني في موقف صعب,, وكان الوحيد المستعد للقتال حتى الموت
دفاعاً عن النظام وكنت أخشى اذا تمكنت من التغلّب عليه أنّني لن أفلت من غضبك الى
يوم القيامة,, كما كنت أخشى أنّه لو تغلّب عليَّ بواسطة حرس الأركان المدعمة
بالقوات الخاصة وسرايا الصراع سوف أسقط من عيون الناس الى الأبد,, فأجابه الرئيس
الأسد: انّ العماد طلاس من أشجع ضباطنا و أثناء مشاركته في حركة الضباط الأحرار
بحلب (نيسان (ابريل) 1962) بقي في مركزه كمدير لشعبة الأمن السياسي مدّة سبع ساعات
بعد هروب رفاقنا كافة الى ادلب وحمص وحماة واللاذقية، وكان اللواء الخامس المدرّع
يحاصر المدينة ويضرب حولها طوقاً من الدبابات والمشاة المحمولة,, علماً بأنّ المنصب
الذي كان يشغله لم يكن بشكل رسمي ونظامي لأنّه كان مفتـّشاً في وزارة التموين, فكيف
تريد منه أنْ يترك مكانه في القيادة العامة وهو يشغل وظيفة نائب القائد العام
ووزيراً للدفاع بمرسوم جمهوري, انّه بالتأكيد سوف يقاتل من أجل النظام حتى آخر طلقة
وآخر رجل.
عهـد بالـدم يا ليت,,
هناك أغلى!
«عهد بالدم؟!,, يا ليت,, هناك أغلى!,, عهد بالدم يقطعه
له، رفاقه في السلاح والعقيدة,, فبماذا يجب أنْ يكون عهد رفيقه في الموطن
الخشن؟».
ليتها تتكرّر لعبة التاريخ، لأريك كيف أنام على فراشك يا حافظ.
أجل،
فبعد هذا العمى الذي ضرب زعماء هذه الأمة، وبعد هذا التيه الذي يتخبّطون فيه,,
ويستدرجون اليه الآخرين,, لم يبق أمام هذه الأجيال المعاصرة والمحاصرة، سوى
الالتفاف حول هذه الراية العربية السورية، المُمْسكة بها قبضته الفولاذية، والرافعة
لها منارة تقول للناس كافة، تعالوا اليَّ,, تعالوا، والحقوا بي، فأنا أقودكم الى
طريق الخلاص,, لأنّ الرائد لا يكذب أهله.
وبعد، فهذا الكتاب، ليس مهرجان أضواء،
ليدخل في أبواب الدعاية المبهرة.
ولا هو من وسائل الاعلام، ليدخل في حلقة
تلفزيونية ملوّنة,.
وغنيٌّ عن البيان والايضاح، أنّه ليس من كتب التبشير الحزبي،
وانْ كان بمثله يتعمّد خط الحزب ويقوى.
هذا الكتاب، يلوح لي وقد دخل أبواب
التاريخ,,, بل فُتِحَت له أبواب التاريخ، والمعلّمون الكبار هناك
يتساءلون:
أصحيح أنّ التاريخ يصنع الرجال؟,.
أم أنّ الرجال، هم الذين يصنعون
التاريخ؟,.
وربّما جاء السؤال، في أجواء معادلة أخرى: هل الفرد هو صانع
الجماهير، أم الجماعة هي التي تصنع الفرد؟.
وسلفاً أعتذر للقارئ، فلن أُدخِلَهُ
أو أَدْخُل معه في المماحكة التاريخية ولا في جدليّتها المادية، ولن أطوّح به في
أبعادها الضاربة حدود الفكر والمادة، ولن أتساءل أي منها هو الأساس، وأي منهما، هو
الانعكاس، بل سأبقى مع القارئ، في المناطق الآهلة كي لا يُصاب أحد بخوف من عدم
الفهم، أو حرج وحتى نبقى جميعاً على الخط,, »عهد بالدم»؟.
ستٌّ وخمسون وثيقة،
حبّرها القادرون على الوفاء بها، ووقّعوها بدمائهم، عاهدوا بها القائد على ولائهم
الأبدي له,.
والمعاهدون بالدم هم حملة البنادق، والأقلام، والمحاريث والمطارق
وسائر وسائل وأدوات الانتاج للمجتمعات الجديدة القوية,.
وبعد,, فماذا سيقول
الناس عنها، وعنهم في غد؟.
ماذا ستقول الأمم؟.
ماذا ستقول عنها فرنسا
بالذات؟.
بل لماذا خصّصت فرنسا بالذات؟, وسمّيتها دون غيرها من أمم
الأرض؟.
انّ لهذا التخصيص سبباً أنا ذاكره فوراً:
في فرنسا برنامج تلفزيوني
اسمه (7 على 7)، وهو يقدّم للمشاهد الأمور والأحداث الخارقة ليتصيّدها له من سائر
أنحاء العالم، وكأنّه يقول له:
خذْ وانظر,, ثم صدّق، أو لا تصدّق.
وفي أحد
الأيام، عرض البرنامج هذا، صورة من دمشق وفيها ظهرت سيارة الرئيس، وهو فيها، مرفوعة
على الراحات والأكتاف.
جميعنا يعرف هذا,, وقد رآه، ومنّا مَنْ ساهم فيه، ومنّا
مَنْ تمنّى لو كان, ليساهم,, لكنّ فرنسا وجدته غريباً، فأفردت له مكاناً في
برنامجها الغريب!.
وغداً ماذا سيقول البرنامج عن ست وخمسين وثيقة، كلّها بالأحمر
القاني؟.
وليس غرضنا هنا أنْ نردَّ، أو نعلِّل، أو نفسّر أسباب هذا الاستغراب،
فمن الطبيعي أنْ يندهش الغرب لسيارةٍ محمولة على الأعناق، بعد أنْ كانوا أشبعوا
شعوبهم كذباً وحشوهم تضليلاً، عن الوضع المتردّي، والنقمة العارمة، وخصوصاً عن
المرض,, الذي زعموا أنّه خطير,,
ونعود لطرح السؤال من جديد:
لماذا «عهدٌ
بالدّم»؟.
ويأتي الجواب هذه المرّة أيضاً,, من فرنسا.
يقول [اُوْلاد (Olad)]
أستاذ التاريخ الكبير في جامعة السوربون، وهو يتحدّث عن الثورة عموماً:
[ليس
الظلم هو الذي يولد الثورة، وانّما الشّعور به]
وعهد بالدم هو ثورة بين
العهود,.
فالمعروف أنّ العهد يعطى باللسان، أو تشد به قبضة على كف، أو ينطلق من
خطبة منبر، ويشهد عليه جماعة، أو يشترك به لفيف متجانس، في قسم مشترك,, أو يوثق
بكتاب, الاّ في سورية، ومع حافظ الأسد.
أجل فسورية، بالدم عهدها كان,, وببذله
سيكون,, والسبب، شعور الجماهير الحاد، وأنّ القائد هو أملها، وأنّ القائد هو
كرامتها، وأنّ القائد هو خبزها اليومي الشريف، فالقائد اذنْ هو المنارة التي تهدي
سواء السبيل، وأيّ علامة استفهام ترسم حول هذا الموضوع، فستمحوها الجماهير
بالدماء,.
ولماذا كل هذا الانفعال؟,.
للسبب ذاته,, الشّعور الحادّ.
أجل!,,
فعندما تطلّعت سورية، فوجدت نفسها داخلة في حدود المعادلة المتعلّقة بحساب القوى،
وهي تعرف جيّداً، أنّها لم تكن قبلاً كذلك,, لأنّها كانت فعلاً خارجها,, لابدّ أنها
تساءلت:
كيف حدث هذا؟ ومتى؟,.
وبفعل مَنْ، دخلت سورية في
الحساب؟,.
وقال التاريخ:
لا شكَّ أنّ
ثورة الثامن من آذار (مارس) في العام 1963، وضعت سورية على الطريق,, وقد كان تسلّم
حزب البعث العربي الاشتراكي الحكم، وثبة نوعيّة مهمة في هذا المجال.
ولكن مَن
الذي أرسى قواعد هذه الوثبة؟.
بل مَنْ هو الذي صحّح مسارها؟,.
بل مَنْ الذي
جعلها شيئاً فشيئاً أمل الجماهير؟, ثم كيف أدركت الجماهير قداستها، وسحرها،
فأنزلتها في ضميرهـا، ثم قام الشعب معلناً أنّ بقاءه ببقائها، وأنّه مستعد لأنْ
يفديها بالروح؟.
وفي الجواب على ذلك، لابدّ من استعراض الأحداث والمواقف،
والأفعال وردود الفعل عليها، والردود على الردود,.
ومن خلال هذا الاستقراء،
لزمان الوثبة، واعادة القراءة لكلِّ حدود السلسلة، نعرف سرّ هذه الثورة العارمة في
التأييد، ولماذا ارتفعت الى مستوى الفداء,, الذي لا حدود له، لولا الشّعور المتكامل
بكبر الأحداث التي مرّت بالقطر والوطن والعصر، وعظمة الردِّ عليها، أي ردِّ حافظ
الأسد بالذات.
ولنفتح قليلاً الستارة
:
فبين نكسة حرب حزيران (يونيو) 1967، وبين ردِّ الاعتبار في السادس
من تشرين (أول اكتوبر) 1973، لم يكن في كلِّ هذا الوطن مِنْ خليجه الى محيطه، رجل
في ضميره الخوف على سقوط الأمة، واضمحلال هذا العنصر العربي سوى حافظ
الأسد.
صحيح أنّ الشعار الذي أطلقه عبد الناصر بعد رجوعه عن الاستقالة عشيّة
الهزيمة، تحت وطأة الرفض الشعبي العارم لهذه الاستقالة، وهو شعار ازالة آثار
العدوان بقي هاجس الشعب والجيش، في مصر، حتى عبور سيناء وغسل عار حزيران
(يونيو).
لكنّ الذي ثبت فيما بعد أنّ الذي ينفع الأمّة يمكث في الأرض، وتبيّن
أنّ الجيش العقائدي الذي بناه حافظ الأسد، كان مستعدّاً أنْ يقاتل الى الأبد هنا
وهناك، وأنّ قائده هو وحده صاحب النَّفَس الطويل، والنظرة الثاقبة التي ترى ما وراء
الأفق.
ومنذ الزلزال الذي عصف بالوطن العربي وبجبهته الغربية بعد الزيارة
الفضيحة الى القدس، ظنّت الامبريالية أنّ ظهر الصمود انقصم، وانقصم أيضاً ظهر
الجبهة الشرقية، وظنّ عرب أميركا، وعرب النّفاق والتربّص، وعرب اللعب على الحبال،
أنّ كلّ شيء انتهى وأنّ شبح الوعي الشعبي المرعب لن يرعبهم بعد اليوم وأنّ
التقدّمية أخذت طريقها الى الخلف، وأنّ تكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية
والاشتراكية هي كلمات تصلح للمعاجم اللغوية الاّ حافظ الأسد، به ضُرِبَ المثل في
الأناة والصبر والحكمة والفلسفة، وحتى لكأنّه هادي السفن في أعالي البحار.
وقد
صار جاورجيوس القدّيس النازل الى مبارزة تنّين الامبريالية، ذي الرؤوس السبعة،
يسدّد لها الطعنات النجلاء حتى كاد يزهق الرمح، ولم يزهق الزند.
ونقرأ في احدى صفحات التاريخ:
وحده حافظ الأسد زربهم
في كامب ديفيد، وأغلق عليهم باب الخان فما عاد يجرؤ على الدخول اليه خارج بل صار
يفكّر بالخروج منه داخل، وهال القوى الامبريالية، والصهيونية العالمية، والرجعية
العربية، انقلاب حساباتها، فعمدت الى ثعبان الطائفية النائم، فأيقظته,, وحقنته
بسمومها الخاصة، وأطلقته في الأرض اللبنانية، حيّةً تسعى,, وكانت حرباً سُمّيَتْ
بحرب السنتين، لم يعرف التاريخ ما هو أقدر منها في كل ما عُرِفَ من حروب!.
وواجه
حافظ الأسد، الزلزال الجديد بمفرده واتّخذ القرار التاريخي بدخول لبنان، فأوقف
النّزيف وأحبط المؤامرة، وأسقط التقسيم وقلب التاريخ فصلاً، وكتب عنواناً جديداً
.
التي قصمت ظهر البعير صدام حسين كانت
الفقرة الأولى من بيان الوحدة السورية ـ العراقية التي قالت بتولي البكر رئاسة
الجمهورية
بتاريخ 16 / 6 / 1979 توجهنا بصحبة
الرئيس الأسد إلى بغداد لإجراء مباحثات تدفع القطرين الشقيقين إلى مزيد من التقارب
حتى يتمّ تفادي الانهيار الكبير في الموقف العربي بعد أن خرجت مصر من جبهة المواجهة
مع إسرائيل إثر اتفاق «كامب ديفيد».
وجاء هذا الاجتماع
في إطار الدورة الثالثة للهيئة السياسية العليا المشتركة للقطرين السوري والعراقي،
وكان الوفد يضم الرفيق عبد الحليم خدام وزير الخارجية، والرفيق فهمي اليوسفي نائب
رئيس الوزراء لشؤون الخدمات, وفي الساعة السادسة مساءً عُقد الاجتماع وكان الطرف
العراقي يتألف من الرئيس أحمد حسن البكر رئيس الجمهورية، ونائبه صدام حسين، ووزير
الخارجية طارق عزيز، وعندما قدّم النادل كأس الشاي للرئيس الأسد نهره صدام حسين
وقال له: «اذهب واغسل الإبريق جيداً ثم اعمل لنا طبخة شاي جديدة، وبعد ذلك اسكب
عشرين كأساً وقدّم الصينية للرئيس الأسد ليختار منها الذي يرغب (هناك مثل شعبي
يقول: «اللي برقبتو مسلة بتنخزو» وهكذا كان صدام مهووسا بالسموم وكان سم (الثاليوم)
هو المفضل لديه وقد ابتكره له مخبر سموم من المانيا الديموقراطية ويحوي هذا السم
المركب على سبعة انواع من السموم وكلما تمكن الجسم من افراز مادة مضادة لهذا السم
تحرك السم الثاني للعمل، وهكذا حتى يرهق الجسم وتتلاشى المقاومة)».
بعد تناول الشاي وبدء المحادثات لاحظت أنّ الرئيس أحمد حسن البكر متحمس
لوحدة القطرين بعكس نائبه صدام، وكان وجه البكر يتهلل بالفرح والسرور كلما جرى بحث
موضوع الوحدة بينما كان صدام يكفهر وجهه, وأخيراً تمّ الاتفاق على صيغة مقبولة وإن
كانت أقل مما يطمح إليه الرئيسان الأسد والبكر، ولكن القشة التي قصمت ظهر البعير
(وكان البعير صدام) كانت الفقرة الأولى من البيان: يتولى أحمد حسن البكر رئاسة
الجمهورية ويكون الرئيس حافظ الأسد نائباً له، وبهذه الصيغة يكون صدام حسين قد خرج
من المولد دون حبة ملبس, وكظم غيظه وقرر أن يُنهي هذا الموضوع وإلى
الأبد.
ولأن البكر كان أحد أهم المتحمسين لإقامة الاتحاد
لأنه سينهي حياته السياسية كرئيس لدولة عربية تضم سورية والعراق، خصوصا وأنّ حزب
البعث العربي الاشتراكي في القطرين كان القاسم المشترك لتحقيق هذا الإنجاز
التاريخي، قرر صدام حسين أن يفجعه بابنه الأوسط محمد الذي كان يردّد دائماً وبحضور
صدام حسين: والله سيكون مقتلك على يدي إذا لم تعد إلى جادة الصواب وتقلع عن هذا
السلوك الأهوج الذي لا يخدم أبداً مصلحة الحزب, وبينما كان محمد حسن البكر يقود
سيّارته على طريق بغداد ـ البصرة وإذا بسيارة قلاب تخرج عليه من طريق جانبي وتسببت
بتدهور السيارة ومقتل كل من فيها من الركاب.
ولابدَّ من أن
أضع القارئ في صورة الحدث حتى يكون لديه رؤية شاملة للموضوع، فبعد إعلان بيان
الاتحاد العراقي ــ السوري عبرت الحدود ستة عشر ألف سيارة عراقية باتجاه سورية،
وعرف صدام حسين أنّ هذا التقارب بين القطرين وهذا التيار الوحدوي الجارف سوف يقضي
على كل أحلامه باستلام السلطة, وعاد إلى التلفزيون من جديد وأخذ يتأمل بالرفاق
العراقيين الذين سلموا على الرئيس الأسد بحرارة ومحبة ظاهرة فقرر أن يقتلهم جميعاً
بلا شفقة ولا رحمة.
بعد أن انتهت المباحثات السياسية
وتوصلنا إلى الصيغة النهائية للبيان، استأذنت الرئيس الأسد بأن أزور أقاربي في
بغداد، وكان الأسد يعلم أنّ لي عديلاً من العراق هو المهندس عبادي أركان العبادي
الذي درس الهندسة في جامعة حلب، وتعرف هنالك على المهندسة سعدية الجابري، وحصل
التعارف والتحابب والزواج، اتصلت بالدكتورة ندى العبادي الأُستاذة في كلية الطب
بجامعة بغداد وسألتها إذا كان بالإمكان أن نشرب قهوة سويّة في أي مكان تريده: «فأنا
لا أعرف بغداد كما تعرفينها أنتِ», فقالت: «إذاً نلتقي الساعة التاسعة في نادي
الصيد والضابط المرافق لكم بالتأكيد سوف يعرفه» قلت لها: «إنّ معي زملائي الوزراء»،
فقالت: «ولا يهمك وأنا معي زوجي», كانت ندى في منتهى الذوق باستقبالي مع رفاقي،
وطلبت لنا القهوة التي أُحبها (مغلية جيداً,,, وسكر زيادة)، وبعد أن نقلت إليها
محبة أُم فراس ودعوتها لزيارة دمشق لاجتماع شمل المحبين، ووعدت بتلبية الزيارة في
أول مناسبة, وبينما كنا مسحورين بهذا الجو الرومانسي إذ سمعنا دربكة من حولنا
وسألتُ النادل فأجابني أنّ وزير الدفاع اللواء عدنان خير الله، ووزير الداخلية،
ورئيس المخابرات العامة، قادمون إلى هنا من أجل دعوتكم لتناول طعام العشاء، وما هي
إلا دقائق إلا والطاولة المجاورة إلينا قد اكتملت بالمدعوين كافة, قال اللواء
عدنان: «تفضل أنت وضيوفك», وسألتُ الدكتورة ندى إذا كانت توافق على تلبية الدعوة
فأجابت: «اذهب أنتَ مع رفاقك السوريين فأنتم بعثيون بعضكم مع بعض ونحن نرى أنّ
هؤلاء (,,,) بغداد ونحن لا نعترف بهم أبداً، وسوف نكمل قهوتنا ونمضي إلى
بيتنا».
كان اللواء عدنان خير الله قد عرف مكان وجودي بعد
أن التقطت أجهزة التنصت مخابرتي الهاتفية من فندق الرشيد إلى جامعة بغداد، ودّعتُ
الدكتورة ندى وزوجها الذي نسيت اسمه وهذه عادة سيئة لديّ مازالت مستمرة حتى الآن
وتوجهت إلى طاولة مضيفي وزير الدفاع العراقي ومعي رفاقي الوزراء السوريون وما أن
جلسنا الى الطاولة حتى بدأ المطربون يغنون الأغاني الخاصة بتمجيد الرئيسين حافظ
الأسد وأحمد حسن البكر، ودبت النشوة في رأس الزميل عدنان وتناول مسدسه وأطلق عدة
عيارات نارية في الهواء ابتهاجاً، وناوله الضابط المرافق بندقية كلاشينكوف أخمص طي
ملقَّمة، وقام بتفريغ المخزن بضغطة واحدة على الزناد، الأمر الذي جعل رواد النادي
يهربون بجلودهم وحمدنا الله لعدم وقوع ضحايا بين المواطنين الأبرياء (قال اللواء
عدنان لمرافقيه: اذا كان هناك جرحى خذوهم الى المستشفى العسكري,,, واذا كان هناك
قتلى ضعوهم في البراد وعندما تتعرفون على اسمائهم تسلمون الجثث لذويهم
لدفنهم).
بعد أن اطمأن اللواء عدنان بعدم وقوع خسائر أخذ
يُطلق النار من مسدسه وكانت الرصاصات تمر من فوق رأس الرفيق فهمي اليوسفي، الذي
قرّر تغيير مكانه بعيداً عن هذا العبث الناري، وهنا لم يبق في الميدان سواي وبدأ
اللواء عدنان بإطلاق الرصاص من فوق رأسي مباشرة وقد أمّن له المرافق خمسة مسدسات
مشط وبكرة، وكان كلما يفرغ مسدس يناوله واحداً آخر,,, قلت في نفسي إذا غيّرت مكاني
على الطاولة سوف يُصبح الموضوع قصة يتندَّر بها المسؤولون العراقيون في مجالسهم،
ومن هذا المنطلق قررت أن أُخرّب هذه اللعبة وسأبقى في مكاني حتى تفرغ آخر رصاصة في
مخزون الجيش العراقي.
كان الرصاص يمر من فوق رأسي وكنت أشعر
بلهيب البارود الساخن عندما يتم الإطلاق بالمسدس البكرة، وبعد أن أطلق اللواء عدنان
نحو مئة وخمسين طلقة توقف عن اللعبة وقال نحن جئنا إلى هنا لتبادل الحديث وليس
لإطلاق الرصاص», فأجبته: «كما تريدون ونحن لا نحمل مسدسات لمشاركتكم بهذا الابتهاج»
انضم إلى الطاولة طبيب لم أعد أذكر اسمه ولكنه قال لي: «إنه نديم الرئيس البكر
ونائبه صدام», فقلت له: «يعني هام طبيب وهام؟»(,,,) فأجابني: «منك مقبولة كنكتة,,,
ولكن أنا بالفعل طبيب ونديم».
قلت له معنى نديم في عرفنا
أنه رجل يحبُّ الشعر والتاريخ وأخبار الملوك والسلاطين، فقال لي: «وأنا كما ذكرت»
قلت له: «إسمع أنا صديق الشعراء والأُدباء منذ طفولتي والشعر ليس عصيّاً عليَّ إذا
شمَّرتُ عن ساعدي,,, ولكن هناك موّال بغدادي سمعته من شاعر حمصي كان يشرب العرق
الزحلاوي في مقصف ديك الجن على ضفاف العاصي لم يعلق بذاكرتي منه سوى مقطعين وأنا
أرغب إليكم بإكمالها إلى سبعة», فأجابني: «سوف أنجز المهمة اليوم ونحن على
الطاولة,, قلت له: طوّل بالك المهمة ليست سهلة» فأجابني: «سوف تأتيك الإجابة إلى
فندق الرشيد قبل سفرك إلى دمشق وإلا سوف تأتيك بالبريد المضمون إلى مبنى القيادة
العامة في ساحة الأمويين, قلت له حباً وكرامة وإليك المقطع الأول:
«من يوم فرقاك عَـبِّينا العَسَل بتناك
قلت له:
بتناك يعني التنك» قال: أفتهم,.
وتابعت: وعهدي فيك يا رفيق
الصّبا (,,,)»!,.
وضحك الجميع وحتى اليوم لم يصلني
الرد.
صدام حسين ينفذ
المجزرة
يظل الكثير من أسرار تسلُّم صدام حسين،
الموقع الأول في الدولة والحزب الحاكم، منتصف تموز (يوليو) 1979 في العراق طي
الكتمان، لاعتبارات وأسباب عدة، أبرزها أنّ الرجل الذي أُزيح، وهو الرئيس السابق
أحمد حسن البكر، عاش وحيداً منبوذاً منذ عزله إلى أن غاب أو غُيِّب عن الحياة، بعد
ثلاث سنوات من إقصائه، وكذلك قتل وتصفية الشهود الذين عايشوا الأيام الثلاثة
الصاخبة، من 14 تموز (يوليو) إلى 17 منه، وفيه تمّ كل شيء، وفق مخطط مرسوم بدقة
وعناية، ولقي وزراءٌ وقوادٌ ومسؤولون كبار مصرعهم بعد أن استُدرجوا إلى الفخ، وعاش
آخرون في خرس، لا يقوون على قول الحقيقة وما جرى في تلك الساعات
العاصفة.
أسئلة كثيرة، وتساؤلات أكثر عمّا حدث في تلك
المجزرة التي اصطُلح على تسميتها بـ (القطرية) وراح ضحيتها نحو ثلاثين قيادياً
بعثياً ووزيراً وضابطاً وكادراً حزبياً بين معدوم ومشنوق ومخنوق قُتِلوا بأيدي
رفاقهم في الحزب، تنفيذاً لقرار أصدره الرئيس الجديد صدام حسين، وشكل سابقةً من
نوعها وفي طريقتها، عندما استُدعي مندوبون عن منظمات الحزب كافة، ليطلقوا الرصاص
على رفاقهم وأساتذتهم ومسؤوليهم، ليضيع دم المقتولين ويتوزع على المئات من (الرفاق)
الذين حُشِروا في حدائق القصر الجمهوري، وهم ينتكبون البنادق والرشاشات لتنفيذ
مذبحة دموية، القتلة والقتلى فيها من البعثيين، في مفارقة تاريخية وسياسية، وتركت
آثاراً ونتائج ظلّت تتفاعل، واتخذت مسارات خطيرة لاحقاً.
لقد ملّ صدام حسين نائب الرئيس الانتظار، وهو الذي كان يأمل أن يتنحى أحمد
حسن البكر، قبل عام مضى، خلال الاحتفال بالذكرى العاشرة لحركة 30-17 تموز (يوليو)
1978، وسط طفرة من الموارد والثروات ونوع من الاستقرار، لم يخدشه غير الصِّدام
المفتعل مع الحزب الشيوعي الحليف (قام صدام حسين باعدام الفي مناضل شيوعي، ووضعهم
في خوابي فخارية، ورماهم في نهر دجلة (هذه المعلومة من احد الزعماء العرب شخصيا)
وقد همس بها صدام له عندما كان يزمع السفر الى الولايات المتحدة الاميركية وتابع
صدام: قوله للجماعة,,, ان من يقتل الفي شيوعي ويرميهم في النهر لا يمكن ان يكون
اشتراكيا او ماركسيا) مع الحزب الحاكم في الجبهة الوطنية والقومية، وكان صدّام
يتطلع إلى الجلوس على «كرسي الرئاسة وزعامة الحزب بعد مرور عشرة أعوام على الثورة
بعد أن سئم من صيغة المناصفة في السلطة، التي أضفت على أجهزة الدولة والحزب آثاراً
سلبية، وقسّمتها إلى جناحين يتعايشان ظاهرياً بودٍ وسلام، فيما يخوضان صراعاً
وتنافساً في الخفاء, وحينما أقبل شهر تموز (يوليو) من عام 1979، وهو العام الذي عزم
صدّام حسين على حسمه لصالحه، برزت أحداث وتطورات، أقلقته تماماً، ولاح له أنّ
الحُلم الذي رافقه طيلة عشرة أعوام مضت، في طريقه إلى التلاشي، خصوصاً بعد أن صدرت
تلميحات في بعض الأحيان، وتصريحات في أحيان أُخرى، تشير إلى أن الرئيس البكر، لن
يغادر موقعه في قيادة الدولة والحزب الحاكم، إلا بعد ولادة دولة الوحدة بين العراق
وسورية التي يحكمها جناحان من حزب البعث خصوصاً وإنّ خطوات باتجاه التوحيد بدأت بين
البلدين، إثر توقيع ميثاق العمل القومي وتحسين العلاقات بينهما منذ تشرين الثاني
(نوفمبر) 1978. وقد اعتقد صدام حسين، أو خُيل له، أن البكر في لجوئه إلى الوحدة مع
سورية، التي تحظى بقبول وتأييد الأكثرية من قيادات وأعضاء حزب البعث، إنما يحاول
استبعاده عن طريق الحلم والأمل، اللذين كرس لهما حياته لتولي رئاسة الحكم، في أعقاب
تلويح الرئيس البكر بأنّ نظيره السوري حافظ الأسد، الأكفأ لقيادة دولة الوحدة،
وتصريحه لتلفزيون بغداد في مطلع حزيران (يونيو) 1979:
(بأنني واثق من قدرات أخي الرئيس الأسد، وما يتمتع به من حيوية وبُعد نظر في
العمل على تدعيم وحدة القطرين «العراق وسورية» بما يخدم الأمة العربية وحلمها
المنشود في لمّ شملها ورصّ صفوفها).
وسواءً أكان البكر،
صادقاً في دعواته الوحدوية، أم أنه عمد إلى هز نائبه واستفزازه عبر التلويح بالورقة
السورية، إلا أنه لم يمض طويلاً في خطته التي لو أحكم خيوطها بدقة، لنجح فعلاً في
إدارتها إلى نتيجتها المرجوه، ويبدو أن المرض (الاكتئاب الحاد) الذي أُصيب به بعد
وفاة زوجته، ومصرع نجله الأوسط محمد وقبلهما مقتل زوج ابنته، مظهر المطلق، تفاقم في
تلك الفترة إلى جانب معاكسات كبير مرافقيه العميد طارق حمد العبد الله، الذي يعرف
بأنه (عين) صدام في القصر الجمهوري، كل هذه الحوادث أثرت على قدراته في صياغة
أفكاره وبلورة خطواته بهذا الاتجاه.
فقد عُرِف ومنذ نهاية
عام 1977، أنّ صراعاً خفيّاً بدأ يبرز بين الرئيس أحمد حسن البكر ونائبه صدام حسين،
على بسط النفوذ والقوة، الذي اتخذ شكلاً مستتراً بادئ الأمر، ثم تحوّل إلى العلن
وظهر واضحاً في النجاح الذي أحرزه صدام في الضغط على البكر للتخلي عن الدكتور عزة
مصطفى عضو مجلس قيادة الثورة، الذي كان من أقوى المحسوبين على جناح الرئيس، والرجل
الثالث في تسلسل القيادة الحاكمة بعد البكر وصدام، وإقالته من مناصبه الرسمية
والحزبية، بحجة تخاذله في إصدار عقوبات ضدّ متظاهرين شيعة في كربلاء والنجف احتفلوا
بمناسبة دينية، ورغم أن البكر كان حتى مطلع عام 1979 يحظى بتأييد القيادات العسكرية
(قادة الفيالق والفرق) ولم يجرؤ (ابن خال) صدام الفريق عدنان خير الله، على تصفية
الوحدات الضاربة من آمريها المعروفين بولائهم وعلاقاتهم الوطيدة معه رغم تحريضات
صدام حسين، إلا أنّ الرئيس بدأ يفقد القياديين في الحزب واحداً بعد الآخر، ولم يبق
في صفه لغاية ذلك الوقت غير طه ياسين رمضان، وجعفر قاسم حمودي، من أعضاء القيادة
القطرية للحزب، فيما كان ستة من أعضاء مجلس قيادة الثورة والقيادة القطرية يتأرجحون
في ولاءاتهم بين الرئيس ونائبه، لاعتبارات خاصة بهم وهم عزة الدوري ونعيم حداد،
وعبد الفتاح الياسين، ومحيي الشمري، ومحمد محجوب، ومحمد عايش، في الوقت الذي حسم
فيه الآخرون وهم الأغلبية موقفهم، وعُرِفوا بتأييدهم للنائب صدام حسين ودعمهم له
وفي المقدمة منهم: عدنان الحمداني، وطارق عزيز، وغانم عبد الجليل، وتايه عبد
الكريم، وسعدون شاكر، وحسن العامري، وعدنان خير الله.
وعندما أقبل شهر تموز (يوليو) 1979، كانت الأجواء في العراق متوترة تماماً
ولاحظ المعنيون والمراقبون للأوضاع العامة في البلاد، تناقضات في الشعارات السياسية
التي طُرحت للاحتفال في الذكرى الحادية عشرة للثورة، ورُفعت لافتات استُبعد اسم
البكر منها للمرة الاولى، فيما رفعت لافتات عُلّقت في بعض شوارع العاصمة الرئيسية،
تشير إلى دور القيادة الشابة في الحزب والثورة، دون تحديد أو تنويه باسم محدد، وبدا
واضحاً أنّ صدام حسين بدأ يلعب لعبته بذكاء دون أن ينتبه البكر إلى
ذلك.
البكر فـي عينـي
صدام
ويعترف صدام حسين لكاتب سيرته الصحافي
اللبناني فؤاد مطر (لم يكن أحمد حسن البكر في وضع صحي ميئوس منه، ولكنه كان لا
يحتمل أن يأتي يوم يقرأ في أعين العراقيين وغيرهم تساؤلات عن وضعه,, من نوع، ماذا
ينتظر لكي يرتاح؟ وهل إنه يريد أن يكون مثل الجنرال فرانكو الذي اختار من يخلفه،
لكنه رفض حتى لحظة رحيله أن يتخلى عن الحكم) (كتاب: صدام حسين, السيرة الذاتية
والحزبية ص(69 ـ 70).
كان صدام حسين، يدرك أن البكر ليس من
النوع الذي يتخلى عن وجاهة الحكم والسلطة بسهولة، لكنه كان واثقاً من إجباره على
الاعتزال بالقوة من خلال انقلاب داخلي يعتمد على جهاز المخابرات الذي أصبح في ذلك
الوقت، دولة داخل دولة، وهو مضمون الولاء له بكامله، قادة ومسؤولين وفي مقدمتهم
رئيسه سعدون شاكر صديقه الحميم، ومعاونه الأخ غير الشقيق لصدام برزان إبراهيم
التكريتي، غير أنه لم يكن مطمئناً لتعلق عدد من قيادات الحزب والجيش بالبكر، وحبهم
له لاعتبارات عاطفية وتاريخية، كما أنه عرف منذ زمن، أن الأمين العام المساعد لحزب
البعث، الدكتور منيف الرزاز الأُردني الجنسية، الذي كان يقود القيادة القومية للحزب
بعد تواري السوريين ميشيل عفلق، وشبلي العيسمي، وأمين الحافظ، عن الأنظار منذ توقيع
ميثاق العمل القومي بين العراق وسورية، يقف بقوة إلى جانب البكر ويشجعه على إتمام
إجراءات الوحدة أو الاتحاد بين بغداد ودمشق، ولم يكن أمام صدام إزاء هذه التحديات
إلا العمل بسرعة وحرق المراحل، خصوصاً وأنّ خلافاً نشأ بين الرئيس وصدام وقتئذ حول
تشريع أمر البكر بإعداده لإعلانه في احتفالات 17 تموز (يوليو)، يقضي بزيادة رواتب
الضباط والجنود والمعلمين وموظفي الدولة، كان يرى صدام إرجاء صدوره إلى موعد آخر
لحسابات خاصة به وخشية التفاف عسكري وشعبي حول الرئيس.
عندما علم صدام حسين باعتزال البكر ابتكر
مسرحية الاستقالة ودعا القيادة الى اجتماع واعتقل بعضها وتآمر مع الدوري ورمضان
للاستيلاء على الحكم
ينقل عن مرافق البكر،
المقدم إبراهيم الدليمي (اغتيل فيما بعد) أنّ البكر، غضب من اعتراضات نائبه على
إصدار قانون زيادة الرواتب، وذهب إلى منـزله مساء التاسع من تموز (يوليو) معتزلاً
مكتبه في القصر الجمهوري موصياً حراسه ومرافقيه بعدم السماح لأحد بزيارته، وامتنع
عن التحدث عبر الهاتف مع النداءات التي كانت تصل إليه، وسرت شائعات في الأوساط
العسكرية بأنّ قطعات الجيش العراقي دخلت درجة الإنذار بعد أن نجح في إيصال برقية
إلى قائد الفيلق الأول اللواء الركن وليد محمود سيرت في كركوك (أُعدم فيما بعد) بأن
يضع قواته، على أُهبة الاستعداد والتحرك عند وصول إشعار إليه من البكر
شخصياً.
وأسقط في يد صدام وشعر أنّ البكر وهو في اعتزاله
المفاجئ يوحي إليه بأنه لا يريده إلى جانبه، بل فهم الأمر بأنه رسالة تدعوه
للاستقالة والابتعاد عن مناصبه كرجلٍ ثانٍ في الدولة والحزب، وهي مسألة من الصعب بل
المستحيل على شخص مثل صدام أن يهضمها ويتقبلها في أي ظرفٍ من الظروف, واستغل صدام
غياب البكر عن القصر الجمهوري، واعتزاله في بيته، فاستدعى صباح العاشر من تموز
(يوليو) 1979 الأمين العام المساعد منيف الرزاز وأبلغه: أنّ الرئيس البكر (زعلان)
في منـزله وأنّ المعلومات التي تسرّبت من أوساطه والحلقات المحيطة به، تُفيد بأنه
قرر الاستقالة، وينتظر حلول ذكرى الثورة لإعلان ذلك، وأنه (أي صدام) لا يستطيع ملء
الفراغ الذي ستخلفه تلك الاستقالة في حال انتخابه رئيساً للجمهورية وزعيماً للحزب،
لذلك فقد اتخذ قراره هو الآخر بالاستقالة أيضاً وعلى قيادة الحزب أن تختار من تراه
مناسباً للمنصبين, ويبدو أن الرزاز الشخصية الرصينة وصاحب (التجربة المرّة) مع
الرفاق السوريين خلال منتصف الستينات، صدّق كلام صدام، خصوصا وأنّ الاتصالات مع
البكر مقطوعة، فأجرى اتصالاً مع غانم عبد الجليل وطلب منه أن يدعو إلى اجتماع
لأعضاء القيادة في منـزله ذلك اليوم، وفعلاً عُقد اجتماع ترأسه الرزاز، وضمّ كلاً
من عزة الدوري، وعدنان الحمداني، وطه ياسين رمضان، ومحمد عايش، ومحيي الشمري (كان
قد غادر المستشفى في نقاهة من مرض عصبي ألم به)، وطارق عزيز، وحسن العامري، وجعفر
قاسم حمودي، ونعيم حداد، ولم يتيسر للأعضاء الآخرين الحضور وهم: عدنان خير الله،
وسعدون شاكر، وعبد الفتاح الياسين، فيما كان محمد محجوب في زيارة إلى دمشق في ذلك
الوقت, وفي الاجتماع طرح الرزاز حديث صدام حسين، وطلب منهم تدارك الأمر والبحث في
صيغة تكفل استمرار وحدة القيادة وعدم تعرضها إلى شرخ في هذه المرحلة، وانقسم أعضاء
القيادة إلى فريقين، الأول برز فيه محمد عايش ويطالب بعقد اجتماع لمجلس قيادة
الثورة والقيادة القطرية للحزب، يحضره البكر وصدام وجميع الأعضاء وتُناقش المشكلة
من جميع جوانبها، بغية الوصول إلى حل لها.
فيما طالب الفريق
الثاني، والمفارقة أنّ أغلب أعضائه من مناصري البكر وفي مقدمهم طه ياسين رمضان،
وعزة الدوري بأنه مادام الرئيس مصراً على الاستقالة فيجب العمل على إقناع نائبه
صدام حسين، بتولي الرئاسة موقتاً لحين الانتهاء من الاحتفالات بذكرى الثورة والدعوة
إلى عقد مؤتمر قطري باعتباره أعلى هيئة في العراق لحسم هذه
المشكلة.
وعلم صدام بما تمّ خلال الاجتماع الحزبي، وعرف من
هم أصحاب الرأي الأول (محمد عايش، ومحيي الشمري، وغانم عبد الجليل)، وأدرك الغرض
الذي يضمرونه في أنفسهم، وارتاح لطروحات الفريق الثاني، التي جاءت منسجمة مع رغبته،
فلجأ إلى طارق عزيز، وحسن العامري اللذين أوفدهما للاجتماع مع عايش، والشمري، وغانم
عبد الجليل، بغية إقناعهم بتأييد اقتراح طه ياسين رمضان، وعزة الدوري، غير أن
الثلاثة أصروا على موقفهم وفشلت جميع الجهود التي بُذلت معهم على تغيير
آرائهم.
الاجتماع
الحاسم
دعا صدام إلى اجتماع لمجلس قيادة الثورة
والقيادة القطرية للحزب، صباح 14 تموز (يوليو) في مبنى المجلس الوطني الذي يتخذ منه
مقراً رسمياً له، حضره جميع الأعضاء باستثناء محمد محجوب الذي كان لايزال غائباً عن
بغداد وشارك في الاجتماع منيف الرزاز للتوفيق بين أعضاء القيادة المختلفين, وجرت في
هذا الاجتماع الذي لم يحضره البكر، معاتبات في بادئ الأمر حسب ما تذكره الروايات
التي روَّجتها أوساط صدام فيما بعد تلتها مشادات كلامية بين صدام من جهة، وكل من
عايش، والشمري، وعبد الجليل، وفي هذا الاجتماع عرض الرزاز وهو يشاهد الخلاف قد اشتد
بين أعضاء القيادة، الإسراع بعقد مؤتمر قطري على وجه السرعة وخلال اليومين
المقبلين، بحيث عندما يُطل يوم السابع عشر من تموز (يوليو) (ذكرى الثورة) تكون
المشكلة قد حُلت (شرعياً) دون ظهور تعقيدات أو أزمات.
وهنا
ضرب صدام على الحديد وهو ساخن، فلم يُجب بلا أو نعم على مقترح الرزاز، وانفضَّ
الاجتماع دون اتخاذ قرار محدد، غير أنّ الذي حدث أنّ حراساً ومرافقين لصدام، منعوا
محمد عايش، ومحيي الدين الشمري، من مغادرة مبنى المجلس الوطني، واقتيدا إلى قاعة
جانبية، وتدخل غانم عبد الجليل مستفهماً عن هذا الإجراء، فدفعه الحراس إلى القاعة
نفسها وحاول الرزاز العودة إلى مكتب صدام لمقابلته والشكوى إليه، فمُنِعَ بشدة
وطُلبَ منه التوجه إلى منـزله وعدم مغادرته، فخرج من المجلس الوطني وهو يسحب رجليه
بعناء بعد أن هاجت عليه آلام الروماتيزم، وخرج الأعضاء الآخرون على أثره، باستثناء
عدنان الحمداني، وطارق عزيز، وعزة الدوري، وطه ياسين رمضان، الذين استُبْقوا في
المجلس، واتضح فيما بعد أنهم عقدوا اجتماعاً مع صدام وضعت فيه خطة عزل البكر
والإجراءات المتخذة بهذا الشأن، وكانت حجة صدام في اعتقال عايش، والشمري أنهما
تبادلا خلال الاجتماع قصاصات ورقية صغيرة، تضمنت تبادلاً للآراء وتنسيقاً فيما
بينهما، بشأن إعاقة وصول (السيد النائب) إلى سدة الحكم والسلطة.
وفي عصر السادس عشر من تموز (يوليو) اقتحمت منـزل البكر الواقع في منطقة
(أُم العظام) المطلة على نهر دجلة، بجانب الجسر المعلّق وحدات عسكرية من قوات
المغاوير، قادها برزان التكريتي، والعميد الركن طارق حمد العبد الله (اغتيل فيما
بعد) المرافق الأقدم للرئيس وأُجبر البكر على ارتداء ملابسه واقتيد إلى المجلس
الوطني.
ونُقل عن مرافق البكر، المقدم إبراهيم الدليمي، أنّ
القوات التي هاجمت قصر الرئيس، تدفقت عليه من الباب الرئيسي القريب من بوابة القصر
الجمهوري، وأبواب الحديقة المطلّة على النهر، ولم يكن بالإمكان مقاومتها لكثرة
المهاجمين، ويبدو أنّ البكر، أحس في تلك اللحظات أنه قد هُزم، ولا قدرة له وأتباعه،
على المقاومة، ورضخ للأمر الواقع، واقتيد إلى المجلس الوطني ومن ثم اصطحبه صدام إلى
دار الإذاعة والتلفزيون في منطقة الصالحية، وألقى خطاب التنحي.
نهاية عهد,,, وبداية آخر
ويتذكر الذين شاهدوا البكر وهو يلقي خطابه، أنه كان زائغ النظرات، يتلفت
يمنة ويسرة، ويحاول السيطرة على أعصابه، وكثيراً ما توقف أو تلعثم في الخطاب، مما
يعزز الاعتقاد بأنه يتدرب جيداً على حفظ مفرداته كما كان يحرص في خطبه السابقة، وقد
ظهرت صورة الرئيس على شاشة التلفزيون، وقد تغيرت ملامح وجهه، واضطر أكثر من مرة،
إلى بلع ريقه وهو يردد بلسان مرتبك تلك الكلمات التي جاء فيها: «ومنذ فترة ليست
بالقصيرة كنت أُحدث رفاقي في القيادة وبخاصة الرفيق العزيز حسين عن حالتي الصحية
التي لم تعد تسمح لي بتحمل المسؤوليات»، إلى أن ينتهي بقوله: «وإنني أُهنئ الأخ
والرفيق صدام على تحمله شرف المسؤولية في قيادة الحزب والثورة»، وغادر البكر مبنى
التلفزيون وقد لصق به الرئيس الجديد صدام حسين من جانبه الأيمن، فيما كان برزان
التكريتي في ناحيته اليسرى، ومضى إلى بيته وهو يحمل غصة في قلبه من غدر نائبه,
وبدأت مجزرة دموية راح ضحيتها 30 قائداً بعثياً وعسكرياً ووزيراً ومسؤولاً كبيراً،
ومن المفارقات أن يكون ضمن الضحايا عدنان الحمداني الذي كان يوصف بأنه (مدلل صدام)
وقد عُين في العهد الجديد نائباً لرئيس الوزراء ورئيساً لديوان الرئاسة وقد اعتقل
بعد عودته من دمشق في 22 تموز (يوليو)، بعد أن أوفده صدام إلى القيادة السورية
لوضعها في صورة الأحداث الأخيرة، ونقل المعلومات التي ذكر أنها تتعلق بتآمر القيادة
السورية مع عايش ومجموعته, ومما يُذكر بهذا الصدد أنّ الرئيس حافظ الأسد (كان
الرئيس حافظ الاسد اكثر المستائين من تصرفات صدام حسين الذي ينتهج منهجا قطريا بناء
على نصيحة وزير خارجية بريطانيا الاسبق جون براون ومع ذلك اوفد الرفيق عبدالحليم
خدام والعماد حكمت الشهابي الى بغداد ليؤكد لصدام براءة سورية من المؤامرة
المزعومة، وكان رد صدام غير ايجابي بل يمثل وقاحة ديبلوماسية لا تحتمل ولا يمكن باي
حال اعتباره من الرفاق المناضلين) وبعد أن استمع إلى مضمون رسالة صدام إليه التي
نقلها الحمداني، سأل الأخير، هل أنت مقتنع بأننا في دمشق شاركنا في المؤامرة
المزعومة؟ فرد الحمداني: «لا أدري,, أنا حامل رسالة وعليَّ توصيلها»، فصمت الرئيس
الأسد قليلاً، وقال: «إنني أخشى عليك يا رفيق عدنان,, ابق بضعة أيام في دمشق وسترى
العجب في العراق»، فضحك الحمداني ساخراً من كلام الرئيس الأسد، قائلاً: «إنّ مهمات
كثيرة تـنتظرني في بغداد، أنا عائد اليوم,, لأنّ وظيفتي الحقيقية يا سيادة الرئيس
هي رئيس وزراء».
وتبين بعد ذلك أنّ سبب اعتقاله ومن ثمّ
إعدامه، أنه كان الوحيد الذي يعرف تفاصيل أرصدة صدام وحساباته في المصارف الأجنبية
باعتباره المسؤول عن الاتفاقيات التجارية وصفقات النفط، وأُعدم أيضاً محمد محجوب
الذي كان طيلة فترة الخلافات خارج العراق وقيل أنه احتج على اعتقال عايش، والشمري،
وغانم عبد الجليل، وطالب بمحاكمة حزبية لهم، كما ينص النظام الداخلي لحزب البعث،
ويبدو أن هذا الاحتجاج قاده إلى حتفه، مع صهره العقيد رياض القدو عضو المكتب
العسكري للحزب، وأُعدم أيضاً اللواء وليد سيرت بعد أن ضبطت الأجهزة ما عُرف بأنها
اتصالات بينه وبين البكر.
وطويت صفحة، وبدأت صفحة، في تاريخ
صدام حسين، الذي استهل عهده الجديد بقتل رفاقه ومساعديه في مجزرة تستحق أن يُطلق
عليها بامتياز (مجزرة القوميين في بغداد).
=============
يتبــــــــــــــــــــــــع =========