ما أنصفتم الشيخ
ربما كانت هذه هي المقالةَ الثمانين التي أكتبها منذ انفجار ثورة سوريا المباركة، لم أنشئ واحدةً منها لمدح شخص بعينه ولا لذمّه، ولا حتى ذلك الذي سطا على سوريا وسمّى نفسه رئيساً لها، وما هو لها برئيس. وليست هذه المقالة استثناء، فليس المقصودُ بها مدحَ الشيخ عدنان العرعور ولا الدعايةَ له، وهو أصلاً مُستغنٍ عن دعايتي بما كتب الله له من الانتشار وطيب الذكر، إنما المقصود ردّ الحق إلى نصابه وبيانُ ما يصلح للثورة وما ينفعها بإذن الله.
أعترف ابتداء بأني لم أعرف الشيخ من قبلُ إلا لِماماً، أعني معرفةَ السماع لا معرفة اللقاء، فإني لم ألقَه قط ولا صلةَ شخصيةً بيني وبينه. عرفته لماماً من متابعات متقطعة قليلة لأحاديثه، ليس زهداً فيه ولكنْ لأني لست من مُدْمني الفضائيات، وعلاقتي بها ضيّقة بالجملة، فربما مرّت الأسابيع ولا أرى فيها لا برنامجاً ولا نشرة أخبار فضلاً عما سواهما، لكن هذه المتابعة القليلة دلّتني على عالم صادق جريء يستحق التقدير. ثم ازددت للشيخ سماعاً بعد الثورة، وأعترف بأني أعجبت به وأحببته في الله وفي الثورة التي وهبها نفسَه منذ يومها الأول، ووجدت في طرحه قوة في الحق وبعداً في النظر وتوازناً قليلاً مثلُه في العلماء التقليديين.
ثم بدأت أسمع وأقرأ النقدَ له بعد النقد والانتقاصَ بعد الانتقاص، فقلت في نفسي: لعل بعض الذين مدّوا أعناقهم إلى منفعة أو منصب أو اتّساع ذِكْر غاظهم منه ما لقيه من الناس من محبة وما ألقاه الله في قلوبهم له من قَبول، أو لعل فيهم من لا يحب أن يتصدر الحديثَ في الثورة أهلُ الدعوة والدين. ثم أدركت أن أكثرهم لا يَصْدرون إلا عن قلّة اطلاع ومتابعة عمياء لسَلَف أخطأ في حكمه أو تجنّى.
التهمة الكبرى التي شاعت على ألسنة منتقدي الشيخ هي أنه طائفي، بمعنى أنه يحرّض على كراهية جماعة من الناس لمجرد أنهم ينتمون إلى طائفة معينة، وهذه التهمة كبيرةٌ ولا تصحّ بلا دليل. هل تصدقون أني لم أجد في يد أيٍّ من متّهِمي الشيخ ومهاجميه أيَّ دليل؟ حتى لقد قرأت من قريب مقالة لمَن وصف نفسه بأنه "معارض سوري"، ردّد فيها التهمة ذاتها ثم قال: "مع العلم بأن الشيخ العرعور لم تُمسَك عليه أي كلمة تدل على أنه طائفي"! يا لَهذا المنطق العجيب؛ الشيخ طائفي ولكنه لم يقل كلاماً طائفياً! إذا لم يقل الشيخ كلمة "تُمسَك عليه" وتدل على أنه طائفي فمن أيّ شيء استدل كاتب المقالة على طائفيته؟ من رؤى رآها في المنام أم بالوحي والإلهام؟ الشيخ يتحدث في كل أسبوع عشرَ ساعات أو عشرين، أسبوعاً بعد أسبوع منذ انفجار الثورة، فهذه بضع مئات من الساعات لم يعثر فيها كاتب المقالة على كلمة "تُمسَك على الشيخ" دليلاً على طائفيته، ومع ذلك فإنه يحكم عليه بأنه طائفي!
لقد أدركت -بعد استقصاء ومناقشات طويلة- أن الناس الذين يتهمون الشيخ عدنان بالطائفية تلقفوا هذه التهمة واحداً عن واحد حتى ضاع أصلها وبات تحديد مبدئها من المستحيلات. لا أعلم ما كانت نيّة الذي أطلق الشائعة أول مرة، لعله فهم الشيخ خطأ أو أنه أراد تشويه سمعته متعمداً، لا يهم، المهم أن الذين تناقلوا هذه التهمةَ من بعدُ لم يسمعوا الشيخ أصلاً ولم يتوثّقوا من حقيقة مقالته، بل أخذ كل واحد منهم مِن سَلَفه نتيجةً جاهزة وراح يطيّرها في الناس، ومبلغ علمهم أن الشيخ كان قد خاض مساجلات مع الشيعة ذات يوم، فلا بد أنه طائفي إذن!
وما زلت متعجباً من ذلك الحكم الجائر الذي يفتقد الدليلَ حتى وقع بين يديّ أخيراً مقطعٌ مصوَّر سمّاه صاحبه "العرعور يحرض على قتل المسلمين العلويين في سورية"، فقلت في نفسي: هذا ما فاتني، لعلهم محقّون إذن! فلما سمعته ازددت يقيناً من ظلم الحملة التي تُشَنّ على الشيخ، فهو ما زاد على أن قال: من وقف معنا في هذه الثورة سنقف معه، ومن نسينا سننساه، ومن قاتلنا سنحاسبه ونعاقبه، يستوي في ذلك المسلمون والمسيحيون والدروز والعلويون والعرب والأكراد والتركمان غيرهم، فليست المعركة مع طائفة ولا مع جماعة بل هي مع المجرمين الذين يحاربوننا ويقفون في صف النظام.
أرأيتم خطأ فيما قاله الشيخ؟ أليس هو ما تردده مصادر الثورة صباحَ مساءَ، منذ اليوم الأول إلى اليوم؟ هو قال ذلك بالنص في المقطع المصوَّر ولم يَزِدْ عليه، إلا أن صاحب المقطع عزل الجزء الذي يتلفظ فيه الشيخ باسم "العلويين" وكرره خمس مرات ليوهم السامع أن المشكلة مع هؤلاء تحديداً، وكانت تلك حركة غبية لا يمكن وصفها إلا بأنها خطة سخيفة تقوم على افتراض الغفلة والسذاجة في المشاهدين. مع أن المتمعن في المقطع يجده مُنْصفاً لكل الفئات والطوائف لأنه يميز بين شرفائها ومجرميها، وهو أكثر إنصافاً مع العلويين الذين أكد على موقف الثورة منهم حتى لا ينساق العامّةُ إلى عدائهم بالجملة في غَضْبة طائفية عَمياء. وفوق ذلك فهو يسمّيهم بالاسم الأحبّ إليهم، مع أنه كان يسعه أن يستعمل الاسم التاريخي الذي تحفظه كتب العلم والتاريخ، النصيريين، وهو اسم صحيح مدوَّن في كتبهم وفي كتب غيرهم، ولكنهم يفضلون الاسم الآخَر الجديد الذي راج في العصر الأخير (مَتابعةً لاستعمال الفرنسيين) فجاملهم وسمّاهم بما يحبّون. أليس هذا دليلاً إضافياً على رغبة الشيخ في التأليف والتقريب لا التفريق والتأليب؟
ويقول بعضهم إن العرعور قال عن العلويين كذا وكذا قبل كذا من السنين. واعجباه! ما رأيتكم سألتم عما قالته مي سكاف عن الأسد قبل أربعة أشهر، بل طرتم فرحاً بما قالته أولَ أمس ونشرتموه في طول الدنيا وعرضها، ورفعتموها فوق رؤوسكم لمّا فاصلت النظام المجرم ووقفت في صف الأحرار. وهي تستحق أن ترفعوها على الرؤوس هي وأصحابَها وصواحبَها الذين واللائي قالوا وقلنَ: لا للظلم والاستبداد، الذين واللائي هتفوا وهتفنَ بكلمة "لا نحبّك" في وجه طاغوت الزمان!
ما أقلّل من شأنها ولا أنتقص منها هي وأصحابها، بل أعترف لها ولهم بالفضل، ولهم الشكر على موقفهم الشجاع النبيل، ولكني أقارن هذا بهذا.مس ونشرتموه في طول الدني وعرضها لا أحدَ من الذين وقفوا مع الثورة حوكم سجلُّه ونُبش ماضيه إلا الشيخ عدنان العرعور. وماذا في هذا السجل؟ في أي شيء أخطأ وما ذنبه الكبير؟ فأما ما أوضحه من أحكام الإيمان والكفر فحقٌّ واجبٌ بيانُه على كل عالم، لأنه مما تترتب عليه قضايا وأحكام كالزواج والميراث، وهو متابعٌ في هذا لعامّة علماء الأمة لم يبتدع ولم يأتِ بجديد. وأما الدماء فلم يَخُضْ فيها قط؛ هل سمعه أحدٌ أفتى في أي يوم بإهدار دم علوي من حيث إنه علوي؟ أم تحدّث عن القتلة والمجرمين من أبناء الطائفة وغيرهم من الطوائف والفئات؟
بل أكثر من ذلك: هل قرأتم فيما قرأتم من صحائف التاريخ أو سمعتم فيما سمعتم من حوادثه أن المسلمين قتلوا يوماً أحداً لأنه خالفهم في الملّة؟ لو صنعوا ذلك لما عاش اليومَ في مصر أقباطٌ ولا في الشام مسيحيون أو دروز، فما هؤلاء إلا أبناء أولئك الأسلاف الذين عاشوا مع المسلمين في أمانٍ القرونَ الطّوال، وما كان الشيخ العرعور ليخترع اليوم ديناً جديداً، إنْ يتّبع إلا الإسلامَ الذي يصون الدماء ويحفظ الحقوق، الذي يستوي في شريعته المسلمُ وغير المسلم في حقوق الكرامة والعدالة والحرية والحياة.
يا أيها السادة: أنا لا أقول فقط إن الشيخ لم يكن طائفياً في يوم ولا دعا إلى قتل العلويين قط، بل إني لأذهب أبعدَ من ذلك فأقول إنه أقام بأحاديثه وعِظاته سداً متيناً أمام الفتنة والقتل، فلولا أنه يهدئ الخواطر وينهى عن العنف لوقع في المحظور كثيرون، ولطالما سمعت من يقول: ما كان ينبغي لنا أن نسكت على ضَيم وعدوان بل كان ينبغي أن نرد على القتل بالقتل، ولكننا نسكت ونحتسب "كرمالك" يا عرعور! وقد سألوه -وأنا أسمع- عن الجماعة يعرفونهم بأعيانهم من أهل الحي أو الأحياء القريبة، وهم من "طائفة" معينة، يشتركون مع القَتَلة والمجرمين من عناصر الأمن في القتل والترويع، ويريدون الفتوى بالانتقام والقتل، فأجابهم جواب العاقل الحكيم؛ قال: لا تستهدفوا طائفة ولا تنجرّوا إلى الطائفية التي يريدها النظام، لا تقتلوا أحداً ولا تفسدوا سلمية الثورة. غداً بعد انتصار الثورة بإذن الله يحاكَم المعتدون والقتلة في المحاكم وينالون جزاءهم بالقانون.
هذا هو منطق الشيخ لم يخرج عنه في كل مرة سمعته فيه، فهل عند أحد من عقلاء الثورة ومنظّريها أفضلُ من هذا الكلام؟
ويقول قوم: ولماذا يتحدث في السياسة؟ إنما هو رجل دين فليَقْصُر حديثَه على الدين ويترك السياسة لأهلها. ما أشدَّ غرابةَ ما يقولون! ها هم الناس من كل نوع واختصاص يبحثون الأزمة السورية ويُدْلون بدلائهم وسط الدِّلاء، العرب والعجم والعامة والخاصة والصغار والكبار، حتى الممثلون والمغنّون، فهل حَرُمت السياسة على العلماء خاصة وحَلَّت للناس أجمعين؟!
هل يترك العالِمُ همومَ الأمة الكبرى وينشغل بمسألة المسح على الخفين؟ إذا لم تشغل العالمَ همومُ أمته فلا بارك الله في علمه! أما رأيتم كيف تصدّر علماء الأمة الكبار في الشام وفي غير الشام لهذا الشأن العظيم: القرضاوي وأنس العيروط وكريّم راجح وأسامة الرفاعي وأبو الهدى اليعقوبي؟ بارك الله فيهم وكثّر في علماء الأمة من أمثالهم. كل هؤلاء فرحنا بهم واستبشرنا بمواقفهم الإيجابية من الثورة، وكلهم نفع الله به بحمد الله، والشيخ عدنان واحد من هذه الكتيبة الصادقة المجاهدة من أهل العلم والعمل، نحسبه كذلك والله حسيبه. ولقد شهد بفضله على الثورة -بتوفيق الله وبعد فضل الله- البعيدُ والقريب والعدوّ والصديق، ويكفيه فخراً ويكفي برهاناً على أثره العظيم في الناس أنّ عملاءَ النظام وعبيدَه لم يحنقوا على أحد ما حنقوا عليه ولا كرهوا أحداً ما كرهوه، وانظروا إلى ما يكتبونه في صفحاتهم الآثمة تجدوا على ما أقول الدليل.
يا أيها الناس: نحن أمة متدينة تحب علماءها الصادقين المخلصين وتهتدي بهداهم، وهذا واحد من مصادر قوتنا وقوة ثورتنا، وانظروا إلى الأثر العظيم الذي تركه في الشام أكابرُ علمائها الثقات، وانظروا إلى حمص وحلب: ما الفرق بينهما؟ الناس هم الناس، إلا أن حمص قام علماؤها فقام أهلها، وحلب نام علماؤها فنام أهلها! من أجل ذلك نقول إن العالم الصادق المخلص الذي يقف في صف الثورة كسب عظيم للثورة، وإن من مصلحة الثورة ومن مصلحة الأمة أن تدافع عنه وأن تردّ له الجميل. ذلك واجبٌ على الأمة في الدنيا، أما الجزاء الحقيقي فيلقاه العلماء الصادقون الربانيون يوم الدين، ثواباً من أكرم الأكرمين.
مجاهد مأمون ديرانية