!
يعجب المراقب لدى متابعته يوميات الحراك السوري؛ مذ بدأ على شكل احتجاجات متفرقة وخجولة إلى أن تحوّل راهناً إلى ثورة تطالب بعض شعاراتها بـ"إسقاط النظام"، كيف أن النظام السوري، لم يستفد من تجارب ما حصل في تونس ومصر واليمن وليبيا... وكيف أنه لم يدرس وقائع "ثورة 25 يوليو"، على وجه التحديد، ليستنبط ما يفيده في الفرار من مصير مشابه لمصير نظام حسني مبارك. ليس ثمة تبرير منطقي سوى القول؛ إنها الحكمة الإلهية، التي تدفع الظالم إلى المكابرة وتدمير نفسه بيده، وهو يظن أنه ينقذها، تأكيداً لقدر الله الغالب، وسنته الكونية في الظالمين.
دروس لم يتعلمها النظام
في العادة؛ يهتم المحللون والمنظرون في الدول التي تبني رؤيتها المستقبلية على صناعة الفكر، من أجل دراسة الظواهر الكبرى في السياسة والاجتماع، ليصدروا بناءً على دراساتهم جملة من التوصيات والدروس المستفادة. في حالة "ثورة 25 يوليو" كان يجدر بالنظام السوري قبل أي نظام آخر أن يدرس ما جرى، ليكتشف سريعاً أنه معرض لخطر مشابه، وأن عليه أن يتعامل -في حال وقوع الخطر- على نحو مخالف لتعامل النظام المصري.
ما فعله النظام السوري كان العكس تماماً، إذ راح الرئيس بشار الأسد ينظّر في الحرية و"الديمقراطية" أمام صحيفة أمريكية ("وول ستريت جورنال" في 31/1/2011) وصولاً إلى قوله: "إذا لم تكن ترى الحاجة للإصلاح قبل ما جرى في مصر وتونس، فقد فاتك الوقت أن تقوم بأية إصلاحات"، نافياً ضمناً أنه هو نفسه معنيٌ بهذا الكلام، وأن احتمال أن يأتيه الدور في تجرع كأس تحطيم الشعوب حاجز الخوف احتمال وارد. كان ذلك قبل شهر ونصف فقط من تفجر "ثورة 15 آذار" في بلاده. وكان هذا الخطأ الذي فوّت عليه فرصة قتل الثورة قبل قيامها.
بدأت التحركات في سوريا بأعداد خجولة، وشعارات متواضعة... كان عودها طرياً إلى الدرجة التي سمحت للنظام بنكران وجودها، تماماً كما فعل النظام المصري يقوم قال رئيسه: "سيبهم يتسلوا"، لكن حاجز الخوف كان يتداعى شيئاً فشيئاً، والأعداد كانت تتزايد، والشعارات تتصاعد، فلم يعد النكران يجدي، ولم يعد القمع ينفع، فأقال الرئيس الحكومة، ووعد نائبه فاروق الشرع (ابن أكثر المحافظات اضطراباً؛ درعا) بخطاب "يُسعد كل السوريين" (تماماً كما فعل الرئيس المصري السابق حسني مبارك يوم أقال الحكومة وألقى خطابه الأول).
في 31/3/2011 أضاع الرئيس السوري، أمام مجلس الشعب، فرصة إعاقة الثورة من التقدم. كان بوسعه الاستفادة من أخطاء زميله اللدود حسني مبارك، بتقديمه جملة تنازلات كبرى؛ بما فيها إلغاء قانون الطوارئ، وإطلاق سراح السجناء السياسيين، والسماح بعودة المهجرين، وإطلاق الحريات الإعلامية... بقرارات يصدرها فوراً أمام المصفقين له، لكن أسباباً غير معلومة حتى الآن، جعلته يقدّم خطاباً لا جديد فيه، غير كونه دليلاً على تكلّس نظامه وجموده، ما أعطى الثورة الزخم الذي كانت تبحث عنه.
وفي محاولة من النظام لإعادة ترميم حاجز الخوف المتداعي؛ اعتمد في قمعه المتظاهرين -فضلاً عن عناصر الأمن- على الشبّيحة. وهؤلاء موجودون تاريخياً في سوريا، على شكل مجموعات يخضع كل منها إلى شخص مرتبط بالنظام يسمى "المعلم"؛ الذي يستقوي بجماعته، ويؤمن لهم بالمقابل الحماية. باختصار؛ الشبيحة في سوريا هم البلطجية في مصر. والدرس الذي لم يتعلمه النظام السوري أن بلطجية مصر سرّعوا من سقوط النظام، بدلاً أن يحفظوه، وأن بلطجية النظام اليمني أساؤوا لعبد الله صالح بدلاً من أن ينفعوه.
الحديث عن المؤامرة الخارجية لم يغب –إلى الآن- عن أدبيات النظام السوري، تماماً كما لم تغب عبارات "النيـْل من مصر ومكانتها"، عن خطابات الرئيس السابق حسني مبارك. الرئيس المصري كان عنده جيش من نواب الحزب الحاكم والمحللين السياسيين والمفتين والفنانين...الذين استخدمهم في المواجهة الإعلامية مع المحتجين، وقد زاد الرئيس السوري على هؤلاء كلهم كتيبة من الصفّيقة؛ تسمى "نواب الأمة"؛ رأى أحد المنتمين إليها أن الرئيس الأسد لا يستحق أن يكون "رئيس العرب فقط، بل يجب أن يكون رئيس العالم"!؛ وقد فرح الإعلام الرسمي السوري بهذه العبارة المسيئة لدور نواب الأمة، فنقلها وسجلها وكررها، ليؤكد أنه لم يتعلم من دروس السابقين شيئاً.
وصفُ المحتجين بالمندسين ألهب حماستهم، ومشاهد القمع حرّكت نخوتهم، و"فبركات" الإعلام الرسمي أنهاه لديهم، ومع كل حماقة كان يرتكبها النظام في سوريا كانت المطالب ترتفع، وصولاً إلى شعار "إسقاط النظام"، الذي لم يظهر في الأسبوعين الأولين من الاحتجاجات، تماماً كما كان هذا الشعار "خرافة" لدى المحتجين في مصر، قبل أن يسيطروا على ميدان التحرير!.
وهكذا يبدو؛ وكأن النظام يسير وراء حركة احتجاجية متصاعدة، بوعود إصلاحية أو حتى إصلاحات فعلية، لكن بوتيرة متباطئة، بحيث يأتي آخرها تلبية لمطالب تخطتها ساعة المحتجين، وهذا ما يمكن ينطبق على الكلمة الثانية للرئيس بشار الأسد أمام حكومته الجديدة، والتي رد عليها المحتجون بعد يوم واحد بمسيرات غضب؛ تعامل معها الأمن بغباء، فارتقى شهداء وأصيب جرحى... فكانت الدماء وقوداً إضافياً لقاطرة الثورة!.
لاحظ كيف تطورت الشعارات- من الخانة أسفل اليمين إلى الشعار أعلاه.
أساليب المواجهة ... متخلفة
فضلاً عن الدروس غير المستفادة؛ يعتمد النظام السوري اليوم على أساليب متخلفة (بالمفهوم الزمني) لمواجهة التحدي المصيري الذي يواجهه، ومن هذه الأساليب:
1- قمع الحريات الإعلامية:
حيث تُمنع وسائل الإعلام الأجنبية من العمل، ويقيد كلام مراسليها، إلى الدرجة التي دفعت "الجزيرة" و"العربية" و"بي بي سي" العربية إلى الاستغناء عن خدمات مراسليها مؤقتاً، تفهماً لظروفهم، وحتى لا تقع المحطة ضحية التضليل الإعلامي. كما حجب النظام مواقع إلكترونية عديدة، وفرض رقابة على الصحف الأجنبية، في الوقت الذي يستمر فيه إعلامه الرسمي في تجاهل الحقائق، وبث دعاية النظام، وتنفيذ "الفبركات" لصالحه (تصوير مطلقي النار في درعا على أنهم مندسون! على سبيل المثال). هذا النمط من التعاطي مع الإعلام، إن كان ينفع في الماضي، فإنه لم يعد كذلك اليوم، فقد مكنت "الثورة التكنولوجية" المحتجين أن يصيروا مصورين، وخوّلت الفضائيات شهود العيان أن يتحوّلوا مراسلين، وسمحت مواقع الانترنت للناشطين أن يصبحوا ناشرين، وبات حصيلة عمل هؤلاء أكثر مصداقية من الإعلام الرسمي لدى العالم أجمع، لسبب وجيه؛ هو أنه لو لم يكن لدى النظام ما يخفيه، لما قيّد الحريات الإعلامية، وتالياً فقد أعطى أداء النظام المصداقية للمحتجين؛ ولو بالغوا في وصف ما يجري، وبذلك يكون تخلّف النظام قد تفوّق على نظرائه في مصر واليمن، وحتى في ليبيا؛ إذ انتبه سيف الإسلام القذافي مبكراً إلى هذا الخطأ فسمح للإعلام الأجنبي أن يدخل طرابلس، ولو أن حركته ظلت مقيدة. (من الممارسات العجيبة أن الأمن السوري اقتحم في 2/3/2011 البيوت المطلّة على ساحة كفرسوسة, لمصادرة الهواتف الجوالة، منعاً للتصوير!).
2- بث أشرطة الاعترافات:
يعتبر أسلوب بث ما يسمى بـ "الاعترافات المتلفزة"؛ أحد أكثر الأساليب المعتمدة تخلفاً، لمناقضته حقوق الإنسان من جهة، ولعجزه عن مواكبة التطور في المفاهيم الإعلامية من جهة أخرى، وهذا ما يفسر "البرودة" التي تتعامل فيها الفضائيات ذات المهنية مع هذه الأشرطة، حتى أنه يمكن القول إن مجرد إنتاج هذه الأفلام من قبل نظام ما، يعتبر حجة عليه، لا له. يضاف إلى ذلك، أنه في المرات السابقة كان يلجأ النظام السوري إلى مثل هذا الأسلوب في مواجهة خصم خارجي (السعودية، الأردن، قوى 14 آذار في لبنان...)، لكنه هذه المرة يعتمد هذا الأسلوب في مواجهة شعبه، لإقناعه أن مؤامرة خارجية تحاك ضده، في الوقت الذي يرى فيه الناس ويسمعون مع يجري عندهم، وهم رأوا بأم العين كيف أجبر نظامهم مواطناً مصرياً على الاعتراف على التلفزيون الرسمي السوري بأنه عميل إسرائيلي (المهندس المصري محمد أبو بكر رضوان)، ثم رأوا بعد أيام كيف خرج الرجل –بضغط من بلاده- وتحدث كيف أُجبر على قول ذلك. (حصل ما يشبه هذا الأمر مع امرأة تقدمت سيارة الرئيس الأسد للاحتجاج على اعتقال ابنها يوم ألقى الرئيس خطابة أمام البرلمان، ما اضطر التلفزيون الرسمي إلى قطع البث، ثم أجبرت المرأة على الظهور على الإعلام لتقول إنها كانت تتقدم من السيارة بقصد تحية الرئيس!).
3- تنفيذ القوانين العسكرية في مواجهة الشعب
تتزايد الأنباء المؤكدة، يوماً بعد يوم، عن وجود حالات اعتقال مجندين وعسكريين أو إعدامهم لرفضهم تنفيذ الأوامر العسكرية، القاضية بإطلاق النار على المتظاهرين، كما يتزايد عدد الشهداء من القوات العسكرية ممن يقتلون برصاص الشبيحة، مثلهم مثل المحتجين، بقصد الترويج لوجود مندسين، وإقناع الناس بوجود مؤامرة على دولة "المقاومة والممانعة" سوريا. بمعنى آخر؛ فإن النظام السوري يتعامل مع شعبه، وكأنه عدو يفترض بالجندي أن يلتزم بالأوامر تجاهه، تحت طائلة تنفذ القوانين العسكرية، التي تجيز القتل عند رفض تنفيذ الأمر. وتخلف هذا الأسلوب ليس في كونه منافياً للعدالة فقط، بل في أنه يستعمل الجيش في مواجهة المحتجين، والنار في محاولة قمعهم، وهذا أسلوب لم يعد موجوداً إلا في الأنظمة القمعية المتخلفة؛ وقد ثبت أنه يزيد من نار الثورة بدلاً من إخمادها. (على سبيل المثال لا الحصر؛ قُتل في بانياس جنود سوريون ينتمون عشائر الرقة ودير الزور لرفضهم إطلاق النار على المتظاهرين. كما شيع أهالي درعا الأحد 17/4/2011 شهيداً عُذِّب حتى الموت لرفضه قتل شعبه). ولعل من أدلة تعامل النظام مع المحتجين على أنهم أعداء: صورة لأحد الذين تعرضوا للتعذيب
- أخذ جثث الشهداء ومفاوضة الأهالي في حالات كثير على تسليمها، واعتقال الجرحى (يمكن ملاحظة عبارة تسليم عدد من الجرحى أو الجثث على وسائل الإعلام-في بانياس مثلاً).
- حصار المدن وتقسيمها إلى قطاعات، وتفتيش المنازل وجمع واعتقال الشباب (قرية البيضة القريبة من بانياس نموذجاً- شريط الفيديو الشهير حيث يداس الشباب بالأقدام).
- قمع المتظاهرات بالنار، ومنع علاج الجرحى في المستشفيات، في حالات كثيرة (حدث ذلك في اللاذقية على سبيل المثال، حيث أقفل أحد مسؤولي مستشفى اللاذقية م. ب أبواب المستشفى في وجه المسعفين. كما حدث مساء الأحد 17/4/2011 أن اعتقل الأمن المتبرعين بالدم من أهالي حمص بعد ساعات على قتله أربعة محتجين وإصابة العشرات).
- فصل الطلاب المتظاهرين في الجامعات والاعتداء عليهم بالضرب (جامعة دمشق وحدها فصلت 75 طالباً، كما فصلت جامعة حلب أعداداً أخرى).
- اعتقال المعارضين وتعذيبهم (الكاتب فايز سارة مثلاً)، واعتقال وتعذيب أقربائهم، في حال تعذر الحصول عليهم. (على سبيل المثال لا الحصر: اعتقال معن مناع، شقيق الناشط الحقوقي هيثم مناع الموجود خارج سوريا).
4- قهر الرأي العام بدلاً من احتوائه
من أساليب الأنظمة القمعية في القرن الماضي؛ مصادمة الرأي العام وتيئيسه من محاولة التغيير، عبر بث مواد إعلامية وتنظيم ممارسات فوقية. هذا الأسلوب ما زال متبعاً في سوريا، رغم إقلاع معظم دول العالم عنه؛ بما فيها الدول القمعية نفسها. ومن دلائل تمسك القيادة السورية بهذا الأسلوب غير المجدي اليوم؛ إجبار مجموع من الشباب على السجود لتقبيل صور للرئيس بشار الأسد، وتذييل الصور بعبارة "مطرح ما بتدوس راح نركع ونبوس". ومنها أيضاً إجبار الناس على الخروج بمظاهرات مليونية تأييداً للنظام، ومعاقبة كل من يتخلف عن التنفيذ، بما في ذلك الفصل من الوظيفة الرسمية والخاصة (أُجبرت المدارس؛ معلمون وطلاباً، وكذلك موظفو المؤسسات الحكومية، وسائقو التاكسي، وغيرهم، على التوقيع على تعهدات خطية للمشاركة في المسيرات المؤيدة التي سبقت خطاب الرئيس بشار الأسد). ومنها أيضاً الاستخفاف بدماء الناس والتأخر في ظهور الرئيس للاعتذار عن سفكها، ورفض إطلاق صفة الشهداء على القتلى، بل الضحك والتهريج في حضرتهم، والحرص على تبكيت الشعب باعتبار التنازلات جزءاً مما قررته القيادة القطرية لحزب "البعث" وليس استجابة لمطالب الناس، واستدعاء الشخصيات العامة؛ من مفتين وعلماء وصحفيين وحلفاء، داخل سوريا وخارجها، لدعم "البروباغندا" الرسمية؛ بما يحرق هذه الشخصيات، ويزيد من غضب الناس على النظام.
إنه القدر الإلهي؛ أن يعمي الله على بصيرة من كان يـُظَنُ فيه الحذاقة إلى حد المكر... ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا﴾.
يعجب المراقب لدى متابعته يوميات الحراك السوري؛ مذ بدأ على شكل احتجاجات متفرقة وخجولة إلى أن تحوّل راهناً إلى ثورة تطالب بعض شعاراتها بـ"إسقاط النظام"، كيف أن النظام السوري، لم يستفد من تجارب ما حصل في تونس ومصر واليمن وليبيا... وكيف أنه لم يدرس وقائع "ثورة 25 يوليو"، على وجه التحديد، ليستنبط ما يفيده في الفرار من مصير مشابه لمصير نظام حسني مبارك. ليس ثمة تبرير منطقي سوى القول؛ إنها الحكمة الإلهية، التي تدفع الظالم إلى المكابرة وتدمير نفسه بيده، وهو يظن أنه ينقذها، تأكيداً لقدر الله الغالب، وسنته الكونية في الظالمين.
دروس لم يتعلمها النظام
في العادة؛ يهتم المحللون والمنظرون في الدول التي تبني رؤيتها المستقبلية على صناعة الفكر، من أجل دراسة الظواهر الكبرى في السياسة والاجتماع، ليصدروا بناءً على دراساتهم جملة من التوصيات والدروس المستفادة. في حالة "ثورة 25 يوليو" كان يجدر بالنظام السوري قبل أي نظام آخر أن يدرس ما جرى، ليكتشف سريعاً أنه معرض لخطر مشابه، وأن عليه أن يتعامل -في حال وقوع الخطر- على نحو مخالف لتعامل النظام المصري.
ما فعله النظام السوري كان العكس تماماً، إذ راح الرئيس بشار الأسد ينظّر في الحرية و"الديمقراطية" أمام صحيفة أمريكية ("وول ستريت جورنال" في 31/1/2011) وصولاً إلى قوله: "إذا لم تكن ترى الحاجة للإصلاح قبل ما جرى في مصر وتونس، فقد فاتك الوقت أن تقوم بأية إصلاحات"، نافياً ضمناً أنه هو نفسه معنيٌ بهذا الكلام، وأن احتمال أن يأتيه الدور في تجرع كأس تحطيم الشعوب حاجز الخوف احتمال وارد. كان ذلك قبل شهر ونصف فقط من تفجر "ثورة 15 آذار" في بلاده. وكان هذا الخطأ الذي فوّت عليه فرصة قتل الثورة قبل قيامها.
بدأت التحركات في سوريا بأعداد خجولة، وشعارات متواضعة... كان عودها طرياً إلى الدرجة التي سمحت للنظام بنكران وجودها، تماماً كما فعل النظام المصري يقوم قال رئيسه: "سيبهم يتسلوا"، لكن حاجز الخوف كان يتداعى شيئاً فشيئاً، والأعداد كانت تتزايد، والشعارات تتصاعد، فلم يعد النكران يجدي، ولم يعد القمع ينفع، فأقال الرئيس الحكومة، ووعد نائبه فاروق الشرع (ابن أكثر المحافظات اضطراباً؛ درعا) بخطاب "يُسعد كل السوريين" (تماماً كما فعل الرئيس المصري السابق حسني مبارك يوم أقال الحكومة وألقى خطابه الأول).
في 31/3/2011 أضاع الرئيس السوري، أمام مجلس الشعب، فرصة إعاقة الثورة من التقدم. كان بوسعه الاستفادة من أخطاء زميله اللدود حسني مبارك، بتقديمه جملة تنازلات كبرى؛ بما فيها إلغاء قانون الطوارئ، وإطلاق سراح السجناء السياسيين، والسماح بعودة المهجرين، وإطلاق الحريات الإعلامية... بقرارات يصدرها فوراً أمام المصفقين له، لكن أسباباً غير معلومة حتى الآن، جعلته يقدّم خطاباً لا جديد فيه، غير كونه دليلاً على تكلّس نظامه وجموده، ما أعطى الثورة الزخم الذي كانت تبحث عنه.
وفي محاولة من النظام لإعادة ترميم حاجز الخوف المتداعي؛ اعتمد في قمعه المتظاهرين -فضلاً عن عناصر الأمن- على الشبّيحة. وهؤلاء موجودون تاريخياً في سوريا، على شكل مجموعات يخضع كل منها إلى شخص مرتبط بالنظام يسمى "المعلم"؛ الذي يستقوي بجماعته، ويؤمن لهم بالمقابل الحماية. باختصار؛ الشبيحة في سوريا هم البلطجية في مصر. والدرس الذي لم يتعلمه النظام السوري أن بلطجية مصر سرّعوا من سقوط النظام، بدلاً أن يحفظوه، وأن بلطجية النظام اليمني أساؤوا لعبد الله صالح بدلاً من أن ينفعوه.
الحديث عن المؤامرة الخارجية لم يغب –إلى الآن- عن أدبيات النظام السوري، تماماً كما لم تغب عبارات "النيـْل من مصر ومكانتها"، عن خطابات الرئيس السابق حسني مبارك. الرئيس المصري كان عنده جيش من نواب الحزب الحاكم والمحللين السياسيين والمفتين والفنانين...الذين استخدمهم في المواجهة الإعلامية مع المحتجين، وقد زاد الرئيس السوري على هؤلاء كلهم كتيبة من الصفّيقة؛ تسمى "نواب الأمة"؛ رأى أحد المنتمين إليها أن الرئيس الأسد لا يستحق أن يكون "رئيس العرب فقط، بل يجب أن يكون رئيس العالم"!؛ وقد فرح الإعلام الرسمي السوري بهذه العبارة المسيئة لدور نواب الأمة، فنقلها وسجلها وكررها، ليؤكد أنه لم يتعلم من دروس السابقين شيئاً.
وصفُ المحتجين بالمندسين ألهب حماستهم، ومشاهد القمع حرّكت نخوتهم، و"فبركات" الإعلام الرسمي أنهاه لديهم، ومع كل حماقة كان يرتكبها النظام في سوريا كانت المطالب ترتفع، وصولاً إلى شعار "إسقاط النظام"، الذي لم يظهر في الأسبوعين الأولين من الاحتجاجات، تماماً كما كان هذا الشعار "خرافة" لدى المحتجين في مصر، قبل أن يسيطروا على ميدان التحرير!.
وهكذا يبدو؛ وكأن النظام يسير وراء حركة احتجاجية متصاعدة، بوعود إصلاحية أو حتى إصلاحات فعلية، لكن بوتيرة متباطئة، بحيث يأتي آخرها تلبية لمطالب تخطتها ساعة المحتجين، وهذا ما يمكن ينطبق على الكلمة الثانية للرئيس بشار الأسد أمام حكومته الجديدة، والتي رد عليها المحتجون بعد يوم واحد بمسيرات غضب؛ تعامل معها الأمن بغباء، فارتقى شهداء وأصيب جرحى... فكانت الدماء وقوداً إضافياً لقاطرة الثورة!.
لاحظ كيف تطورت الشعارات- من الخانة أسفل اليمين إلى الشعار أعلاه.
أساليب المواجهة ... متخلفة
فضلاً عن الدروس غير المستفادة؛ يعتمد النظام السوري اليوم على أساليب متخلفة (بالمفهوم الزمني) لمواجهة التحدي المصيري الذي يواجهه، ومن هذه الأساليب:
1- قمع الحريات الإعلامية:
حيث تُمنع وسائل الإعلام الأجنبية من العمل، ويقيد كلام مراسليها، إلى الدرجة التي دفعت "الجزيرة" و"العربية" و"بي بي سي" العربية إلى الاستغناء عن خدمات مراسليها مؤقتاً، تفهماً لظروفهم، وحتى لا تقع المحطة ضحية التضليل الإعلامي. كما حجب النظام مواقع إلكترونية عديدة، وفرض رقابة على الصحف الأجنبية، في الوقت الذي يستمر فيه إعلامه الرسمي في تجاهل الحقائق، وبث دعاية النظام، وتنفيذ "الفبركات" لصالحه (تصوير مطلقي النار في درعا على أنهم مندسون! على سبيل المثال). هذا النمط من التعاطي مع الإعلام، إن كان ينفع في الماضي، فإنه لم يعد كذلك اليوم، فقد مكنت "الثورة التكنولوجية" المحتجين أن يصيروا مصورين، وخوّلت الفضائيات شهود العيان أن يتحوّلوا مراسلين، وسمحت مواقع الانترنت للناشطين أن يصبحوا ناشرين، وبات حصيلة عمل هؤلاء أكثر مصداقية من الإعلام الرسمي لدى العالم أجمع، لسبب وجيه؛ هو أنه لو لم يكن لدى النظام ما يخفيه، لما قيّد الحريات الإعلامية، وتالياً فقد أعطى أداء النظام المصداقية للمحتجين؛ ولو بالغوا في وصف ما يجري، وبذلك يكون تخلّف النظام قد تفوّق على نظرائه في مصر واليمن، وحتى في ليبيا؛ إذ انتبه سيف الإسلام القذافي مبكراً إلى هذا الخطأ فسمح للإعلام الأجنبي أن يدخل طرابلس، ولو أن حركته ظلت مقيدة. (من الممارسات العجيبة أن الأمن السوري اقتحم في 2/3/2011 البيوت المطلّة على ساحة كفرسوسة, لمصادرة الهواتف الجوالة، منعاً للتصوير!).
2- بث أشرطة الاعترافات:
يعتبر أسلوب بث ما يسمى بـ "الاعترافات المتلفزة"؛ أحد أكثر الأساليب المعتمدة تخلفاً، لمناقضته حقوق الإنسان من جهة، ولعجزه عن مواكبة التطور في المفاهيم الإعلامية من جهة أخرى، وهذا ما يفسر "البرودة" التي تتعامل فيها الفضائيات ذات المهنية مع هذه الأشرطة، حتى أنه يمكن القول إن مجرد إنتاج هذه الأفلام من قبل نظام ما، يعتبر حجة عليه، لا له. يضاف إلى ذلك، أنه في المرات السابقة كان يلجأ النظام السوري إلى مثل هذا الأسلوب في مواجهة خصم خارجي (السعودية، الأردن، قوى 14 آذار في لبنان...)، لكنه هذه المرة يعتمد هذا الأسلوب في مواجهة شعبه، لإقناعه أن مؤامرة خارجية تحاك ضده، في الوقت الذي يرى فيه الناس ويسمعون مع يجري عندهم، وهم رأوا بأم العين كيف أجبر نظامهم مواطناً مصرياً على الاعتراف على التلفزيون الرسمي السوري بأنه عميل إسرائيلي (المهندس المصري محمد أبو بكر رضوان)، ثم رأوا بعد أيام كيف خرج الرجل –بضغط من بلاده- وتحدث كيف أُجبر على قول ذلك. (حصل ما يشبه هذا الأمر مع امرأة تقدمت سيارة الرئيس الأسد للاحتجاج على اعتقال ابنها يوم ألقى الرئيس خطابة أمام البرلمان، ما اضطر التلفزيون الرسمي إلى قطع البث، ثم أجبرت المرأة على الظهور على الإعلام لتقول إنها كانت تتقدم من السيارة بقصد تحية الرئيس!).
3- تنفيذ القوانين العسكرية في مواجهة الشعب
تتزايد الأنباء المؤكدة، يوماً بعد يوم، عن وجود حالات اعتقال مجندين وعسكريين أو إعدامهم لرفضهم تنفيذ الأوامر العسكرية، القاضية بإطلاق النار على المتظاهرين، كما يتزايد عدد الشهداء من القوات العسكرية ممن يقتلون برصاص الشبيحة، مثلهم مثل المحتجين، بقصد الترويج لوجود مندسين، وإقناع الناس بوجود مؤامرة على دولة "المقاومة والممانعة" سوريا. بمعنى آخر؛ فإن النظام السوري يتعامل مع شعبه، وكأنه عدو يفترض بالجندي أن يلتزم بالأوامر تجاهه، تحت طائلة تنفذ القوانين العسكرية، التي تجيز القتل عند رفض تنفيذ الأمر. وتخلف هذا الأسلوب ليس في كونه منافياً للعدالة فقط، بل في أنه يستعمل الجيش في مواجهة المحتجين، والنار في محاولة قمعهم، وهذا أسلوب لم يعد موجوداً إلا في الأنظمة القمعية المتخلفة؛ وقد ثبت أنه يزيد من نار الثورة بدلاً من إخمادها. (على سبيل المثال لا الحصر؛ قُتل في بانياس جنود سوريون ينتمون عشائر الرقة ودير الزور لرفضهم إطلاق النار على المتظاهرين. كما شيع أهالي درعا الأحد 17/4/2011 شهيداً عُذِّب حتى الموت لرفضه قتل شعبه). ولعل من أدلة تعامل النظام مع المحتجين على أنهم أعداء: صورة لأحد الذين تعرضوا للتعذيب
- أخذ جثث الشهداء ومفاوضة الأهالي في حالات كثير على تسليمها، واعتقال الجرحى (يمكن ملاحظة عبارة تسليم عدد من الجرحى أو الجثث على وسائل الإعلام-في بانياس مثلاً).
- حصار المدن وتقسيمها إلى قطاعات، وتفتيش المنازل وجمع واعتقال الشباب (قرية البيضة القريبة من بانياس نموذجاً- شريط الفيديو الشهير حيث يداس الشباب بالأقدام).
- قمع المتظاهرات بالنار، ومنع علاج الجرحى في المستشفيات، في حالات كثيرة (حدث ذلك في اللاذقية على سبيل المثال، حيث أقفل أحد مسؤولي مستشفى اللاذقية م. ب أبواب المستشفى في وجه المسعفين. كما حدث مساء الأحد 17/4/2011 أن اعتقل الأمن المتبرعين بالدم من أهالي حمص بعد ساعات على قتله أربعة محتجين وإصابة العشرات).
- فصل الطلاب المتظاهرين في الجامعات والاعتداء عليهم بالضرب (جامعة دمشق وحدها فصلت 75 طالباً، كما فصلت جامعة حلب أعداداً أخرى).
- اعتقال المعارضين وتعذيبهم (الكاتب فايز سارة مثلاً)، واعتقال وتعذيب أقربائهم، في حال تعذر الحصول عليهم. (على سبيل المثال لا الحصر: اعتقال معن مناع، شقيق الناشط الحقوقي هيثم مناع الموجود خارج سوريا).
4- قهر الرأي العام بدلاً من احتوائه
من أساليب الأنظمة القمعية في القرن الماضي؛ مصادمة الرأي العام وتيئيسه من محاولة التغيير، عبر بث مواد إعلامية وتنظيم ممارسات فوقية. هذا الأسلوب ما زال متبعاً في سوريا، رغم إقلاع معظم دول العالم عنه؛ بما فيها الدول القمعية نفسها. ومن دلائل تمسك القيادة السورية بهذا الأسلوب غير المجدي اليوم؛ إجبار مجموع من الشباب على السجود لتقبيل صور للرئيس بشار الأسد، وتذييل الصور بعبارة "مطرح ما بتدوس راح نركع ونبوس". ومنها أيضاً إجبار الناس على الخروج بمظاهرات مليونية تأييداً للنظام، ومعاقبة كل من يتخلف عن التنفيذ، بما في ذلك الفصل من الوظيفة الرسمية والخاصة (أُجبرت المدارس؛ معلمون وطلاباً، وكذلك موظفو المؤسسات الحكومية، وسائقو التاكسي، وغيرهم، على التوقيع على تعهدات خطية للمشاركة في المسيرات المؤيدة التي سبقت خطاب الرئيس بشار الأسد). ومنها أيضاً الاستخفاف بدماء الناس والتأخر في ظهور الرئيس للاعتذار عن سفكها، ورفض إطلاق صفة الشهداء على القتلى، بل الضحك والتهريج في حضرتهم، والحرص على تبكيت الشعب باعتبار التنازلات جزءاً مما قررته القيادة القطرية لحزب "البعث" وليس استجابة لمطالب الناس، واستدعاء الشخصيات العامة؛ من مفتين وعلماء وصحفيين وحلفاء، داخل سوريا وخارجها، لدعم "البروباغندا" الرسمية؛ بما يحرق هذه الشخصيات، ويزيد من غضب الناس على النظام.
إنه القدر الإلهي؛ أن يعمي الله على بصيرة من كان يـُظَنُ فيه الحذاقة إلى حد المكر... ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا﴾.