الثورة السورية استولت على "عامل الوقت" بعد أن كان لأسابيع خلت في يد النظام
المستقبل - الاثنين 25 تموز 2011 - العدد 4066 -
وسام سعادة
المؤكّد
في سوريا أمر واحد: انتهت في 15 آذار 2011 مرحلة التمديد القسري للرئيس
الراحل حافظ الأسد بعد انقضاء احد عشر عاماً على وفاته.
لا يعني ذلك
أنّ الرئيس بشار الأسد لم يكن منذ توليّه المنصب الأول في الدولة السورية
وإلى اليوم الآمر الناهي من أعلى مستويات النظام. على العكس تماماً، كان
منذ توليته مهندس كافة السياسات الأساسية، وبالتحديد الأمنية، التي اتبعها
النظام في المسألتين اللبنانية والعراقية، وهو اليوم المهندس الأول لـ"الحل
الأمني التشبيحي الدموي" على مرأى ومسمع وشجب ورياء العالم أجمع.
كما
لا يعني ذلك أبداً أن الأسد الإبن نجح بـ"استمراريته البيولوجية" على جعل
وفاة أبيه كأنها لم تكن. فخطابياته وسياساته أشبه ما تكون إلى مزيج من
بعثين، البعث اليسارويّ المغامر لمرحلة ما قبل الحركة التصحيحية، والبعث
التصحيحيّ الواقعيّ لمرحلة ما بعد الحركة التصحيحية، أي البعث الذي توسّل
"الإنقلاب الأبديّ" في تشرين الثاني عام 1970 لوضع حدّ لـ"الفوضى
الإنقلابية".
إنّما يعني ما نقوله أنّ الأسد الإبن ما استطاع أن يؤمّن
من أسباب الشرعية ما كان يقيمه الأسد الأب في مقام الشرعية، وإنّما بقي احد
عشر عاماً يصرف من رصيد أبيه، وهيبة أبيه، مثلما بقي احد عشر عاماً إذا
وقع في مشكلة أو واجهته عقبة حمّلها لإرث أبيه، وما كان يحيط بأبيه. كان
الآمر الناهي في كل شيء تقريباً منذ توليّه المنصب إلا أنّ "الرئاسة من
وراء القبر" المعقودة لأبيه بقيت الوصية والمسعفة للرئاسة المنتقلة إليه
بالوراثة.
لكن انفجار الإنتفاضة الشعبية كانت كفيلة وبمجرّد انطلاقة
شرارتها، أي نجاح "انتقال عدوى الربيع العربي" إلى سوريا، بأن تعلم الأسد
الإبن بأنّ الرئاسة من وراء القبر قد ولّت. كانت هذه بالتحديد "رسالة
درعا". وكانت هناك شروط وحظوظ لأن ينقذ الأسد الإبن "حقّه" في البحث عن
شرعية بديلة لو أنّه طرح نفسه كـ"رئيس فوق النظام"، أي فوق البعث والدستور
في آن. إلا أنّ الأسد الإبن قرّر الإحتكام إلى الدروس العملية التي اكتسبها
في المسألتين العراقية واللبنانية وعمد إلى نقيض ذلك، وبدلاً من أن يضرب
المنتفضين ضدّه بيمنى ويعاجل الإنكشاريين حوله بيسرى، قرّر أن تكون
"معمودية النار" في اتجاه واحد فقط.
فقد حسبها الإبن على ما يبدو بالشكل
التالي: معمّر القذافي كان يمكنه أن يدخل بنغازي ويذبحها عن بكرة أبيها لو
أنّ "حلف شمال الأطلسي" لم يتدخّل، وفي سوريا فإنّ هذا الحلف لا يتدخل،
والغرب منشغل أساساً في ليبيا حتى إشعار آخر، إذاً يمكنه الاعتماد على
احتكار النظام الفئوي الشمولي للعبة العنف الأساسية، ويمكنه التعويل أيضاً
على "رُهاب الإسلام" أو الإسلاموفوبيا لجعل الغرب متردّداً في دعم ثورة
يشغل الراديكاليون الإسلاميون حيّزاً رئيسياً فيها.
هكذا كانت فحوى ردّ
النظام على مرحلة "رسالة درعا" في الثورة السورية. وطمأن النظام نفسه أنّه
ما دام مسيطراً على "العاصمتين"، أي حلب ودمشق، فإنّ معالجة "المدن
الطرفية" تبقى في المتناول. أي أن النظام طمأن نفسه إلى أنه لن تكون هناك
بنغازي سورية.
إلا أنّ "رسالة حماة" التي جعلت من الثورة السورية ثورة
شاملة بكل ما للكلمة من معنى، وفي صدارة ربيع الشعوب العربية، بل محور
ثورية هذا الربيع، جاءت مدوية. حماة ليست بنغازي، لكنها بمعنى من المعاني
"مدينة عاصية" كالنهر الذي نشأت على ضفافه، أو "مدينة محرّرة"، وشيئاً بعد
شيء صار هناك أكثر من مدينة تكاد تشبه وضع مدينة غزّة قبل الإنسحاب الأحادي
الإسرائيلي منها، ولم يعد النظام يجد معجماً يستقي منه مصطلحاته غير ذاك
المعجم الذي يصف الثائرين على أنّهم "مخرّبون"، وأخذ يتعامل مع نفسه كما لو
كان نظام احتلال وتوغّل واستيطان.
لا يعني ذلك أنّ "الرسالة الحموية"
حاسمة، وإن كانت رسالة فاصلة. فالأمور ذاهبة إلى مرحلة غير قصيرة من
الاستنزاف المتبادل بين الثورة الشعبية السلمية في أعمّها الغالب، وبين
النظام الدمويّ في أكثر ما يقوم به، ورياضياً يظهر أن عدد المتظاهرين انتقل
من التكاثر على أساس "متوالية حسابية" إلى التكاثر على أساس "متوالية
هندسية": فنسبة التكاثر كانت ثابتة من أسبوع إلى أسبوع، والآن فإن النسبة
نفسها تتضاعف.
وجاءت ثنائية "حماة دير الزور" في الأسبوعين الأخيرين
لتعزز هذا الإتجاه، إلا أنّ الحلقة ستبقى مفقودة حتى إشعار آخر بين اتساع
رقعة الثورة الشعبية وبين المتغيّر الذي على أساسه يسقط النظام.
فالمعارضة
السورية تلجأ نوعاً ما إلى انتظار انتفاضة الطبقة الوسطى الدمشقية
والحلبية على غرار انتفاضة "البازار" التي حسمت الأمور لصالح الثورة
الإيرانية، إلا أنّ الأمور أكثر تعقيداً من هذه الناحية في سوريا، خصوصاً
وأنّ علامة ضعف أساسية تصيب الثورة السورية مثل كل ثورات الربيع العربي
الأخرى، وهو عدم وجود قيادة كاريزمية. لا شكّ أن رفض الحكم الفردي
الإستبدادي يفسّر هذه الظاهرة، لكنّ ثورات شرق أوروبا نفسها لم تكن ممكنة
لولا تميّز قيادات كاريزمية ووقوفها في الصف الأمامي.
وهذا لا يعني
أبداً أن الأمور يمكنها أن تعود ولو جزئياً إلى الوراء، انما يعني بأنّ
الأمور قد تأخذ وقتاً وكلفة أكثر مما يطمح اليه المتفائلون. إنما الاستشراف
الأكثر وضوحاً يحتاج إلى انتظار "الرسالة الرمضانية" التي ستوجهها الثورة
للنظام، وكذلك "الرسالة الدولية" التي لا تنضج حقاً الا بعد ان يتمّ الحسم
في طرابلس الغرب، وهذا الحسم صار على باب قوسين أو أدنى.
انه صيف
الاستنزاف اذاً بين النظام والثورة في سوريا. هذا مع فارق أساسيّ: قبل حماة
كان من مصلحة النظام التعويل على إطالة الأزمة بحيث ينقذ نفسه، أما بعد
حماة ودير الزور، فإنّ "عامل الوقت" صار وبشكل تام في مصلحة الثوار،
والثورة التي تستولي على عامل الوقت يمكنها أن تجعل الخريف المقبل ربيعاً،
لكل العرب.
المؤكّد
في سوريا أمر واحد: انتهت في 15 آذار 2011 مرحلة التمديد القسري للرئيس
الراحل حافظ الأسد بعد انقضاء احد عشر عاماً على وفاته.
لا يعني ذلك
أنّ الرئيس بشار الأسد لم يكن منذ توليّه المنصب الأول في الدولة السورية
وإلى اليوم الآمر الناهي من أعلى مستويات النظام. على العكس تماماً، كان
منذ توليته مهندس كافة السياسات الأساسية، وبالتحديد الأمنية، التي اتبعها
النظام في المسألتين اللبنانية والعراقية، وهو اليوم المهندس الأول لـ"الحل
الأمني التشبيحي الدموي" على مرأى ومسمع وشجب ورياء العالم أجمع.
كما
لا يعني ذلك أبداً أن الأسد الإبن نجح بـ"استمراريته البيولوجية" على جعل
وفاة أبيه كأنها لم تكن. فخطابياته وسياساته أشبه ما تكون إلى مزيج من
بعثين، البعث اليسارويّ المغامر لمرحلة ما قبل الحركة التصحيحية، والبعث
التصحيحيّ الواقعيّ لمرحلة ما بعد الحركة التصحيحية، أي البعث الذي توسّل
"الإنقلاب الأبديّ" في تشرين الثاني عام 1970 لوضع حدّ لـ"الفوضى
الإنقلابية".
إنّما يعني ما نقوله أنّ الأسد الإبن ما استطاع أن يؤمّن
من أسباب الشرعية ما كان يقيمه الأسد الأب في مقام الشرعية، وإنّما بقي احد
عشر عاماً يصرف من رصيد أبيه، وهيبة أبيه، مثلما بقي احد عشر عاماً إذا
وقع في مشكلة أو واجهته عقبة حمّلها لإرث أبيه، وما كان يحيط بأبيه. كان
الآمر الناهي في كل شيء تقريباً منذ توليّه المنصب إلا أنّ "الرئاسة من
وراء القبر" المعقودة لأبيه بقيت الوصية والمسعفة للرئاسة المنتقلة إليه
بالوراثة.
لكن انفجار الإنتفاضة الشعبية كانت كفيلة وبمجرّد انطلاقة
شرارتها، أي نجاح "انتقال عدوى الربيع العربي" إلى سوريا، بأن تعلم الأسد
الإبن بأنّ الرئاسة من وراء القبر قد ولّت. كانت هذه بالتحديد "رسالة
درعا". وكانت هناك شروط وحظوظ لأن ينقذ الأسد الإبن "حقّه" في البحث عن
شرعية بديلة لو أنّه طرح نفسه كـ"رئيس فوق النظام"، أي فوق البعث والدستور
في آن. إلا أنّ الأسد الإبن قرّر الإحتكام إلى الدروس العملية التي اكتسبها
في المسألتين العراقية واللبنانية وعمد إلى نقيض ذلك، وبدلاً من أن يضرب
المنتفضين ضدّه بيمنى ويعاجل الإنكشاريين حوله بيسرى، قرّر أن تكون
"معمودية النار" في اتجاه واحد فقط.
فقد حسبها الإبن على ما يبدو بالشكل
التالي: معمّر القذافي كان يمكنه أن يدخل بنغازي ويذبحها عن بكرة أبيها لو
أنّ "حلف شمال الأطلسي" لم يتدخّل، وفي سوريا فإنّ هذا الحلف لا يتدخل،
والغرب منشغل أساساً في ليبيا حتى إشعار آخر، إذاً يمكنه الاعتماد على
احتكار النظام الفئوي الشمولي للعبة العنف الأساسية، ويمكنه التعويل أيضاً
على "رُهاب الإسلام" أو الإسلاموفوبيا لجعل الغرب متردّداً في دعم ثورة
يشغل الراديكاليون الإسلاميون حيّزاً رئيسياً فيها.
هكذا كانت فحوى ردّ
النظام على مرحلة "رسالة درعا" في الثورة السورية. وطمأن النظام نفسه أنّه
ما دام مسيطراً على "العاصمتين"، أي حلب ودمشق، فإنّ معالجة "المدن
الطرفية" تبقى في المتناول. أي أن النظام طمأن نفسه إلى أنه لن تكون هناك
بنغازي سورية.
إلا أنّ "رسالة حماة" التي جعلت من الثورة السورية ثورة
شاملة بكل ما للكلمة من معنى، وفي صدارة ربيع الشعوب العربية، بل محور
ثورية هذا الربيع، جاءت مدوية. حماة ليست بنغازي، لكنها بمعنى من المعاني
"مدينة عاصية" كالنهر الذي نشأت على ضفافه، أو "مدينة محرّرة"، وشيئاً بعد
شيء صار هناك أكثر من مدينة تكاد تشبه وضع مدينة غزّة قبل الإنسحاب الأحادي
الإسرائيلي منها، ولم يعد النظام يجد معجماً يستقي منه مصطلحاته غير ذاك
المعجم الذي يصف الثائرين على أنّهم "مخرّبون"، وأخذ يتعامل مع نفسه كما لو
كان نظام احتلال وتوغّل واستيطان.
لا يعني ذلك أنّ "الرسالة الحموية"
حاسمة، وإن كانت رسالة فاصلة. فالأمور ذاهبة إلى مرحلة غير قصيرة من
الاستنزاف المتبادل بين الثورة الشعبية السلمية في أعمّها الغالب، وبين
النظام الدمويّ في أكثر ما يقوم به، ورياضياً يظهر أن عدد المتظاهرين انتقل
من التكاثر على أساس "متوالية حسابية" إلى التكاثر على أساس "متوالية
هندسية": فنسبة التكاثر كانت ثابتة من أسبوع إلى أسبوع، والآن فإن النسبة
نفسها تتضاعف.
وجاءت ثنائية "حماة دير الزور" في الأسبوعين الأخيرين
لتعزز هذا الإتجاه، إلا أنّ الحلقة ستبقى مفقودة حتى إشعار آخر بين اتساع
رقعة الثورة الشعبية وبين المتغيّر الذي على أساسه يسقط النظام.
فالمعارضة
السورية تلجأ نوعاً ما إلى انتظار انتفاضة الطبقة الوسطى الدمشقية
والحلبية على غرار انتفاضة "البازار" التي حسمت الأمور لصالح الثورة
الإيرانية، إلا أنّ الأمور أكثر تعقيداً من هذه الناحية في سوريا، خصوصاً
وأنّ علامة ضعف أساسية تصيب الثورة السورية مثل كل ثورات الربيع العربي
الأخرى، وهو عدم وجود قيادة كاريزمية. لا شكّ أن رفض الحكم الفردي
الإستبدادي يفسّر هذه الظاهرة، لكنّ ثورات شرق أوروبا نفسها لم تكن ممكنة
لولا تميّز قيادات كاريزمية ووقوفها في الصف الأمامي.
وهذا لا يعني
أبداً أن الأمور يمكنها أن تعود ولو جزئياً إلى الوراء، انما يعني بأنّ
الأمور قد تأخذ وقتاً وكلفة أكثر مما يطمح اليه المتفائلون. إنما الاستشراف
الأكثر وضوحاً يحتاج إلى انتظار "الرسالة الرمضانية" التي ستوجهها الثورة
للنظام، وكذلك "الرسالة الدولية" التي لا تنضج حقاً الا بعد ان يتمّ الحسم
في طرابلس الغرب، وهذا الحسم صار على باب قوسين أو أدنى.
انه صيف
الاستنزاف اذاً بين النظام والثورة في سوريا. هذا مع فارق أساسيّ: قبل حماة
كان من مصلحة النظام التعويل على إطالة الأزمة بحيث ينقذ نفسه، أما بعد
حماة ودير الزور، فإنّ "عامل الوقت" صار وبشكل تام في مصلحة الثوار،
والثورة التي تستولي على عامل الوقت يمكنها أن تجعل الخريف المقبل ربيعاً،
لكل العرب.