قصة الشهيد .. عبد الخالق
1 / 5 / 2017
منقولة -
كي لا ننسى .. الى جماعة كنا عايشين ..
==============
على حافة الموت كنا ستة عشر.
على حافة الموت كنا ستة عشر.
وفي الزنزانة التاسعة عشرة في مطار المزة العسكري فرع المخابرات الجوية كانت ملامح عبد الخالق حين عاد سليماً من التحقيق على غير عادته توحي أن دماً سورياً جديداً سيسفك تلك الليلة.
ولأن الزنزانة كانت بالأصل زنزانة فردية كان نصفنا يقفُ بينما يجلس النصف الآخر لكي نستريح قليلاً .
وما إن التقت عيناي بعيني عبد الخالق حتى ألصق وجهه بالجدار كأنه يختبئ فيه .وآخر ما أردته في حياتي أن تكون نهاية عبد الخالق تحت الجادر ..!!
ولاح لي هول فقدان عبد الخالق ذاك الشابُ الحمصيُ النبيل .فرغم كل قطع اللحم التي أخذوها من جسده كان يتحداهم بما تبقى منه . لا ينهار تحت التعذيب . تشعر بمجرد أن تقف أمامه أنكَ تعاين رجلاً حقيقياً و سورياً أصيلاً و شجاعاً لا يخاف الموت .
حين اقتربت منه بما فيه الكفاية لأهمس له عبد الخالق ماذا بك لم لا تتكلم ماذا فعلوا بك ماذا قالوا لك .!!
رد عليّ بفيضٍ من دموع كَسرت أحداقه وسالت على وجهه ولحيتهِ الشقراء التي تُخبئ خلفها أشهراً طويلةً قضاها هناك قبلي وعمراً لم يتجاوز الثامنة والعشرين . واختنق ببكاءه وغصَّ وهو يقول :
خيي وائل قالولي ((( عالجادر ))).
ونظر إليّ . فشعرت أنه اخترق قلبي كأنه يعاتبني فمنذ وصولي وأنا أردد عليه أننا سنخرج يوماً من هناك وأننا سنتظاهر من جديد وأننا لن نموت هناكَ أبداً وأن من هم في الخارج لم ينسونا أبداً .!!
لكني بعد أن عرفت أنهم سيضعونه تحت الجادر تجمدت بمكاني وتوقف الزمن الذي كنا نعد ثوانية ننتظر الخلاص موتاً سريعاً أو حريةً بعيدة ولم َننَل سوى الوحدة والنسيان والموت الأحمر هناك حيث كان يقبع رجالٌ سوريين كأوطانٍ بأكملها لكنهم دون أسماء لا يعرفهم أحد أبداً رحلوا بصمت مهيب .
صمت يشبه كبرياء الشهيد حين يسقطُ مضطرجاً بإيمانه ويغمر جبينهُ التراب وهو بذاتِ اللحظة يعانقُ السماء لأنه قدم روحه وهل بعد الروح شيء .
و كم هو الفرق بين أن تقرأ المأساة وبين أن تكون فيها . وأن تكتب الفاجعة وأن تمر منها .
(( الجادر )) هو اسم يعرفه السوريون لقماش سميك يصنعون منه الخيام وأغطية السيارات الكبيرة فهو قوي لا ينفذ منه الماء ولا يتمزق بسهولة .
وحين ابتدع المسوخ تلك الطريقة في القتل طبقوها علينا عشرات المرات .
حيث كان يؤتى بالمعتقل عارياً ومعصوب العينين يفكون له يديه ورجليه من الأغلال يرمونه على الأرض ليستلقي في وسط الغرفة ثم يغطونه بالجادر ويربطون أطراف الجادر بزوايا الغرفة فتصبح ارض الغرفة كلها مغطاة بالجادر والمعتقل تحته .
ثم يبدأون بضربه بكل شيء من حديد . القضبان الحديدة والمطارق والبواري وأنابيت التمديدات الصحية وبعضهم كان يأتي بأحجار والهدف من ذلك كان شيئين :
الأول : أن الجادر يمنع رشقات الدم التي تنفر من أجساد المعتقلين التي تكون بالأصل مهترئة ومملوءة بالقيح تحت جحيم ضرباتهم أن تصل إليهم .
والثاني : أنهم يتنافسون فيما بينهم ليروا من هو الأقوى بينهم بالضرب بحيث يجعل المعتقل يرسم أشكالاً غريبة تحت الجادر كأنه يمثل . بينما صوته يتحول لعويل في ذاكـ القبر الأخير .
وكلما دفعَ الألم المعتقل أن يهرب باتجاه ما تجمعوا له بذات الاتجاه ليمطروه بالضربات التي تكسّر المُكَسرْ من عظامه أضعافاً مضاعفة
فيقع عليه بذات اللحظة قَضيبٌ من حديد يكسرُ أضلاعه وحجرةً كبيرة تُفتتُ ركبتيهِ ومطرقة يدقُ بها أحدُ المسوخِ وجهه ليكسرَ بها أحد محاجر عينيه ، والمعتقل يصرخ ، ويتقلب بينهم ، وهم يضحكون ويمرحون ..
فيقع عليه بذات اللحظة قَضيبٌ من حديد يكسرُ أضلاعه وحجرةً كبيرة تُفتتُ ركبتيهِ ومطرقة يدقُ بها أحدُ المسوخِ وجهه ليكسرَ بها أحد محاجر عينيه ، والمعتقل يصرخ ، ويتقلب بينهم ، وهم يضحكون ويمرحون ..
ومشان السيد الرئيس خود هي يا خاين .!!
ولماذا يحضر فيهم الرئيس ويغيب الوطن . ولماذا يغيب فينا الشخص ويحضر الوطن .
ولماذا مددنا نحو الحرية جسوراً صنعناها من لحومنا ودماءنا . بينما حفروا هم خنادق حول رئيسهم المعتوه كي يعبدوه إلى الأبد .!!
وليجعلوا تحت الجادر من الأمتار القليلة التي هي مكان تحرك المعتقل بقعة من العذاب لا يمكن أن تصفها كل لغات أهل الأرض لو اتحدت معاً ولا يليق أمامها سوى الصمت فقط .
إن قيمة الأوطان ليست بما تملكـ . بل بما تنجب من أبنائها الذين يخطون اسمها على صفحات التاريخ بالتضحيات ..
وإن قيمة الإنسان ليست بما يحوز بل بمدى إيمانه بقضيته التي يقدم لها روحه وهو يبتسم . وأي قضية أطهر من وطنكَـ لتؤمن به .
ومن أكثر منا نحن السوريين فعل ذلكـ ...
ومن أكثر منا نحن السوريين فعل ذلكـ ...
بعد أقل من ساعة استدعونا للتحقيق وكنا ستة عشر مكبلين بسلسلة واحدة . ضغطت علي يدِ عبد الخالق فاسمه لم يأتي معنا وعرفتُ مصيره ورأيت ذاك بعينيه تركوه في زنزانتنا ليلتهموه وحيداً .
افترقت يداي من يديه بعد أن خرجت مع باقي المعتقلين لأتركه خلفي . لكنه لا يزال أمامي حتى أموت .
الخامسة صباحاً حين عُدنا من قسم التحقيق كُنت مَملوءاً بأمل أن تكون معجزة حصلت وأجد عبد الخالق حياً . لكن الأمل بدأ يتبدد رويداً رويداً حين بدا لي الجادر وعليه جسده الغض الجميل .
عبد الخالق كان ممحيّ الملامح تماماً وجههُ كان قطعةً مهروسة من اللحم الممزوج بقطع الدم قلعوا عيناه واختلط ماء بصره بالدموع التي ذرفها قبل الموت .
ويداه مكسورتان وأضلاعه بعضها ظاهر بعد أن كشطوا لحم صدره كله .ورُكَبُ رجليهِ شقت لحمه وخرجت تنادي عليكم أيها السوريين أو على ما تبقى منكم .
ومرت أمامي كل الثواني التي مضت مع عبد الخالق ذاك الجبل السوري الشامخ كان يقول لي وائل الزهراوي من عنا من حمص .. مانك من حلب .!!
وكنت أقول له أنت ملامحك أوربيه لست عربيا . فكان يغضب ويقول أنا عربي وسوري وحق هدول ويشير إلى حفر ذراعه التي يظهر منها عظامه من آثار التعذيب . ثم يبتسم طويلاً . ويحدق في سقف زنزانتنا
وقعتُ من عظيم مُصابي بعبد الخالق على ركبتيّ حين رأيته . لكن كبل الدبابة على ظهري أقامني من جديد .
وقعتُ من عظيم مُصابي بعبد الخالق على ركبتيّ حين رأيته . لكن كبل الدبابة على ظهري أقامني من جديد .
وكم من عبد الخالق مضى لأجل الوطن ولم يَكتب عنه أحد ولم يعرف عنه أحد .وكم من سوري مضى شامخاً إلى مصيره بصمت وهدوء دون كل هذه الضوضاء .
بقي عبد الخالق يوماً كاملاً هناكـ قبل أن يحملوا جسده الطاهر إلى المجهول .