مروان شيخو : أمام جثة حافظ الأسد: لماذا أنت لا تتكلم، هل أنت ميّت حقاً .؟ 
بقلم : ماهر شرف الدين
==========
" لحظة وفاة الدكتاتور" أعيد نشره كل سنة في مثل هذا اليوم الذي رحل فيه صانع الخراب الكبير حافظ الأسد ...

من على شاشة التلفزيون السوري قرأ المذيع الدينيّ مروان شيخو نبأ وفاة حافظ الأسد وهو يحرص على إظهار ارتعاش جسمه من خلال ارتعاش الورقة التي أبرزها أمام الشاشة بشكل واضح ومقصود. ولو قُيِّض لشخص، لا يعرف من هو مروان شيخو هذا، أن يرى يومئذ مشهد الارتعاش على الشاشة لتساءل السؤال المنطقي الآتي: هل سبب تلك الرعشة النفاق أم الخوف؟
بالطبع نحن لم نتساءل عن السبب، ليس لأننا نعرف، بل لأن المسألة باتت بديهية في سوريا ولا تحتاج سؤالاً.
كان مروان شيخو يتوقف بين جملة وأخرى وكأنه على وشك الانهيار في نوبة بكاء، وهذا ما فعله – إنما بإتقان أكبر – الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي حين صلَّى على الجثمان نواحاً في «مسجد ناعسة» البالغ الفخامة والذي بناه حافظ الأسد تكريماً لذكرى والدته من «ماله الخاص» كما كان يردِّد الإعلام الرسمي باستمرار؛ الإعلام ذاته الذي كان يقول إن الأسد ولد في أسرة فقيرة!
شكّل مروان شيخو جزءاً إجبارياً من ذاكرة السوريين بسبب برنامجه الديني الأسبوعي كل يوم جمعة، والذي كان يتفنَّن فيه بإيجاد الذرائع للحديث عن الرئيس، وهو على كل حال مَن استكمل دزينة ألقاب الأسد حين أضاف إليها لقب «المؤمن الأول».
لكن ذلك اليوم، يوم وفاة الدكتاتور، كان يوم مروان شيخو بلا منازع. فقد نعى شيخو الأسدَ على الملأ، ثم رافق الجثمان إلى المسجد، ثم قرأ كلمة مطوّلة نطق خلالها بجملة فذّة يمكن لعلماء النفس المختصّين بدراسة المجتمعات التي ترزح تحت الدكتاتورية أن يؤلفوا حولها كتاباً كاملاً.
فبعدما صرخ ضمن السيناريو المعروف: «كلنا الدكتور بشار، كلنا الرائد ماهر، كلنا الأستاذ مجد، كلنا إخوة للسيدة الدكتورة بشرى، وكلنا أبناء تلك الفاضلة السيدة الأولى…»، وبعدما تحدَّث عن الجماهير التي خرجت «بصورة عفوية» وهي «تذرف الدموع حزينةً، وفي الوقت نفسه تبايعك (لبشار) وتلتفّ حولك بعفوية»… إلخ، بعدما قال ذلك كلّه، توقف مروان شيخو عن الكلام، ثم قال الجملة الأولى الصادقة في خطابه ذاك: نظر إلى التابوت الذي أمامه وقال مخاطباً الطاغية الميت: «لماذا لا تتكلم… أنت تسمعني الآن».
لقد قال شيخو في تلك اللحظة الجملةَ التي كان سيقولها أي سوري سيقف أمام جثة حافظ الأسد: لماذا أنت لا تتكلم… هل أنت ميّت حقاً؟
كانت جملة شيخو تلك أشبه بيدٍ مرتعشة تهزُّ الجثة بخوف كي تتأكد من أن صاحبها قد مات. يد تمسك جثة حافظ الأسد من كتفها وتهزّها بخوف وتسأل صاحبها: هل أنت ميت بالفعل؟
خلال أيام الحداد تلك زارنا أحد أقاربنا من الشيوعيين وقال لأبي إنه لا يُصدِّق إن حافظ الأسد قد مات. ثم حدّثه عن أن ستالين حين مات بقي قادة الاتحاد السوفياتي أياماً لا يجرؤون على إعلان الوفاة. ثم قال إنه معجب بستالين.
توقَّف مروان شيخو مجدَّداً عن الكلام، وقال الجملة الصادقة الثانية في خطبة النفاق تلك: «لقد تعوَّدنا عليك يا سيدي… لقد تعوَّدنا عليك يا سيدي».
بالفعل، لقد تعوَّدنا عليك أيها الطاغية. لقد تعوَّدنا على الخوف الذي نشرتَه في البلاد، تعوَّدنا على الزنازين وفروع الأمن ونظَّارات المخابرات السوداء، تعوَّدنا على الهتاف بحياتك «إلى الأبد»، لقد تعوَّدنا على «الأبد» الذي اتَّضح بأنه ينتهي في سنة 2000.
ومن بين هذا الركام من المشاعر الغريبة والمتناقضة بزغتْ نكتة ذكية تجمع موت الأسد الابن وموت الأسد الأب (باسل وحافظ)، تقول بأن حافظ حين مات ودخل جهنم فوجئ بوجود ابنه باسل فيها فقال له مستغرباً: «عَ أساس أنت شهيد»! فردَّ عليه باسل: «وعَ أساس أنت للأبد»!
لقد كُسِر شيء كبير في حياة السوريين تلك الأيام، وبعد مضي بعض الوقت اكتشفوا بأن هذا الذي كُسر هو أحد أجزاء التمثال الرمزي لحافظ الأسد في عقولهم. لقد بتنا نسمع الناس – بعدما تأكدت بأن الطاغية قد مات – تنتقد الفساد والظلم بشكل علني، في الباصات والجامعات والسهرات العائلية. لقد بتنا نسمع بشكل صريح أسماء المسؤولين ورجال المخابرات واللصوص الكبار. اكتشف السوريون – بعد ثلاثين سنة من «الأبد» – أن الطغاة بشرٌ ويموتون مثلهم بالسرطان. اكتشفوا أن ثمة من هو أخبث من حافظ الأسد وأن تكنية السرطان باسم «المرض الخبيث» محقَّة.
في تلك السنة وقع بين يديَّ كتاب لسارتر اسمه «الذباب»، وهو كناية عن مسرحية تشرح بعمق مسألة الحرّية.
كان هذا الكتاب أفضل ما يمكن لي قراءته في تلك الأيام التي أعقبت موت الدكتاتور. وبسببه تمنّيت لمرّة واحدة أن أكون ممثلاً مسرحياً كي أؤدي المشهد الختامي في تلك المسرحية. يتحدَّث ذلك المشهد – كما أتذكَّر – عن اكتشاف الحرية فجأة. فأورست بطل المسرحية الذي قُتل أبوه الملك على يد زوجته وعشيقها الذي حلَّ ملكاً مكانه، لم يكن يعرف ما عليه فعله: هل ينتقم لوالده أم يرضى بقَدَره؟
وأثناء ذلك كان يطلب عونَ الإله جوبتير في إرشاده إلى ما يجب عليه القيام به. وكان هذا الإله يحثُّ أورست على الرضا بالنصيب.
لكن أورست الذي اكتشف حرّيته فجأة قرَّر عدم الانصياع للإله جوبتير، وبالتالي الثأر لأبيه.
وعلى الفور يذهب الإله جوبتير إلى الملك ليُحذِّره من أورست، طالباً منه تجهيز جيشه. إذَّاك يسأله الملك متعجِّباً: وهل أورست قوي إلى هذه الدرجة؟ فيجيبه الإله بجواب من أبلغ ما يكون: «أورست يعرف بأنه حرّ».
لقد حكى الإله جوبتير للملك عن السرّ الذي يحتفظ به الطغاة وهو «أن الناس أحرار وهم لا يعرفون ذلك».
في تلك الأيام اكتشف السوريون ذلك السرّ من دون الحاجة إلى قراءة مسرحية سارتر. ولذلك، وخوفاً من هذه المعرفة التي باتت على وشك الانفجار، سمح النظام السوري بخروج ما سُمِّيَ لاحقاً بـ«ربيع دمشق» الذي هو في الحقيقة ربيع تلك الجملة عن اكتشاف الحرّية، خصوصاً بعد مهزلة تعديل دستور البلاد في خمس دقائق للإتيان بابن الطاغية رئيساً مكانه.
وبعدما ارتفعت يد مروان شيخو لحمل ورقة نعي الأب، ارتفعت أيدي شبيهة بها في مجلس الشعب موافقة على تعديل الدستور وتنصيب الابن رئيساً، ولم يكلِّف رئيس المجلس عبد القادر قدّورة نفسه آنذاك عناء عدّ تلك الأيدي المرتفعة، حيث قال دون فاصل زمني حقيقي بين السؤال والجواب: «موافقون؟ إجماع»… جامعاً الكلمتَين في جملة واحدة متصلة وعديمة المعنى ككل الشعارات التي ملأت البلد طوال ثلاثين عاماً.



مروان شيخو : أمام جثة حافظ الأسد: لماذا أنت لا تتكلم، هل أنت ميّت حقاً .؟  13567358_143843439353700_5520782088999776354_n


أعجبنيإظهار مزيد من التفاعلات