بنية جيش النظام السوري: ميليشيا الطائفة... بقيادة زعيم الطائفة
بقلم : عبد الناصر العايد
( مقال منقول ) – يتحدث عن الجيش السوري الطائفي ، وهو مما يَحسُنُ الاطلاع عليه ، لئلا نخدع فنقبل بسقوط الأسد مع بقاء جيشه الطائفي ، الذي يمكن أن يعيده إلى الحكم من جديد بين ليلة وضحاها ..
===========
في مناخ العنف الطائفي المتصاعد في سورية، تتعاظم الحاجة إلى قوة ذات توجهات وطنية، تعيد سلطة الدولة العمومية إلى ذلك البلد. وفي هذا الصدد يتم فرز واستبعاد الجزء الأكبر من القوى التي تحارب النظام على اعتبار أنها إسلامية سنيّة متشددة تسعى إلى إقامة دولة دينية يكون لأبناء الطائفة السنية المقام الأول فيها، فيما تكون للأقليات مكانة ثانوية، على النحو الذي تضعها فيه الشريعة الإسلامية. وبالفعل، فإن تلك الفصائل تعلن عن توجهاتها من دون مواربة، لكن نظام الأسد، يشيع ويروج لفكرة أنه يمكن أن يكون تلك القوة المحايدة، متستراً بالشعارات القومية والعلمانية التي يرفعها، وبأنه يمكن أن يبعد شبح هيمنة القوى الجهادية السنيّة على مقاليد السلطة في البلاد من منطلق عدائه لها.
ويبدو أن في العالم الغربي من يصدق، ويميل إلى فرض تسوية يتم بموجبها تقاسم السلطة بين النظام والمعارضة، بحيث تؤول بعض الصلاحيات السياسية الى المعارضة، مقابل الاحتفاظ بمؤسسة النظام العسكرية وذراعها الأمنية. لكن الزيف في ادعاءات النظام، يرتب خطأ جسيماً في تصور الحل المقترح، فجيش النظام من حيث التركيبة والممارسات، ما هو إلا فصيل طائفي آخر، لا يقل انحيازاً عن التشكيلات السنيّة المتطرفة، ولا يختلف عنها في استخدام الطائفية استراتيجية للوصول إلى السلطة والبقاء فيها، وهو بذلك المولّد الأساس للعنف والتطرف الطائفي، نظراً الى أسبقيته ورسوخه في استخدامها.
لقد حكم النظام العلوي سورية في وقت لا يمثل العلويون أكثر من 10 في المئة من عدد السكان، فكان بذلك الأداة التي مزقت المجتمع السوري، ودفعته قسراً للوقوف على ضفتين متناقضتين، ومن نافل القول ان سبب مشكلة ما لا يمكن أن يكون حلاً لها في الوقت ذاته.
لا يستطيع أحد اليوم أن يبرز وثائق من داخل النظام حول عدد العلويين ونسبتهم في الجيش، فذلك أحد المحظورات الكبرى لنظام الأسد، المعروف بسريته وتكتمه الشديد على تلك المواضيع، ولذلك فقد لجأنا إلى أسلوب الاستقصاء الجزئي القابل للتعميم، وجمعنا عينة إحصائية لخريجي عدد الكليات العسكرية الذين أصبحوا ضباطاً في جيش النظام، من خلال شهادة زملاء لهم ينتمون إلى تلك الدورات بالذات، أي الذين عاشوا مع بعضهم بعضاً لثلاث سنوات، ويعرفون رفاقهم وانتماءاتهم الجغرافية والدينية بشكل جيد، وحصلنا على كم كبير من المعلومات، لكننا لم نستعمل سوى تلك الأرقام التي استطعنا أن نحصل فيها على شهادات من ثلاثة ضباط، ليسوا على صلة ببعضهم بعضاً حالياً، وليسوا على اطلاع على موضوع بحثنا، وتوصلنا بهذه الطريقة، وبمقاطعة الأرقام، إلى إحصائية تشمل 12 دورة من دورات الضباط، وتمتد من عام 1987 الى 2009 (انظر الجدول المرفق)، وجاءت النتائج على الشكل الآتي:
بلغ عدد الضباط الخريجين المشمولين بالبحث 2336 ضابطاً، منهم 1786 علوياً، وبنسبة 76.5 في المئة، و368 سنياً، بنسبة 15.5 في المئة، و182 ضابطاً من الأقليات الأخرى، بنسبة 8 في المئة. ويشكل هؤلاء الضباط وزملاؤهم الكتلة الرئيسة من الضباط الميدانيين والقياديين في الجيش السوري اليوم، إذ تتراوح أعمارهم بين 27 و 48 سنة، على اعتبار أن سن الالتحاق بالكليات العسكرية يبدأ من عمر 18 سنة.
وهيمنة العلويين على هذا الجيش تزداد مع الترقي في الرتب، وعند تقلد المسؤوليات الحساسة، فهم يشكلون غالبية قادة أجهزة الأمن وعناصرها، ومعظم قيادات الأسلحة الاستراتيجية كالطيران والصواريخ، فيما يقلد السنّة وبعض أبناء الطوائف الأخرى مناصب شكلية لإعطاء انطباع صوري بتوزيع ما للسلطة، لكن أولئك السنّة في المناصب القيادية، ليست لهم أي صلاحيات تقريرية، ويوكل أمر اتخاذ القرارات فعلياً لمعاونيهم أو نوابهم من العلويين، وعلى سبيل المثال حين فكر العميد مناف طلاس الذي يقود واحداً من ألوية الحرس الجمهوري، ونجل وزير الدفاع السابق، بالانشقاق عن النظام، لم يجد ضابطاً واحداً يرافقه في ذلك، وهرب من دمشق تحت جنح الظلام، ولو كان ذا سلطة فعلية في فرقته، لخرج على الأقل مخفوراً بحراستها.
ويحاجج بعض المدافعين عن النظام عن هذه النسبة العالية من العلويين في سلك الضباط، بعزوف أبناء السنّة عن تلك المهنة، وهي ذريعة لا يمكن فهمها إلا على ضوء الحقيقة السابقة، وهي طائفية هذا الجيش وتهميش السنّي فيه، ومع ذلك فإننا نستطيع أن نثبت ضعف هذا الادعاء بالأرقام، وأن اقصاء السنّة عن الجيش هو قرار من أعلى سلطة فيه، ودليلنا إلى ذلك التوزع الطائفي في سلك ضباط الشرطة، وهو ميدان لا يشكل خطورة فعلية من الناحية القتالية، إذ إنه أشبه بقطاع إداري، يهتم بتنظيم السير وضبط المخالفات الجنائية، وما إلى ذلك من أعمال الشرطة المعروفة في العالم، لذلك لم يأبه النظام لزج أعداد كبيرة من أبناء الطائفة العلوية فيه، وهنا على سبيل المثال التوزيع الطائفي للدورة 29 ضباط شرطة، التي تخرجت عام 2001، وهي مكونة من 147 ضابطاً، توزعوا طائفياً ودينياً كما يأتي: 94 ضابطاً من السنّة، أي نحو 64 في المئة، و32 من العلويين، أي نحو 23 فب المئة، و21 ضابطاً من بقية الطوائف.
لقد كانت معاشات ضباط الجيش السوري تزيد بنسبة ضئيلة عن معاشات الموظفين المدنيين، لكن حافظ الأسد ووريثه من بعده، أطلقا يد الضباط في ما يخص العلاقة مع الجنود، إذ إن كل ذكر سوري مكلف خدمة العلم لمدة سنتين ونصف سنة على الأقل ما لم يكن وحيداً لأبويه. وبالتالي، فإن النسبة الكبرى من هؤلاء هم من الطائفة السنية، وقد كانوا عرضة للابتزاز الفج والعلني من جانب رؤسائهم، فلا إجازات ولا راحة من دون تقديم الرشوة بشكل شبه دوري، وعرف الجيش السوري ظاهرة فريدة تسمى «التفييش» حيث يسمح الضابط لعدد من الجنود المكلفين خدمة العلم ممن يقعون تحت إمرته بالبقاء في منازلهم، مقابل مبلغ شهري يدفعونه له، ويحدد وفق وضع ذوي ذلك الجندي الاقتصادي، وكانت القيادات العسكرية والأمنية تعلم بذلك، ولا تكتفي بغض النظر عنه، بل تقره بطريقة ضمنية للحفاظ على التصاق هؤلاء الضباط بالنظام. لقد دفعت كل أسرة سورية، ما يشبه الأتاوة للنخبة العلوية الحاكمة، من خلال مؤسسة الجيش تلك، وعانى من لا يستطيع الدفع من أبناء الفقراء والمسحوقين الأمرّين في خدمتهم الوطنية، ناهيك بالمعاملة السيئة، وظروفهم المعيشية كانت في غاية السوء، ومخصصاتهم الغذائية تسرق، وثيابهم مهترئة وبالية وتستخدم لدفعات متتالية، وكان ذلك مدعاة لتندر السوريين الذين أطلقوا على جيشهم اسم «جيش أبو شحاطة»، في إشارة إلى النعال البلاستيكية التي كانوا يرتدونها أثناء الخدمة بسبب تلف الأحذية العسكرية أو عدم توافرها.
وخلال سنوات الثورة الأربع ازداد المشهد الطائفي في الجيش عمقاً وحدّةً، فقد انحاز ضباطه بشكل علني الى نظام الطائفة، ولعبوا الدور الذي طالما أعدوا له، وهو القمع الوحشي لانتفاضة الشعب السوري السلمية، وقد مارسوا ذلك الدور من قبل في حماة عام 1982 عندما قتل نحو 40 ألفاً من سكان تلك المدينة على يد سرايا الدفاع التي يقودها رفعت شقيق حافظ الأسد.
لكن انتشار وسائل الإعلام واطلاع الضباط والجنود السنّة على ما كان يحدث في مناطقهم، دفع معظمهم الى الانشقاق، ولتقفز نسبة الضباط العلويين في الجيش إلى أكثر من 90 في المئة، وليتم استدعاء الاحتياط من صفوف أبناء الطائفة لتعويض النقص الهائل في الجنود، ولتعويض الخسارة الاقتصادية التي تسبب بها هروب هؤلاء الجنود، ولإغراء المدنيين من العلويين بالالتحاق بجيش النظام، فأباح النظام مناطق الثورة لقواته، لتنهبها بالوجه الذي تريد، وبرزت ظاهرة جديدة سميت بـ «التعفيش» حيث يتم الاستيلاء على ممتلكات سكان تلك المناطق، سواء أكانت لهم علاقة بالثورة أم لا، ابتداء بالسيارات وانتهاء بحنفيات المياه وسيراميك الحمامات، التي أعيد بيعها بمقابل أدنى من قيمتها بكثير، في أسواق خاصة أطلقوا عليها اسم «أسواق السنَّة»، كما راجت وانتشرت عمليات الإتجار بالمعتقلين، بل حتى بجثثهم، إذ دفعت العائلات مبالغ مهولة في مجموعها، لضباط وعناصر من العلويين، لمعرفة أي شيء عن مصير أبنائهم المعتقلين الذين يعدون بمئات الآلاف، ولعل «اقتصاد الحرب» المجزي هذا، يفسر جانباً من إصرار أبناء تلك الطائفة على الحرب إلى جانب زعيمهم، ومن أجل بقاء نظام الطائفة، على رغم الخسائر البشرية الكبيرة التي تكبدوها.
لكن التطور الأسوأ، تمثل باستدعاء النظام لميليشيات طائفية شيعية متطرفة من خارج الحدود للقتال جنباً إلى جنب قواته، في إعلان صريح وواضح لطبيعة الحرب التي يخوضها، ويقدر عدد تلك الميليشيات بنحو 50 ألف مقاتل، معظمهم من ميليشيا «حزب الله» اللبناني والميليشيات العراقية والايرانية والحوثية والأفغانية، وجميع عناصرها لا يقلون تطرفاً ودموية عن التنظيمات السنيّة التي تحاربهم.
لقد كان مؤسسو الدولة الحديثة في سورية، يأملون بأن يكون الجيش مصهراً تندمج فيه مكونات الشعب، لكنه أصبح منذ أن وصل حزب البعث إلى السلطة، أداة لتدمير التعايش ورفع الاستقطاب بين تلك المكونات إلى حدّ الانفجار. لقد شكل الجيش فرصة للطائفة العلوية للخروج من عزلتها التاريخية، والانسجام مع بقية مكونات المجتمع السوري، إلا أن الاستثمار السلطوي العائلي للطائفية والعسكرة معاً من جانب آل الاسد، جعل الجيش عامل تخلف اجتماعي داخلها، حيث لم تعرف أجيال من شباب تلك الطائفة سوى المهنة العسكرية، ولم يختبروا سوى المهارات المتعلقة بحماية النظام ورأسه، ولم تبرز أية حالة تعبر عن نهضة اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية موازية للصعود السلطوي بين أبنائها.
ثمة رؤية أخرى داعمة لبقاء مؤسسة الجيش السوري على ما هي عليه، يعتقد أنها سائدة لدى بعض صناع القرار في العالم، فحواها أن الطائفة العلوية ستتعرض لمجازر إبادة انتقامية، فيما لو تخلت عن الجيش والسلاح، ومع الإقرار بإمكانية حصول ذلك، إلا أن هذه الرؤية تتجاهل المجزرة الحالية والمستمرة التي تتعرض لها هذه الطائفة، بدفعها قدماً لمحاربة طائفة أخرى، والتي ترفع التوتر الطائفي في عموم المنطقة، ومن الأجدى والأكثر إنصافاً أن يبحث المجتمع الدولي عن حل يمنع حصول العمليات الانتقامية، كإنشاء قوة سورية تتمتع بالحياد وتلتزم حمايتها، أو إرسال قوات دولية تتولى تلك الحماية إلى حين استقرار الدولة الجديدة، ونهوضها بمهمة إرساء الأمن في البلاد.
لعل النظر إلى مستقبل سورية المستقبلية كمشهد يسيطر عليه السنّة، ويضطهدون ويعاقبون العلويين وبقية الأقليات، هو تصور تنكره الوقائع التاريخية والراهنة، إذ إن المجتمع السوري لم يعرف الاستقطاب والكراهية بين مكوناته إلا بعد ظهور سلطة عائلة الأسد واستخدامها الطائفية كاستراتيجية للتسلط على بقية الفئات والمكونات، وتوريث الحكم من دون وجهة حق، كما تؤكده في المرحلة الحالية حال المعارضة السياسية، وهي سنيّة أساساً، لكنها متنوعة ومتخالفة إلى حد التناقض والتفتت، ومن يعرفها يعرف جيداً أنها ستكون شراذم متناثرة قليلة الوزن مستقبلاً، وستتسابق بين بعضها لكسب ود هذه الأقلية أو تلك في المراحل الأولى، إلى أن يتبلور مع التجربة والممارسة مفهوم الأكثريات والأقليات السياسية لا الدينية والعرقية.
ويبدو أن خيار إنشاء جيش وطني سوري، على أيدي القادة الديموقراطيين، ومنذ الآن، للحلول محل كل القوى الطائفية المسلحة في البلاد، هو أفضل الخيارات الممكنة. ولئلا يكون هذا الجيش الجديد هو النقيض الطائفي لجيش النظام، كما حدث في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، لا بد من تكوينه وفق معيار ديموغرافي، بحيث تكون لكل ناحية جغرافية نسبة من هذا الجيش تتناسب مع عدد السكان فيها.
عبد الناصر العايد
الحياة
بقلم : عبد الناصر العايد
( مقال منقول ) – يتحدث عن الجيش السوري الطائفي ، وهو مما يَحسُنُ الاطلاع عليه ، لئلا نخدع فنقبل بسقوط الأسد مع بقاء جيشه الطائفي ، الذي يمكن أن يعيده إلى الحكم من جديد بين ليلة وضحاها ..
===========
في مناخ العنف الطائفي المتصاعد في سورية، تتعاظم الحاجة إلى قوة ذات توجهات وطنية، تعيد سلطة الدولة العمومية إلى ذلك البلد. وفي هذا الصدد يتم فرز واستبعاد الجزء الأكبر من القوى التي تحارب النظام على اعتبار أنها إسلامية سنيّة متشددة تسعى إلى إقامة دولة دينية يكون لأبناء الطائفة السنية المقام الأول فيها، فيما تكون للأقليات مكانة ثانوية، على النحو الذي تضعها فيه الشريعة الإسلامية. وبالفعل، فإن تلك الفصائل تعلن عن توجهاتها من دون مواربة، لكن نظام الأسد، يشيع ويروج لفكرة أنه يمكن أن يكون تلك القوة المحايدة، متستراً بالشعارات القومية والعلمانية التي يرفعها، وبأنه يمكن أن يبعد شبح هيمنة القوى الجهادية السنيّة على مقاليد السلطة في البلاد من منطلق عدائه لها.
ويبدو أن في العالم الغربي من يصدق، ويميل إلى فرض تسوية يتم بموجبها تقاسم السلطة بين النظام والمعارضة، بحيث تؤول بعض الصلاحيات السياسية الى المعارضة، مقابل الاحتفاظ بمؤسسة النظام العسكرية وذراعها الأمنية. لكن الزيف في ادعاءات النظام، يرتب خطأ جسيماً في تصور الحل المقترح، فجيش النظام من حيث التركيبة والممارسات، ما هو إلا فصيل طائفي آخر، لا يقل انحيازاً عن التشكيلات السنيّة المتطرفة، ولا يختلف عنها في استخدام الطائفية استراتيجية للوصول إلى السلطة والبقاء فيها، وهو بذلك المولّد الأساس للعنف والتطرف الطائفي، نظراً الى أسبقيته ورسوخه في استخدامها.
لقد حكم النظام العلوي سورية في وقت لا يمثل العلويون أكثر من 10 في المئة من عدد السكان، فكان بذلك الأداة التي مزقت المجتمع السوري، ودفعته قسراً للوقوف على ضفتين متناقضتين، ومن نافل القول ان سبب مشكلة ما لا يمكن أن يكون حلاً لها في الوقت ذاته.
لا يستطيع أحد اليوم أن يبرز وثائق من داخل النظام حول عدد العلويين ونسبتهم في الجيش، فذلك أحد المحظورات الكبرى لنظام الأسد، المعروف بسريته وتكتمه الشديد على تلك المواضيع، ولذلك فقد لجأنا إلى أسلوب الاستقصاء الجزئي القابل للتعميم، وجمعنا عينة إحصائية لخريجي عدد الكليات العسكرية الذين أصبحوا ضباطاً في جيش النظام، من خلال شهادة زملاء لهم ينتمون إلى تلك الدورات بالذات، أي الذين عاشوا مع بعضهم بعضاً لثلاث سنوات، ويعرفون رفاقهم وانتماءاتهم الجغرافية والدينية بشكل جيد، وحصلنا على كم كبير من المعلومات، لكننا لم نستعمل سوى تلك الأرقام التي استطعنا أن نحصل فيها على شهادات من ثلاثة ضباط، ليسوا على صلة ببعضهم بعضاً حالياً، وليسوا على اطلاع على موضوع بحثنا، وتوصلنا بهذه الطريقة، وبمقاطعة الأرقام، إلى إحصائية تشمل 12 دورة من دورات الضباط، وتمتد من عام 1987 الى 2009 (انظر الجدول المرفق)، وجاءت النتائج على الشكل الآتي:
بلغ عدد الضباط الخريجين المشمولين بالبحث 2336 ضابطاً، منهم 1786 علوياً، وبنسبة 76.5 في المئة، و368 سنياً، بنسبة 15.5 في المئة، و182 ضابطاً من الأقليات الأخرى، بنسبة 8 في المئة. ويشكل هؤلاء الضباط وزملاؤهم الكتلة الرئيسة من الضباط الميدانيين والقياديين في الجيش السوري اليوم، إذ تتراوح أعمارهم بين 27 و 48 سنة، على اعتبار أن سن الالتحاق بالكليات العسكرية يبدأ من عمر 18 سنة.
وهيمنة العلويين على هذا الجيش تزداد مع الترقي في الرتب، وعند تقلد المسؤوليات الحساسة، فهم يشكلون غالبية قادة أجهزة الأمن وعناصرها، ومعظم قيادات الأسلحة الاستراتيجية كالطيران والصواريخ، فيما يقلد السنّة وبعض أبناء الطوائف الأخرى مناصب شكلية لإعطاء انطباع صوري بتوزيع ما للسلطة، لكن أولئك السنّة في المناصب القيادية، ليست لهم أي صلاحيات تقريرية، ويوكل أمر اتخاذ القرارات فعلياً لمعاونيهم أو نوابهم من العلويين، وعلى سبيل المثال حين فكر العميد مناف طلاس الذي يقود واحداً من ألوية الحرس الجمهوري، ونجل وزير الدفاع السابق، بالانشقاق عن النظام، لم يجد ضابطاً واحداً يرافقه في ذلك، وهرب من دمشق تحت جنح الظلام، ولو كان ذا سلطة فعلية في فرقته، لخرج على الأقل مخفوراً بحراستها.
ويحاجج بعض المدافعين عن النظام عن هذه النسبة العالية من العلويين في سلك الضباط، بعزوف أبناء السنّة عن تلك المهنة، وهي ذريعة لا يمكن فهمها إلا على ضوء الحقيقة السابقة، وهي طائفية هذا الجيش وتهميش السنّي فيه، ومع ذلك فإننا نستطيع أن نثبت ضعف هذا الادعاء بالأرقام، وأن اقصاء السنّة عن الجيش هو قرار من أعلى سلطة فيه، ودليلنا إلى ذلك التوزع الطائفي في سلك ضباط الشرطة، وهو ميدان لا يشكل خطورة فعلية من الناحية القتالية، إذ إنه أشبه بقطاع إداري، يهتم بتنظيم السير وضبط المخالفات الجنائية، وما إلى ذلك من أعمال الشرطة المعروفة في العالم، لذلك لم يأبه النظام لزج أعداد كبيرة من أبناء الطائفة العلوية فيه، وهنا على سبيل المثال التوزيع الطائفي للدورة 29 ضباط شرطة، التي تخرجت عام 2001، وهي مكونة من 147 ضابطاً، توزعوا طائفياً ودينياً كما يأتي: 94 ضابطاً من السنّة، أي نحو 64 في المئة، و32 من العلويين، أي نحو 23 فب المئة، و21 ضابطاً من بقية الطوائف.
لقد كانت معاشات ضباط الجيش السوري تزيد بنسبة ضئيلة عن معاشات الموظفين المدنيين، لكن حافظ الأسد ووريثه من بعده، أطلقا يد الضباط في ما يخص العلاقة مع الجنود، إذ إن كل ذكر سوري مكلف خدمة العلم لمدة سنتين ونصف سنة على الأقل ما لم يكن وحيداً لأبويه. وبالتالي، فإن النسبة الكبرى من هؤلاء هم من الطائفة السنية، وقد كانوا عرضة للابتزاز الفج والعلني من جانب رؤسائهم، فلا إجازات ولا راحة من دون تقديم الرشوة بشكل شبه دوري، وعرف الجيش السوري ظاهرة فريدة تسمى «التفييش» حيث يسمح الضابط لعدد من الجنود المكلفين خدمة العلم ممن يقعون تحت إمرته بالبقاء في منازلهم، مقابل مبلغ شهري يدفعونه له، ويحدد وفق وضع ذوي ذلك الجندي الاقتصادي، وكانت القيادات العسكرية والأمنية تعلم بذلك، ولا تكتفي بغض النظر عنه، بل تقره بطريقة ضمنية للحفاظ على التصاق هؤلاء الضباط بالنظام. لقد دفعت كل أسرة سورية، ما يشبه الأتاوة للنخبة العلوية الحاكمة، من خلال مؤسسة الجيش تلك، وعانى من لا يستطيع الدفع من أبناء الفقراء والمسحوقين الأمرّين في خدمتهم الوطنية، ناهيك بالمعاملة السيئة، وظروفهم المعيشية كانت في غاية السوء، ومخصصاتهم الغذائية تسرق، وثيابهم مهترئة وبالية وتستخدم لدفعات متتالية، وكان ذلك مدعاة لتندر السوريين الذين أطلقوا على جيشهم اسم «جيش أبو شحاطة»، في إشارة إلى النعال البلاستيكية التي كانوا يرتدونها أثناء الخدمة بسبب تلف الأحذية العسكرية أو عدم توافرها.
وخلال سنوات الثورة الأربع ازداد المشهد الطائفي في الجيش عمقاً وحدّةً، فقد انحاز ضباطه بشكل علني الى نظام الطائفة، ولعبوا الدور الذي طالما أعدوا له، وهو القمع الوحشي لانتفاضة الشعب السوري السلمية، وقد مارسوا ذلك الدور من قبل في حماة عام 1982 عندما قتل نحو 40 ألفاً من سكان تلك المدينة على يد سرايا الدفاع التي يقودها رفعت شقيق حافظ الأسد.
لكن انتشار وسائل الإعلام واطلاع الضباط والجنود السنّة على ما كان يحدث في مناطقهم، دفع معظمهم الى الانشقاق، ولتقفز نسبة الضباط العلويين في الجيش إلى أكثر من 90 في المئة، وليتم استدعاء الاحتياط من صفوف أبناء الطائفة لتعويض النقص الهائل في الجنود، ولتعويض الخسارة الاقتصادية التي تسبب بها هروب هؤلاء الجنود، ولإغراء المدنيين من العلويين بالالتحاق بجيش النظام، فأباح النظام مناطق الثورة لقواته، لتنهبها بالوجه الذي تريد، وبرزت ظاهرة جديدة سميت بـ «التعفيش» حيث يتم الاستيلاء على ممتلكات سكان تلك المناطق، سواء أكانت لهم علاقة بالثورة أم لا، ابتداء بالسيارات وانتهاء بحنفيات المياه وسيراميك الحمامات، التي أعيد بيعها بمقابل أدنى من قيمتها بكثير، في أسواق خاصة أطلقوا عليها اسم «أسواق السنَّة»، كما راجت وانتشرت عمليات الإتجار بالمعتقلين، بل حتى بجثثهم، إذ دفعت العائلات مبالغ مهولة في مجموعها، لضباط وعناصر من العلويين، لمعرفة أي شيء عن مصير أبنائهم المعتقلين الذين يعدون بمئات الآلاف، ولعل «اقتصاد الحرب» المجزي هذا، يفسر جانباً من إصرار أبناء تلك الطائفة على الحرب إلى جانب زعيمهم، ومن أجل بقاء نظام الطائفة، على رغم الخسائر البشرية الكبيرة التي تكبدوها.
لكن التطور الأسوأ، تمثل باستدعاء النظام لميليشيات طائفية شيعية متطرفة من خارج الحدود للقتال جنباً إلى جنب قواته، في إعلان صريح وواضح لطبيعة الحرب التي يخوضها، ويقدر عدد تلك الميليشيات بنحو 50 ألف مقاتل، معظمهم من ميليشيا «حزب الله» اللبناني والميليشيات العراقية والايرانية والحوثية والأفغانية، وجميع عناصرها لا يقلون تطرفاً ودموية عن التنظيمات السنيّة التي تحاربهم.
لقد كان مؤسسو الدولة الحديثة في سورية، يأملون بأن يكون الجيش مصهراً تندمج فيه مكونات الشعب، لكنه أصبح منذ أن وصل حزب البعث إلى السلطة، أداة لتدمير التعايش ورفع الاستقطاب بين تلك المكونات إلى حدّ الانفجار. لقد شكل الجيش فرصة للطائفة العلوية للخروج من عزلتها التاريخية، والانسجام مع بقية مكونات المجتمع السوري، إلا أن الاستثمار السلطوي العائلي للطائفية والعسكرة معاً من جانب آل الاسد، جعل الجيش عامل تخلف اجتماعي داخلها، حيث لم تعرف أجيال من شباب تلك الطائفة سوى المهنة العسكرية، ولم يختبروا سوى المهارات المتعلقة بحماية النظام ورأسه، ولم تبرز أية حالة تعبر عن نهضة اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية موازية للصعود السلطوي بين أبنائها.
ثمة رؤية أخرى داعمة لبقاء مؤسسة الجيش السوري على ما هي عليه، يعتقد أنها سائدة لدى بعض صناع القرار في العالم، فحواها أن الطائفة العلوية ستتعرض لمجازر إبادة انتقامية، فيما لو تخلت عن الجيش والسلاح، ومع الإقرار بإمكانية حصول ذلك، إلا أن هذه الرؤية تتجاهل المجزرة الحالية والمستمرة التي تتعرض لها هذه الطائفة، بدفعها قدماً لمحاربة طائفة أخرى، والتي ترفع التوتر الطائفي في عموم المنطقة، ومن الأجدى والأكثر إنصافاً أن يبحث المجتمع الدولي عن حل يمنع حصول العمليات الانتقامية، كإنشاء قوة سورية تتمتع بالحياد وتلتزم حمايتها، أو إرسال قوات دولية تتولى تلك الحماية إلى حين استقرار الدولة الجديدة، ونهوضها بمهمة إرساء الأمن في البلاد.
لعل النظر إلى مستقبل سورية المستقبلية كمشهد يسيطر عليه السنّة، ويضطهدون ويعاقبون العلويين وبقية الأقليات، هو تصور تنكره الوقائع التاريخية والراهنة، إذ إن المجتمع السوري لم يعرف الاستقطاب والكراهية بين مكوناته إلا بعد ظهور سلطة عائلة الأسد واستخدامها الطائفية كاستراتيجية للتسلط على بقية الفئات والمكونات، وتوريث الحكم من دون وجهة حق، كما تؤكده في المرحلة الحالية حال المعارضة السياسية، وهي سنيّة أساساً، لكنها متنوعة ومتخالفة إلى حد التناقض والتفتت، ومن يعرفها يعرف جيداً أنها ستكون شراذم متناثرة قليلة الوزن مستقبلاً، وستتسابق بين بعضها لكسب ود هذه الأقلية أو تلك في المراحل الأولى، إلى أن يتبلور مع التجربة والممارسة مفهوم الأكثريات والأقليات السياسية لا الدينية والعرقية.
ويبدو أن خيار إنشاء جيش وطني سوري، على أيدي القادة الديموقراطيين، ومنذ الآن، للحلول محل كل القوى الطائفية المسلحة في البلاد، هو أفضل الخيارات الممكنة. ولئلا يكون هذا الجيش الجديد هو النقيض الطائفي لجيش النظام، كما حدث في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، لا بد من تكوينه وفق معيار ديموغرافي، بحيث تكون لكل ناحية جغرافية نسبة من هذا الجيش تتناسب مع عدد السكان فيها.
عبد الناصر العايد
الحياة