العلويون ووهم الدويلة في سوريا
30 / آب / 2015
بقلم : سامي الصوفي
============
روى لي والدي حكاية عن المرحوم جدّي حدثت في ثلاثينات القرن الماضي. كان جدّي عائداً من ريف بلدة جبلة إلى اللاذقية، وتعب حصانه خلال الرحلة، فاضطر للاستراحة، لكن مواصلة الرحلة تعذّرت لضعف الحصان وحلول الظلام. لذلك قصد جدّي أول بيت صادفه، وعرّف بنفسه طالباً المساعدة. استضافه أهل البيت وكانوا من عائلة مهنا العريقة، وقاموا بواجب الضيافة بكرم بالغ. وفي صباح اليوم التالي، أعاروا جدّي حصاناً لمواصلة رحلته ورفضوا إلاً أن يرافقه أحد أبناء العائلة إلى مشارف اللاذقية لضمان سلامته.
عندما تذكرت هذه الرواية أخيراً، تساءلت في نفسي: لو حدث ذلك لي اليوم في المكان والزمان نفســـيهما، هل ســـأحظى بالمساعدة نفسها التي حظي بها جدّي قبل أكثر من 80 عاماً بعد اندلاع الثورة السورية؟ أعتقد أن الإجابة ستكون بكل مرارة كلا .
هواجس العلويين بأنهم طائفة مهدّدة من السنّة، تسيطر عليهم منذ القِدم. وفقاً لجريدة «البشير» البيــروتية في عددها بتاريخ 17 حزيران (يونيو) 1939، والتي أحتفظ بنسختها الأصلية، فقد طالب النائب عن دولة العلويين الشاعر بدوي الجبل، عام 1936، رئيس وزراء فرنسا بأن تبقى دولة العلويين تحت الانتداب الفرنسي، لأن «ســـوريا المسلمة هي عدوة العلويين» وفق تعبيره! وعلى رغم ما قاله شاعر سورية الكبير، فقد غفر له السوريون، لا بل وزّروه أثناء عهد الرئيس الراحل شكري القوتلي. هكذا تعاملت أكثرية سورية السنّية مع العلويين حتى عندما أخطأ ممثلوهم .!
كانت ثورة البعث في 1963 نقطة تحوّل في تاريخ سورية، وقد استغلّها العلويون بكل ذكاء. بدأ صلاح جديد ومحمد عمران مع حافظ الأسد بتطييف الدولة السورية بعد حركة شباط (فبراير) 1966، التي سماها ميشال عفلق «القفزة النوعية». وكانت بالفعل القفزة النوعية التي مكّنتهم من السيطرة على السلطة في سورية، قبل أن ينقلب عليهما حافظ الأسد عام 1970 .
كانت الثورة السورية امتحاناً صعباً للعلويين. فعلى رغم سلمية الثورة في عامها الأول، وندائها «واحد واحد واحد... الشعب السوري واحد»، وعلى رغم أنه في حزيران (يونيو) 2011 كانت جمعة باسم «جمعة الشيخ صالح العلي»، وفي أيلول (سبتمبر) 2011 رفع الثوار لافتة بأن «حقائب آل الأسد لا تتّسع لهم وأن مكانهم بيننا»، كان موقف العلويين باتهامهم للثورة بأنها مؤامرة من الخارج واتهام الثوّار بأنهم طائفيون، مخيباً لآمال كثر من السوريين .
اليوم، يوجد في سورية بين المدنيين 300 ألف شهيد، وسبع محافظات مُدَمّرة عن بكرة أبيها، و14 مليون مُهجّر، منهم ما لا يقل عن أربعة ملايين خارج سورية. في المقابل، قُتِل عدد غير معروف من جنود النظام يصل إلى 100 ألف، لكن من قُتِلُوا من جنود النظام - وغالبيتهم من العلويين - لم يكونوا مدنيين في بيوتهم، فإذا اعتبرنا أن العلويين هم 12 في المئة من أبناء سورية، وأن المعارضة طائفية كما يدّعي العلويون، لكان هناك بين المدنيين منهم، لا قدر الله، أكثر من 36 ألف علوي مدني شهيد ومليون ونصف مليون علوي مدني نازح أو لاجئ، وهذه الأرقام غير موجودة .
خطة النظام بالتغييرات الديموغرافية في سورية، باتت واضحة تمهيداً لوهم الخطة البديلة بالدويلة العلوية. هذه الخطة البديلة تتضمن شريطاً مجاوراً للحدود اللبنانية، يمتدّ من دمشق إلى الساحل لتأمين الاتصال الجغرافي لـ «حزب الله». لكن حظوظ قيام هذه الدولة تبقى ضعيفة. فإيران، على رغم إعلانها مراراً أن الأسد هو رجلها في سورية، لا تزال تخدع العلويين ومستعدة للتخلّي عنهم متى انتهت من المساومة على الأسد، إضافة الى أنه لا يهمّها دويلة علوية ليس مضموناً فيها بقاء دمشق. روسيا لا تهمّها تلك الدويلة، وتقبل بمن يضمن لها مصالحها وقاعدتها في طرطوس. أميركا تدعم قيام دويلات وليس دويلة في سورية، وليس سكوتها عن «داعش» على مدى أكثر من سنتين إلا كونه الأداة التي تساعدها في رسم حدود هذه الدويلات. تركيا لا يمكن أن تقبل بدويلة علوية على حدودها، خوفاً من اتصال هذه الدويلة بعلويي الأناضول الذين يتجاوز عددهم 14 مليوناً، ما قد يؤدي مستقبلاً إلى تقسيم البلاد .
الحديث عن ضمانات لعلويي سورية فيه إهانة لمواطنتهم بكل حقوقها وواجباتها. حقوق علويي سورية مُصانة عندما تكون حقوق الأكثرية مُصانة، ويبقى العكس غير صحيح. العلويون لم يُطالَبوا بإظهار صكوك وطنية، فهم أبناء سورية، شاء من شاء وأبى من أبى. لكن ما يؤسف في خيارهم هو أنهم آثروا بغالبيتهم، تأييد النظام خوفاً من المتطرفين الذي لم يوجدوا خلال سنتين من الثورة. عمد النظام الى تذكيرهم بالمؤامرة الكونية على سورية. يتحجّج العلويون بأن خيارهم تأييد النظام هو حرية رأي أو وجهة نظر. بيد أنهم يتناسون أن تأييد القاتل ليس حرية رأي ولا يمكن أن يكون وجهة نظر .
لا أعرف كيف ستنتهي الحرب السورية. أعتقد أن الحل السياسي هو مضيعة للوقت، لأن الأسد سيماطل به وسيرفضه إذا ما وضع تحت الأمر الواقع، ولأن المفاوضين السوريين والإقليميين ليسوا جادين في الوصول الى حل. التسوية الوحيدة المتاحة هي تسوية الأمر الواقع، وستحدث عندما تخترق فصائل المعارضة الخطوط الحمر المتمثّلة بدمشق والساحل. وإلى أن يحدث هذا الاختراق، ستستمر الحرب السورية، وسيستمر التدمير وقتل المدنيين .
ستكون المرحلة ما بعد الأسد المرحلة الأصعب في سورية. فبناء البلاد وعودة اللاجئين وتنفيس الأحقاد، لن تكون بالأمر السهل. أعتقد أن سورية، كما عرفناها، لن تعود .!