لحظات مع الأدب النبوي الرفيع :
16 / 5 / 2015
============
ذكر أصحابُ السِّيَر :" أنه عليه الصلاة والسلام كان يُرَقّصُ أحد حفيديه ويقول : حُزُقَّةٌ حُزُقَّه ... تَرَقَّ عَيْنَ بَقّهْ .. ومنذ يومين وردت هذه المداعبة النبوية ، في كلمة نشرها على الفيسبوك أخونا الكبير الشيخ حسن عبد الحميد متحدثا بمناسبة ذكرى الإسراء والمعراج جاء فيها قوله [ صلى الله عليك يا سيد البلغاء أصعدت الحسين على صدرك وأنت تقول له كلاما يحتاج إلى لسان العرب " حزقة حزقة .. ترق عين بقة " ] . والحق يقال إن هذه الكلمات ، التي جرت على لسانه صلى الله عليه وسلم ، في هذه المداعبة ، لهي من الكلام الذي أصبحنا نحتاج في فهمه إلى " لسان العرب " أو أي معجم يعنى بتفسير الغريب ... لا لأنه كلام غامض في أصل وضعه ، وإنما لأننا نحن الذين ابتعدنا عن معين هذه اللغة الجزلة الفخمة الجميلة الرائعة المحكمة الدقيقة ، التي اختارها الله لينزل بها آخر كتبه وأجلها وأعظمها .. وكل كلام الله جليل عظيم . بيد أنّا ما زلنا نبتعد عنها ونبتعد ، حتى بات مأنوسها غريبا ، وواضحها غامضا ..!!
ولربما تساءل متسائل في سرّه قائلا : وما الفائدة المرجوة من البحث في هذه الدعابة النبوية مع طفل صغير.؟
ولئلا يشطح به الخيال أكثر ، نقول للمتسائل الكريم : إن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي مرسل .. وهذا يعني أنه لا ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى * كما يعني أن كلامه لا يكون إلا حقا ، وأن كلامه كله جارٍ على أصل الحكمة ، وإنْ خفي عنا وجهها أو غاب عنا سناها .!!!
فمثلا ، حديث الذباب الذي أخرجه البخاري في الصحيح ، عن أبي هريرة النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا وقعَ الذبابُ في إناءِ أحدِكُم ، فلْيغمِسْهُ كلَّه، ثم لِيَطْرحه ، فإنّ في أحَدِ جنَاحَيهِ شِفاءً ، وفي الآخَر داءً » .. هذا الحديث الشريف ، كم كثر حوله اللغط ، ثم أثبت العلم أخيرا صحة ما جاء فيه ، معترفا بإحدى مفردات الإعجاز في السنة النبوية .
ولا أرانا نذهب بعيدا ، إذا استذكرنا هنا حديث " يا أبا عُمَير . ما فعَلَ النُّغَير " الذي استنبط منه الأئمة علوما لا تخطر لأحدنا ببال ..
هل تعرفون من هذا الطفل الذي كناه النبي بـ " أبي عمير " وداعبه بهذه العبارة .؟ لعلكم تذكرون خبر المرأة ، التي اشتكى ابنها " مَرِضَ " . ثم لم يلبث أن تُوفّي ، فعاد أبوه آخر النهار ، وكان في بعض شأنه ، فسأل كيف حال الصبي .؟ قالت الزوجة هو أَسكن ما كان . ولم تخبره بوفاته ، وقربت لزوجها العَشاءَ . فتعشى ، ثم أَصاب منها ، فلما فرغ ، قالت : واروا الصبي أي ادفنوا الصغير فقد مات ...
فلما أَصبح الرجل أَتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لَقد بَارَكَ الله لَكُمَا فِي لَيلَتِكُمَا " فحملت المرأة وولدت طفلا سماه لهما النبي "عبد الله " .. هذه المرأة هي أم سليم .. وزوجها هو أبو طلحة زيد بن سهل . والطفل الذي توفي هو أبو عمير صاحب النغير .. وهو أخو أنس لأمه أم سليم .
ذكروا أن أبا عبد الله محمد بن الصباغ المكناسي أملى في أحد مجالسه العلمية بمكناسة على حديث "يا ابا عُمَير . ما فعَلَ النُّغَير " أربعمائة فائدة ...
قال أبو حاتم الرازي والنووي وغيرهما من المحدثين : في حديث " أبي عمير .. " كثير من العلم النافع ، ففيه إباحة أن يكنى الصغير الذي لم يولد له ، وليس ذلك من الكذب ، وإنما هو من باب التفاؤل له بأن يكبر ويولد له أولاد يكنى بهم .. وفيه أن أسماء الأعلام لا يقصد معانيها وأن إطلاقها على المسمى لا يستلزم الكذب لان الصبي لم يكن أباً ، وقد دعي أبا عمير .. وفيه أنه إذا جاز أن يكنى الصبى في صغره ، فالرجل قبل أن يولد له أولى بذلك ... وفيه إباحة أن يلهو الصغير بالطير ، ولا يعد ذلك من التعذيب للحيوان .. وفيه جواز ممازحة الصغير ، وتكرير ممازحته مرة بعد مرة ، وفيه ترك التكبر والترفع .. وفيه جواز الاستدلال بالعين على حال صاحبها إذ استدل النبي صلى الله عليه وسلم بالحزن الظاهر على الحزن الكامن ، حتى حكم بأنه حزين فسأل أمه عن حزنه .. وفيه جواز إنفاق المال فيما يتلهى به الصغير من المباحات .. وجواز إمساك الطير في القفص ونحوه ، وقص جناح الطير ، إذ لا يخلو حال طير أبي عمير من واحد منهما .. وفيه جواز إدخال الصيد من الحل إلى الحرم ، وإمساكه بعد إدخاله .. وفيه جواز تصغير الاسم لإنسان كان أو حيوان .. وفيه جواز دعاء الشخص بتصغير اسمه عند عدم الايذاء .. وفيه جواز السؤال عما السائل به عالم ، لقوله ما فعل النغير بعد علمه بأنه مات ... وفيه معاشرة الناس على قدر عقولهم ... وفيه جواز توجيه الخطاب إلى الصغير ، خلافا لمن زعم أن الحكيم لا يوجه خطابه إلا لمن يعقل ويفهم ، والتحقيق أنه جائز إذا كان الصغير ممن يفهم الخطاب، ولو لتأنيسه وممازحته ، أو لتعليمه الحكم الشرعي عند قصد تمرينه عليه من الصغر ، كما في قصة الحسن بن علي ، لما وضع التمرة في فيه ، فقال له النبي :" كخ كخ أما علمت أنا لا نأكل الصدقة " .. وفيه جواز السجع في الكلام بدون تكلف ، وأن ذلك غير ممتنع من النبي كما امتنع منه إنشاء الشعر ...
ومن الطُّرَف التي تتعلق بقصة أبي عمير ما أخرجه الحاكم النيسابوري في علوم الحديث عن أبي حاتم الرازي أنه قال : " حفظ الله أخانا صالح بن محمد ، فإنه لا يزال يبسطنا غائبا وحاضرا ، فقد كتب إليَّ أنه لما مات المحدث الذهلي بنيسابور ، أجلسوا شيخا لهم ، يقال له ( مَحْمِش ) فأملى عليهم حديث أبي عُمير هذا فقال [ يا أبا عَمِير . ما فَعَلَ البَعير ] قاله بفتح عين "عَمِير " وتصحيف النُّغَير إلى " بَعير " . فصحف الاسمين معا .. ذكره بن حبان في الثقات وقال روى عن يزيد بن هارون وغيره وكانت فيه دُعابة ...
هذا ، وقد سبق إلى التنبيه على فوائد قصة أبي عُمير بخصوصها من القدماء أبو حاتم الرازي ، وهو أحد أئمة الحديث وشيوخ أصحاب السنن ، ثم تلاه الترمذي في الشمائل المحمدية ، ثم تلاه الخطابي في معالم السنن ..
سبحان الله ، لقد أخرجنا الاستطراد عن أصل الموضوع ... فنحن كنا في قوله صلى الله عليه وسلم لحفيده الحسن (حُزُقَّةٌ حُزُقَّه ... تَرَقَّ عَيْنَ بَقّهْ ) ولولا أن يطول بنا المقام لأوردت من فوائده الكثير ، فحسبنا الآن أن نقف عند تفسير معنى هذه الدعابة النبوية ، فنقول :
الحُزُقَّة : هو الضعيف المُتَقَارب الخَطْو . وهذه حال يكون عليها الطفل في أولى خطواته وهو يتمرن على المشي . وكررها صلى الله عليه وسلم " حُزُقَّةٌ حُزُقَّه " كأنه يريد أن يقول له : صغيري يا صغيري ..
أما قوله " تَرَقَّ " فمعناه : اصْعَد . من الأمر بالصعود . فيرقى الغلام حتى يضع قدميه على صدر النبي صلى الله عليه وسلم ..
وقوله " عَيْن بَقَّة " أي يا صغير جدا .. وكنى عن شدة صغره بعين البقة ، لأنها غاية في الصغر . يقولها مداعبة له وتحببا ..
حضر وفد بني نَهْدٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فخاطبهم بلغتهم فقال له عليُّ رضي الله عنه : يا رسول اللّه نحن بنو أب واحد ، ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره .؟ فقال [ أدَّبني رَبّي فأحْسَنَ تَأديبي وَرُبِّيتُ في بني سَعْد ] .