21 / 2 / 2015 الرابع عشر من آذار كان فرصة تاريخية مهدورة، وكانت لحظة إعادة تأسيس لفكرة لبنانية لم تستكمل، بسبب اختيار فريق حزب الله أن يكون البديل المحلي عن الوصاية السورية. |
د. خطار أبو دياب : العرب
عشرة أعوام مرت على اغتيال رفيق الحريري رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق، ووقع ما أشبه بالزلزال الذي هز لبنان والمشرق. وكان الارتداد الكبير في تجمع شعبي غير مسبوق لغالبية اللبنانيين في ساحة الشهداء وسط بيروت بعد شهر من الحدث وذلك في الرابع عشر من آذار 2005، وأسفر عن هذا الحراك السلمي خروج القوات السورية بعد ثلاثة عقود من وجودها في لبنان. وبالفعل كان الرابع عشر من آذار فرصة تاريخية مهدورة، لأنها كانت لحظة إعادة تأسيس لفكرة لبنانية لم تستكمل، بسبب تخلف فريق حزب الله الذي يمثل إحدى كبرى الطوائف اللبنانية واختياره أن يكون البديل المحلي عن الوصاية السورية.
لم يحن بعد الوقت للإحاطة الدقيقة بخفايا تلك المرحلة من تاريخ لبنان والجوار. بيْد أنه بإمكاننا ربطها بحرب العراق في 2003 وتتماتها. منذ تلك اللحظة بدأ الكلام عن إعادة تركيب الشرق الأوسط وبرز للعلن ما أسمته واشنطن “الشرق الأوسط الديمقراطي الكبير” بينما كَمنت طهران – المستفيدة مليّا من حربي بوش الابن في أفغانستان والعراق- وأخذت العمل لتركيب ما أسماه يوما العاهل الأردني “الهلال الشيعي”، وذلك بعد فشل مساعي تصدير الثورة الإيرانية في بداياتها. بالطبع كانت توجد النواة للهلال الواجهة للمحور الإمبراطوري في سوريا – الجسر نحو لبنان مستقر اللبنة الأولى للمحور المذكور، ولذا أتى اغتيال الحريري من قبل “المحور الإيراني – السوري” ليس لأسباب لبنانية بحتة، بل لأنه السياسي السني العربي صاحب العلاقات الدولية الواسعة.
وهكذا بدل تغيير “الشرق الأوسط” انطلاقا من العراق كما تصور المحافظون الجدد، ضمنت إيران حديقتها الخلفية في العراق المتروك، حينها، لحربه الأهلية ولتركيز نظام إقصائي ضد العرب السنة، وأعقبت طهران ذلك بإعطاء إشارة انطلاق لتغيير وجه الشرق اعتبارا من لبنان، لأن تغييب الحريري استهدف أحد رموز الإسلام السني المعتدل والوسطي (المستهدف اليوم من غياب مشروع له ومن قبل التطرف المتأصل أو المحرك من ريموت كونترول إقليمي ودولي)، والأرجح أن الخوف الأساسي من الحريري كان نظرا لامتداد تأثيره إلى الداخلين السوري وحتى العراقي بالإجمال (على شاكلة العلاقة القوية التي كانت تربطه بالزعيم الشيعي المعتدل إياد علاوي).
وإذا نظرنا إلى خارطة المشرق اليوم وما “تتباهى” به طهران من سيطرتها على العواصم الأربع (بغداد وبيروت ودمشق وصنعاء)، يؤكد ما ذهبنا إليه من أن خطة ضرب الطابع العربي (المسلم والسني أيضا) انطلقت جديا منذ اللحظة الفاصلة في 2005. وكم هو التشابه ملفت بين ما قام به حزب الله في بيروت في 7 أيار 2008، وما قام به أنصار الله الحوثيين في صنعاء في 21 أيلول 2014. وفي خارطة التغيير السكاني القسري الضحايا بالملايين هم من السكان السنة، دون نسيان ضحايا المكونات الأقلية في المشرق بسبب بطش داعش وأخواتها، أو بسبب الوضع العام المتأتي، في الأساس، من وحش آخر هو وجه الاستبداد والإقصاء والإلغاء. والأدهى من كل ذلك التدمير المنهجي أو التهميش لحواضر الشرق الكبرى من حماه إلى بيروت وبغداد، ومن الموصل إلى حمص وحلب والآتي أعظم.
لماذا وصلت الأمور إلى هذا المنحدر؟ بكل بساطة بسبب انهيار النظام الإقليمي العربي وفقدان المناعة في الجسم العربي. الضربة الأولى بعيدة وتعود إلى هزيمة 1967 والنهاية العملية للمشروع الناصري، والضربة الثانية كانت في 1982 عندما تركت المقاومة الفلسطينية بيروت وكانت نهاية رهان آخر، والضربة القاصمة الثالثة كانت مع سقوط بغداد في نيسان 2003 لتضيع آخر أوراق القوة في الإقليم.
مع سقوط المشاريع القومية ونهاية الاتحاد السوفيتي، برزت على ساحة المشرق من جديد المشاريع الإسلامية السياسية بصيغها المختلفة كبدائل، لكن وبالرغم من سعي المملكة العربية السعودية منذ حرب 1973 إلى تركيب تفاهم مع النظام السوري في لبنان لفترة طويلة، أو إلى السعي مع مصر حسني مبارك إلى وضع ترتيبات حدّ معقول من التضامن العربي، تمركزت قدرة الفعل الإقليمي منذ بدايات القرن بين إسرائيل وتركيا وإيران.
من الواضح أن لبنان كان يمثل باروميتر الإقليم، فبعد أول سنتين من حروبه المتنقلة (1975 – 1990) كان الوصول إلى اتفاقية كامب ديفيد بالتزامن مع الوكالة المعطاة لنظام حافظ الأسد في صنع سياسة خارجية عبر السيطرة على الورقة اللبنانية وتحجيم المقاومة الفلسطينية. وبعد حرب الخليج الثانية في 1990، أتى انحياز النظام السوري للحلف الدولي ضد العراق ليكون مفتاح إنهاء ظاهرة ميشال عون حينها، مما أتاح بدء تطبيق اتفاق الطائف حول محاصصة لبنانية جديدة (1989) ولكن بشكل يخدم، أولا، النظام السوري مع تكريس منظومة اتحادية لبنانية – سورية. لكن بعد حرب العراق 2003 وبدء الرئيس الراحل رفيق الحريري تصور إمكانية التنصّل من ثقل هذه المنظومة، أو انتزاع استقلالية نسبية للبنان، صدر القرار لأنه أصبح عقبة كأداء أمام استمرار التحكم المطلق بالقرار اللبناني، ولأنه أصبح جزءا من لعبة إقليمية أخافت أصحاب القرار في طهران ودمشق.
رغم تلك اللحظة النادرة من تاريخ لبنان تمكن حزب الله، عمليا، من إبقاء لبنان ضمن المحور الإيراني – السوري، وأكبر دليل على ذلك اليوم استمراره بالانغماس في الساحة السورية وطرح نفسه كقوة إقليمية توحّد الجبهات في جنوب لبنان والجولان، وتصل إلى العراق وأبعد من العراق. يجد هذا المحور فرصته الملائمة بموازاة ترتيب تفاصيل الاتفاق الأميركي – الإيراني ويستمر في السعي إلى تكريس نهجه، وهو يتعامل كما “داعش” في مسألة إسقاط الحدود وعدم التنبّه إلى سيادة الكيانات أو للنسيج الاجتماعي ومخاطر الانزلاق المذهبي.
في وجه الخطر الإسرائيلي الدائم، وفي وجه مشروع التطويع الإيراني، وفي وجه الطموح الأردوغاني غير المدروس، يغيب رد الفعل العربي المتناسق بحده الأدنى، لأن سوداوية الواقع و”الصوملة” الزاحفة في أكثر من مكان تخدم من يريد تغيير وجه الشرق، إلا أن دروس التاريخ علمتنا أن الانحطاط ليس هو القدر والشمس تشرق دوما من مكانها الأصلي في المشرق من القدس وما جوارها حيث كانت البدايات.
أستاذ العلوم السياسية المركز الدولي للجيوبوليتيك باريس