وردة الحرية الشامية
إلياس خوري
اليوم تولد دمشق في دمشق، مدينة السبعة الأنهار، كما كتب يوما نزار قباني، تنتفض مطالبة بالحرية والهواء. شعب كامل ينزف امام اعيننا بنداء الحرية المصنوع من الحناجر والصدور وبقع الدم.
هذي دمشق التي احببناها، قلب ينبض ونبض يسري في عروقنا، ارض تنتفض وحلم يولد في كل يوم.
لم ير العالم شجاعة ونبلا واصرارا كهذا.
من حوران القمح الى الساحل حيث تلونت السمكة بألوان قوس القزح كي تحمي هاربا من البطش، ومن حماة مدينة الشهداء الى حمص مدينة خالد بن الوليد وديك الجن. كل زاوية في هذه الأرض تحمل تاريخها ويحملها التاريخ.
اليوم تستفيق الشام فينا، ويكون ليقظتها اسم واحد هو الشجاعة. اين كانت هذه الطاقة التي تنفجر اليوم عاصية؟ هل كنا عاجزين عن الرؤية؟ ام ان الشعوب تفاجىء نفسها اولا، وتصير هي المفاجأة والمتفاجئة بنفسها.
رأينا ملامح هذه البداية على جبين العديد من الكتاب والمثقفين السوريين. ياسين الحاج صالح كتب لنا تجربة سجن تدمر الرهيب كي ينظر الى المستقبل، فرج بيرقدار روى المأساة المرتسمة على جسده على شكل شهادة وقصائد، مصطفى خليفة اخذنا الى القوقعة، وسمر يزبك جلت مرايا القمع كي تصنع مرايا الروح، وميشال كيلو عـــاش معجـــزة الصمــود الأخلاقي التي صنعها... والى آخره... لا استطيع ان انسى وجع ابن العم رياض الترك وتفاؤل روحه في فيلم محمد علي الأتاسي، او عمر اميرلاي بنبرته التسجيلية وهــــي ترسم تاريخ القــــمع وبؤســــه. كانت لنا 'احلام النهار' في رؤية محمد ملص الشاعرية، ثم جاءت 'نجوم النهار'، بمناخاتها الهاذية والمدهشة في فيلم اسامة محمد...
كنتم ومعكم مجموعة كبيرة من مثقفي الشام ورثاء لأنطون مقدسي وياسين الحافظ وسعدالله ونوس، ورثاء الحق، وابناء الحقيقة وبناتها. وفي وهج كلماتكم واعمالكم رأينا مرآة القمع تتشظى كي تتأسس ثقافة الحرية.
هذه الثقافة الشجاعة التي صنعها مثقفون ومثقفات عاشوا في التشرد والسجون والقهر، تلتحم اليوم بنبض الشعب السوري، كي تعلن سقوط الاستبداد وتلاشيه السياسي والاخلاقي، قبل ان يسقط فعليا.
اعرف وتعرفون ان هناك اصواتا تشكك في شعبكم وفي ثورته، وان بقايا ثقافة الاستبداد قد تتسلل الى خطاب الحرية كي تفرغه من مضامينه، لكنني اعرف ايضا ان صلابتكم ورؤيتكم وحكمتم تزدري فهلوية المتحذلقين، وتنظر الى الأفق كي تصنع للبلاد السورية افقا من الحرية والعدالة والكرامة.
منذ ايام قليلة خرج بعض المثقفين والمثقفات الى التظاهر في حي الميدان. كسروا الحاجز النخبوي التافه، وقرروا ان يتعلموا من الشعب بدل ان ينتصبوا امامه كمعلمين للغة فقدت معناها. وحين اعتقلت مي سكاف، ارتسم الحد الفاصل بين مثقفي الحرية ومثقفي النظام.
ثقافة الحرية التي تولد اليوم في بلاد الشام، لها جذر يمتد من الكواكبي العظيم الى انطون مقدسي، وتجد نفسها اليوم متجذرة في بلاد اعتقد الطغاة انهم حولوها الى ملكية خاصة، فاذا بها تنتفض حاملة في يدها بيانا صغيرا صدر في السبعينات وحمل عنوان 'بيان من اجل الديمقراطية'، كتبه مثقف منفي في باريس اسمه برهان غليون.
هذه الثقافة تخوض اليوم معركتها الحاسمة في كل المدن والقرى السورية، وهي تعرف انها ستنتصر، لأن الاستبداد فقد شرعيته ولغته، وتحول الى آلة صماء يستخدمها اغنياء السلطة وقادة اجهزة القمع من اجل النهب والتسلط.
معركة ثقافة الحرية في الشام هي اليوم معركة الثقافة العربية بأسرها، اليوم يكتب الشعب نقده للهزيمة الحزيرانية مثلما حلم صادق العظم منذ اربعين عاما، واليوم ايضاً، تعلن الشعوب العربية كلها، التي تنتفض والتي تنتظر، انه آن اوان كتابة فجر جديد يؤسس ليقظة من سبات القمع واللغة الميتة وثقافة اللامعنى.
لا يحق لأحد ان لا يقرأ ندوب الحرية على جسد الثقافة السورية، من نزار قباني الى محمد الماغوط... تراث من الرفض والحلم ومقاومة الكابوس، ينجلي اليوم عن فجر جديد، وعن ضوء نراه مرتسما على جباه الشهداء وهم يسقطون في الشوارع، كي تتقدس بلادهم بدمهم، ويستعيد الناس اوطانهم بالتضحية والصمود.
بعد كل هذا الدم المسفوك وهذه الشجاعة في مواجهة اعتى آلة قمع في المنطقة، وبعد اربعة اشهر من حقيقة لم يكن احد قادرا على تخيلها، لأن القمع استوطن كل خلايا الروح، اليوم يعي المثقفات والمثقفون السوريون ان لا رجوع الى الوراء.
الشعب اطلــــق الشعـــــار، والشعار لا بد وان يتحقق قبل البحث في اية مسألة، والشعب لا يريد سوى اسقاط النظام. بكل بساطة وعفوية، اكتشفت كل الشعوب العربية ان بيتا من الشعر قادر على خلخلة كل هذه العروش والكراسي، وان صيحة الشابي تصلح ان تتحول الى صيحة كل الناس، وان تكون دليلا يرسم الأفق.
اذا الشعب يوما اراد الحياة.
الشعب اليوم يريد الحياة عبر اسقاط النظام، هنا يبدأ الكلام، وهنا تكتشف الثورة انها لا تستعيد معاني الكلمات فقط، بل ان للكلمات تاريخا مجبولا بالمعاني، وان بدايات النهضة العربية ضد الاستبداد تستعاد اليوم كمشروع تاريخي لاخراج العالم العربي من الخنوع والذل والهزائم.
اليـــــوم يكتشف محمـــود درويش ان 'طوق الحمامة الدمشقي'، يغطي المدى العربي بحلم الحرية، وان بردى سيأتي الى اصابعه كي يعلن نهاية البدد لأن دمشق ستكون بداية العواصم.
إلياس خوري
اليوم تولد دمشق في دمشق، مدينة السبعة الأنهار، كما كتب يوما نزار قباني، تنتفض مطالبة بالحرية والهواء. شعب كامل ينزف امام اعيننا بنداء الحرية المصنوع من الحناجر والصدور وبقع الدم.
هذي دمشق التي احببناها، قلب ينبض ونبض يسري في عروقنا، ارض تنتفض وحلم يولد في كل يوم.
لم ير العالم شجاعة ونبلا واصرارا كهذا.
من حوران القمح الى الساحل حيث تلونت السمكة بألوان قوس القزح كي تحمي هاربا من البطش، ومن حماة مدينة الشهداء الى حمص مدينة خالد بن الوليد وديك الجن. كل زاوية في هذه الأرض تحمل تاريخها ويحملها التاريخ.
اليوم تستفيق الشام فينا، ويكون ليقظتها اسم واحد هو الشجاعة. اين كانت هذه الطاقة التي تنفجر اليوم عاصية؟ هل كنا عاجزين عن الرؤية؟ ام ان الشعوب تفاجىء نفسها اولا، وتصير هي المفاجأة والمتفاجئة بنفسها.
رأينا ملامح هذه البداية على جبين العديد من الكتاب والمثقفين السوريين. ياسين الحاج صالح كتب لنا تجربة سجن تدمر الرهيب كي ينظر الى المستقبل، فرج بيرقدار روى المأساة المرتسمة على جسده على شكل شهادة وقصائد، مصطفى خليفة اخذنا الى القوقعة، وسمر يزبك جلت مرايا القمع كي تصنع مرايا الروح، وميشال كيلو عـــاش معجـــزة الصمــود الأخلاقي التي صنعها... والى آخره... لا استطيع ان انسى وجع ابن العم رياض الترك وتفاؤل روحه في فيلم محمد علي الأتاسي، او عمر اميرلاي بنبرته التسجيلية وهــــي ترسم تاريخ القــــمع وبؤســــه. كانت لنا 'احلام النهار' في رؤية محمد ملص الشاعرية، ثم جاءت 'نجوم النهار'، بمناخاتها الهاذية والمدهشة في فيلم اسامة محمد...
كنتم ومعكم مجموعة كبيرة من مثقفي الشام ورثاء لأنطون مقدسي وياسين الحافظ وسعدالله ونوس، ورثاء الحق، وابناء الحقيقة وبناتها. وفي وهج كلماتكم واعمالكم رأينا مرآة القمع تتشظى كي تتأسس ثقافة الحرية.
هذه الثقافة الشجاعة التي صنعها مثقفون ومثقفات عاشوا في التشرد والسجون والقهر، تلتحم اليوم بنبض الشعب السوري، كي تعلن سقوط الاستبداد وتلاشيه السياسي والاخلاقي، قبل ان يسقط فعليا.
اعرف وتعرفون ان هناك اصواتا تشكك في شعبكم وفي ثورته، وان بقايا ثقافة الاستبداد قد تتسلل الى خطاب الحرية كي تفرغه من مضامينه، لكنني اعرف ايضا ان صلابتكم ورؤيتكم وحكمتم تزدري فهلوية المتحذلقين، وتنظر الى الأفق كي تصنع للبلاد السورية افقا من الحرية والعدالة والكرامة.
منذ ايام قليلة خرج بعض المثقفين والمثقفات الى التظاهر في حي الميدان. كسروا الحاجز النخبوي التافه، وقرروا ان يتعلموا من الشعب بدل ان ينتصبوا امامه كمعلمين للغة فقدت معناها. وحين اعتقلت مي سكاف، ارتسم الحد الفاصل بين مثقفي الحرية ومثقفي النظام.
ثقافة الحرية التي تولد اليوم في بلاد الشام، لها جذر يمتد من الكواكبي العظيم الى انطون مقدسي، وتجد نفسها اليوم متجذرة في بلاد اعتقد الطغاة انهم حولوها الى ملكية خاصة، فاذا بها تنتفض حاملة في يدها بيانا صغيرا صدر في السبعينات وحمل عنوان 'بيان من اجل الديمقراطية'، كتبه مثقف منفي في باريس اسمه برهان غليون.
هذه الثقافة تخوض اليوم معركتها الحاسمة في كل المدن والقرى السورية، وهي تعرف انها ستنتصر، لأن الاستبداد فقد شرعيته ولغته، وتحول الى آلة صماء يستخدمها اغنياء السلطة وقادة اجهزة القمع من اجل النهب والتسلط.
معركة ثقافة الحرية في الشام هي اليوم معركة الثقافة العربية بأسرها، اليوم يكتب الشعب نقده للهزيمة الحزيرانية مثلما حلم صادق العظم منذ اربعين عاما، واليوم ايضاً، تعلن الشعوب العربية كلها، التي تنتفض والتي تنتظر، انه آن اوان كتابة فجر جديد يؤسس ليقظة من سبات القمع واللغة الميتة وثقافة اللامعنى.
لا يحق لأحد ان لا يقرأ ندوب الحرية على جسد الثقافة السورية، من نزار قباني الى محمد الماغوط... تراث من الرفض والحلم ومقاومة الكابوس، ينجلي اليوم عن فجر جديد، وعن ضوء نراه مرتسما على جباه الشهداء وهم يسقطون في الشوارع، كي تتقدس بلادهم بدمهم، ويستعيد الناس اوطانهم بالتضحية والصمود.
بعد كل هذا الدم المسفوك وهذه الشجاعة في مواجهة اعتى آلة قمع في المنطقة، وبعد اربعة اشهر من حقيقة لم يكن احد قادرا على تخيلها، لأن القمع استوطن كل خلايا الروح، اليوم يعي المثقفات والمثقفون السوريون ان لا رجوع الى الوراء.
الشعب اطلــــق الشعـــــار، والشعار لا بد وان يتحقق قبل البحث في اية مسألة، والشعب لا يريد سوى اسقاط النظام. بكل بساطة وعفوية، اكتشفت كل الشعوب العربية ان بيتا من الشعر قادر على خلخلة كل هذه العروش والكراسي، وان صيحة الشابي تصلح ان تتحول الى صيحة كل الناس، وان تكون دليلا يرسم الأفق.
اذا الشعب يوما اراد الحياة.
الشعب اليوم يريد الحياة عبر اسقاط النظام، هنا يبدأ الكلام، وهنا تكتشف الثورة انها لا تستعيد معاني الكلمات فقط، بل ان للكلمات تاريخا مجبولا بالمعاني، وان بدايات النهضة العربية ضد الاستبداد تستعاد اليوم كمشروع تاريخي لاخراج العالم العربي من الخنوع والذل والهزائم.
اليـــــوم يكتشف محمـــود درويش ان 'طوق الحمامة الدمشقي'، يغطي المدى العربي بحلم الحرية، وان بردى سيأتي الى اصابعه كي يعلن نهاية البدد لأن دمشق ستكون بداية العواصم.