المختصر / تدهورت الأوضاع الأمنية والسياسية بسرعة كبيرة خلال بضعة أيام في العراق عقب سيطرة مسلحين منظمين تنظيما عاليا على ثاني أكبر مدن العراق (محافظة نينوى) دون قتال رغم وجود فرق قتالية متقدمة التجهيز والتسليح فيها، ثم سقوط محافظة صلاح الدين ومركزها (مدينة تكريت) بنفس السيناريو، وهكذا باتجاه أقضية ونواح في محافظتي التأميم (كركوك)، وديالى، وصولا للهدف المعلن لهؤلاء المسلحين، العاصمة العراقية بغداد.
اللافت قبل سقوط هذه المدن العراقية وبهذه المساحات -التي تجاوزت ثلث مساحة العراق- هو أن القوات المسلحة العراقية بكل تشكيلاتها من الجيش والشرطة والقوات الخاصة المقدرة بأكثر من ثمانين ألف جندي وضابط، خلعت ملابسها العسكرية وتركت مواقعها وأسلحتها وأغلب آلياتها وهربت باتجاه الجنوب أو باتجاه أربيل الأقرب جغرافيا لهذه المحافظات.
وهكذا أفاق العالم مذهولا، قبل حكومة المالكي على مشهد غير معتاد حتى في أفلام هوليوود السينمائية خصوصا وأن هذا الجيش هو جيش أنشئ وجهّز ودرّب من قبل الولايات المتحدة الأميركية التي حلّت الجيش الوطني العراقي عقب احتلالها للعراق عام 2003.
كما أن ما أثار الاستغراب الشديد هو الفارق العددي والتسليحي بين المهاجمين وهذه الفرق العسكرية، فقد كان عدد المهاجمين للموصل بضعة مئات (لم تبلغ الألف رجل)، في حين بلغ عديد القوات المسلحة العراقية هناك أكثر من خمسين ألف جندي وضابط، مع مئات الدبابات والآليات المدرعة والطائرات العمودية والمقاتلة.
لقد تركوا معدات جيش كامل في مكانها وهربوا ببضع ساعات يسبقهم فرار قادتهم ذوي الشارات الحمراء والذين اعتمدت عليهم القوات الأميركية في العراق للتصدي للمقاومة العراقية وخاصة فيما سمي بالمثلث السني.
لماذا حدث الانهيار؟
للتعرض لهذه الظاهرة الغريبة في عالم الجيوش والمقاومة الشعبية على مستوى العالم والتاريخ لا بد من بيان أمور مهمة بعضها يتعلق بماهية القوة المهاجمة أو المتعرضة للجيش العراقي الآن والآخر يرتبط بأسلوب إدارة حكومة السيد نوري المالكي والتي وصفها الزعيم الشيعي مقتدى الصدر بـ"الرعناء" وتغليبه للدوافع الطائفية على دوافع الانتماء الوطني.
حيث يرى كثير من المحليين أن إصرار رئيس الحكومة العراقية على تعميم مصطلح "داعش" على من يعارضه في العراق وخاصة من المكون السني هناك يراد منه في الأصل إثارة مخاوف الغرب وبخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا من انتشار تنظيم إرهابي في مناطق نفوذهم وبالتالي مخاوف تمكن هذا التنظيم وغيره من التنظيمات الإسلامية المتشددة من تهديد السلم والأمن العالميين ومصالح الدول الغربية العظمى، وهو ما يدفعهم لتقديم دعم مطلق له في التصدي لهم في العراق وإطلاق يده في استخدام كل الوسائل الممكنة لمنعهم من بسط نفوذهم وتمددهم.
وقد نجح المالكي إلى حد ما في تصوير مطالب أهالي الأنبار المشروعة إلى هذا المنحى مما مكنه من الحصول على مساندة الغرب المطلقة له وسكوت أو تغاضي الكثير من الدول العربية لعدم معرفتها بالشأن العراقي خاصة بعد أن شغلت كل بما نالها من نصيب (الفوضى الخلاقة).
في حقيقة الأمر الذي يعرفه المطلعون تفصيليا على الملف العراقي من الداخل، فإن حجم تنظيم "داعش" في العراق هو الأقل عددا وتنظيما بين كل الفصائل المسلحة الأخرى، وقد كان لقوى مسلحة عراقية نموها الهائل بعيدا عن الصدام مع القوات الحكومية خاصة بعد خروج القوات الأميركية من العراق.
ومن أهم هذه القوات هي، تنظيمات "رجال الطريقة النقشبندية" وهم من أشد القوى تنظيما وبأسا وتماسكا وتدريبا وعقيدة، ولم ينجرفوا أبدا في اشتباكات جانبية مع القوات الحكومية إلا بالقدر الذي يمنعهم من التعرض لمناطق نفوذهم، (والموصل بأجزاء عديدة منها) جزء رئيسي من هذه المناطق.الجزء الآخر من القوى المنظمة والملتزمة هي قيادة القوات المسلحة العراقية بما تعنيه من خبرات ضباط الجيش الوطني العراقي السابق وإمكاناتهم الخبراتية والإستراتيجية والعملياتية، وهم ربما يمثلون الذراع العسكري لقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق، الذي يمثل القوة غير المنظورة والتي نجحت في كسب الكثير من الشباب العراقي لصفوف تنظيمها بعد أن وجد هؤلاء الشباب فراغا عقائديا وفشلا ذريعا للتنظيمات الدينية الشيعية منها والسنية في احتواء تطلعاتهم وتغيير الواقع الفاسد الذي يعانون منه بشدة.
القوى الأخرى تتمثل ببعض الفصائل القليلة العدد، لكنها شديدة الولاء عقائديا، مثل كتائب ثورة العشرين وغيرها من أبناء العشائر الذين التزموا خطا محددا وواضحا منذ عام 2003 وحتى الآن يتمثل بمحاربة الاحتلال والتدخل الإيراني في شؤون العراق.
كل هذه القوى، والتي كانت تعمل فرادى لفترة طويلة، وجدت نفسها، وبعد سعي المالكي الحثيث لتكريس الطائفية الفعلية في العراق وتعريض مكون كبير من شعب العراق للاضطهاد والتهميش والأذى، وبعد سعيه لتقليص دور السنة حتى في العملية السياسية مقابل منحه المزيد من النفوذ للوجود الإيراني والمليشيات المسلحة المرتبطة بهذا الوجود، وجدت هذه القوى نفسها أمام خيار واحد يتمثل بالوجود الوطني وكرامة العراقيين على أرضهم.
فكانت هناك خطوات تمت ببطء، لكنها بدقة وسرية للملمة قواهم وبناء إستراتيجيتهم للتصدي لعمليات إلغاء الهوية العراقية، خاصة بعد أن غاب الدور العربي بشكل شبه كامل، فكانت أولى عمليات توحيد الصف بين هذه الفصائل في معارك الرمادي والفلوجة بمحافظة الأنبار (مستمرة) والتي عجز فيها كل جيش المالكي وطائراته عن اقتحامهما رغم مرور بضعة أشهر على بدء العمليات فيها.
الهجوم على الموصل
إن القوى التي هاجمت الموصل هي ذاتها التي تدافع عن الفلوجة ببسالة والتي كبدت الجيش هناك خسائر كبيرة جدا، فبعد مشروع توحد القوى الوطنية دون أن يكون لأي منها الزعامة المطلقة على القوى الأخرى، وبعد دراسة فيما يبدو للوضع السياسي في العراق وملاحظة مواقف المالكي الساعي للحصول على ولاية ثالثة، قرر مجلس الثوار، السياسي والعسكري (وهذا ما يطلقونه على أنفسهم)، البدء بعملية (تحرير العراق) ابتداء من الموصل وصولا إلى بغداد ثم محافظات العراق الجنوبية لاحقا.
إن الجيش العراقي الحالي والذي أنشئ على أسس طائفية معروفة دون بقية جيوش العالم التي تحرص على أن تكون نشأة جيوشها نشأة وطنية، لم يكن ليستطيع مواجهة أي عمل عسكري محترف، ولعل المطلع على العلوم العسكرية يعلم أن أهم مبدأ من مبادئ القتال هو "العقيدة" والجيش الحالي للعراق بلا عقيدة تماما حتى أنه يطلق عليه "جيش المالكي" وهو ما يفسر عدم تمسك الجندي بسلاحه أو استماتته من أجل واجبه.
الموقف الخارجي
لقد حرص المالكي على ترويج فكرة أن العراق مهدد بقوة من "تنظيم داعش الإرهابي" محذرا من "امتداده" ليؤثر على الإقليم كله، بل وعلى كل العالم، وسرعان ما ردد الإعلام الدولي هذه الأهزوجة وبدأ بتقديم التقارير والقصص الإخبارية عن هذا التنظيم، لكن دول العالم هذه المرة لم تنطل عليها أكاذيب مسوقة بشكل ساذج، فدعت الولايات المتحدة مجلس الأمن للانعقاد، وخرج فيتالي تشوركين -مندوب روسيا الاتحادية في الأمم المتحدة والذي تترأس بلاده الدورة الحالية للمجلس- ليقول للصحفيين: "إن ما حدث في الموصل وصلاح الدين ليس من فعل داعش، إنه جزء من انتفاضة".
أما الولايات المتحدة فقال رئيسها باراك أوباما إنه "لن يرسل قوات برية إلى العراق"، وندد بسياسة المالكي وبين بوضوح أنها هي سبب ما آلت إليه الأمور في العراق، وإن كان بعض المحللين يرون في تخلي أميركا عن مسؤوليتها في هذا البلد -وهي المسؤولة الأولى عن تدمير مؤسساته الحكومية- بمثابة ضوء أخضر للقوى الإقليمية للتدخل في حسم الأزمة الراهنة.
إن مستقبل العراق بعد أن بدأت انتقاضات محافظاته الشمالية العربية سيكون وفق مشهدين رئيسيين هما كالآتي:
أولا: أن تنجح قوى الانتفاضة في دخول بغداد وإعلان التغيير المطلوب وهو أمر قد يكون مرحبا به من قبل أغلب أهالي بغداد والعراق عموما شيعة وسنة، وهو ما يعني فتح الباب للمحافظات الجنوبية للولوج تحت إرادة التغيير خاصة وقد عانت هذه المحافظات من ظلم وقهر التدخل الإيراني في شؤون محافظاتهم.
ثانيا: أن تدفع إيران بقوات ضاربة لحماية النظام في بغداد مما يعني وقوف الثوار على حدود العاصمة إن طال القتال حولها، وقد يعلنون إقليما خاصا بالمناطق التي سيطروا عليها (ديالى، والأنبار، وصلاح الدين، ونينوى) وبالتالي تكوّن إقليم ذي أغلبية سنية بما يضعف من سلطة الحكومة الاتحادية إلى أدنى الحدود.
إن الحرب الدائرة في العراق الآن لن تنتهي إلا بسقوط حكومة نوري المالكي، وهذا على ما يبدو ما عزمت عليه القوى المسلحة بكافة تصنيفاتها.
ومن المهم جدا الإشارة إلى ضرورة وجود موقف عربي يساند وحدة العراق من خلال التحذير المباشر لكل القوى الإقليمية من عدم التدخل في شؤون العراق الداخلية سواء من خلال دول مجلس التعاون الخليجي، أو من خلال الدعوة لجلسة طارئة لمجلس جامعة الدول العربية والتي تترأسها الكويت (الجارة المهددة) بأي تطورات سلبية في العراق.
المصدر : الجزيرة نت