سائق الجرافة.. جندي الإجرام المجهول
( منقول )
سائق الجرافة.. جندي الإجرام المجهول، الذي أعادته الحرب إلى أيام "العز والدلال"
أعطت الحرب التي يشنها بشار الأسد على الشعب السوري مفاهيم جديدة ومغايرة لكثير من المهن والأشخاص، ورفعتهم إلى مراتب عالية بعد أن كانوا من أناسا عاديين ومسحوقين على يد النظام نفسه.
أعطت الحرب التي يشنها بشار الأسد على الشعب السوري مفاهيم جديدة ومغايرة لكثير من المهن والأشخاص، ورفعتهم إلى مراتب عالية بعد أن كانوا من أناسا عاديين ومسحوقين على يد النظام نفسه.
سائق الجرافة أو "التركس" واحد من أولئك الذين طرأت عليه وعلى مهنته تغيرات جذرية، جعلت منه أحد أهم شركاء النظام في جرائمه ضد سوريا والسوريين.
شفراتها مخالبهم!.
بحكم تعرضهم للقصف والقتل والتدمير، صب السوريون جام اهتماهم وغضبهم على فئات معينة من جنود النظام، ابتداء من القناصين وانتهاء بالطيارين الذين يلقون البراميل، مرورا برماة الدبابات والمدافع، فيما لم يحظ سائق الجرافة بنفس السخط ولا بجزء منه، رغم أنه شخص متعدد الوظائف الإجرامية، وله مشاركة لايمكن تخيل مدى تأثيرها في تنفيذ سياسة النظام.
ومنذ بداية الأزمة كان لسائق الجرافة مكانه المحفوظ في صفوف جيش النظام وقواته الأمنية، فساعدها في تدمير بعض الحواجز البسيطة التي كان يقيمها المتظاهرون السلميون لحماية أنفسهم وأحيائهم من الاقتحامات، ثم تطور دور الجرافة وسائقها إلى ممارسة أعمال الهدم والتجريف لمنازل الثوار والمعارضين، بحجة "إزالة المخالفات".
ومع دخول الثورة مرحلة العسكرة، ازداد اعتماد النظام على الجرافة، لرفع مزيد من السواتر الترابية العالية حول ثكناته ومقراته، ولحفر مرابض للدبابات والمدافع في أماكن تمركزها الجديدة خارج القطعات العسكرية، وشق الطرق في المناطق الوعرة تسهيلا لعبور آليات النظام.
ومع اشتعال الجبهات، وحاجة النظام إلى استغلال أقصى ما لديه من أدوات القتل والإجرام، بدأ في زيادة تصفيح بعض الجرافات وتزويدها بـ"إضافات" جعلت منها آلة فاعلة في تدمير بعض دشم كتائب المقاتلين واختراق تحصيناتهم.
لكن أكثر دور رفع من مقام الجرافة وسائقها في عيون النظام وشبيحته، تجلى في "تجريف" جثث القتلى الذين كانوا يقعون في كمائن لقوات النظام ومرتزقته، وهو دور تباهى النظام بإبرازه وتسليط الضوء عليه دون أدنى ذرة من خجل، أو خوف من مساءلة.
ومثل كمين الغوطة (المليحة) الذي أوقع عشرات القتلى، واضطلعت مليشيا حزب الله بتنفيذه ونقل وقائعه.. مثّل ذروة احتفاء الشبيحة بالجرافة وسائقها، بعد أن تمكنت مشاهد تجريف الجثث من أن "تروي" غريزة التشفي والانتقام كما لم "تروها" أي حادثة قتل جماعي من قبل، ولا حتى حادثة قصف الغوطة بالكيماوي في أواسط آب من 2013.
وأظهرت ردود أفعال النظام ومؤيديه تجاه كمين "المليحة" وما فعلته "الجرافة" قدرا كبيرا من "النشوة" الممتزجة بـ"التقديس" لهذه الآلة وسائقها، حتى بات ذكر الجرافة في تعليقاتهم ركنا ثابتا، وغيّر كثير منهم صورته الشخصية على صفحة تواصله، ليبرز مكانها صورة "التركس" والبلدوزر، صارخين على مسمع كل العالم: "بالجرف جئناكم".
وجاء الاحتفاء البالغ بدور الجرافة، بفعل نوع من التقمص وتبادل الأدوار أتاح للشبيحة أن يغرسوا مخالبهم في لحوم الجثث ويمزقوا أحشاءها، عبر "شفرات" الجرافة، دون أن يطالهم وصف " آكالي الأكباد" الذي عمم على جميع مناوئي الأسد، بعد مقطع واحد لا غير.
وبعث مشهد كمين المليحة وما جاء بعده من كمائن رسائل طمأنة إلى أعوان النظام، بأن الجرافة عادت إلى أيام "عزها ودلالها" في كنف "القائد الخالد" حافظ الأسد، عندما كانت يده التي حفر بها قبور آلاف المعارضين المعتقلين، وكفه التي أهال بها التراب عليهم، وعلى جريمته في نفس الوقت، ثم كانت ساعده الذي مهد به تلك المقابر وسواها، ليشيد فوقها الأبراج وينشأ عليها الحدائق!
ومع ظهور صور وملفات موثقة لمقتل آلاف المعتقلين تحت التعذيب في أقبية النظام، تأكد للسوريين مجددا أن الجرافة لم تكن لتهدأ عن "العمل" لحظة واحدة طوال السنوات الأخيرة من حكم بشار الأسد، حيث امتدت خريطة المقابر الجماعية على مساحة واسعة من رقعة سوريا، ولم تعد محصورة في تدمر وحماة وما جوارهما، كما كانت أيام ثمانينات حافظ السوداء.
"سمنة" مثالا
ورغم أن للجرافة وسائقها كل هذه الأدوار الإجرامية، فإن أحدا من الشخصيات أو الكيانات السورية السياسية والحقوقية لم يفكر على ما يبدو بالتواصل مع الشركات الصانعة لتلك الجرافات والبلدوزرات؛ ليضعها من خلال خطاب رسمي في صورة المهام التي تؤديها جرافاتها في سوريا، ويطلب منها وقف تصدير أي قطع غيار لتلك الآليات القاتلة، ويلوح بمقاضاتها إن هي لم تستجب لهذا الطلب.
وخلافا لما قد يتصوره البعض من أن سائقي الجرافة الذين يشاركون النظام جرائمه هم من رجال جيشه أو قوات أمنه المتمرسة في القتل، تقول الوقائع إن قسما من سائقي جرافات النظام كانوا قبل الحرب مجرد موظفين عاديين في قطاعات مدنية، لكنهم اختاروا بدافع طائفي غالبا أو مالي أحيانا أن يغيروا مجرى حياتهم ويلتحقوا بصفوف القتلة، بل ويتقدمونها.
"شعبان محمد سمنة" ابن قرية "أبو دالي" شرقي حمص، يمثل واحدا من هؤلاء الذين آثروا أن يلتحقوا بصفوف النظام القاتل ويشاركوا في عملياته المختلفة بكل ما فيها من خطورة وإجرام.
"سمنة" الملقب "أبو طالب" كان سائق بلدوزر لدى فرع مشروع التنمية الزراعية بحمص، حتى اندلعت الأزمة فسارع منذ بدايتها لعرض "خدماته" على النظام، الذي استثمرها حتى أقصى حد في تنفيذ مجازره المتنقلة ضمن محافظة حمص، بدءا من القصير إلى مهين وصولا إلى الزارة والحصن، مرورا بالحولة، وانتهاء بحمص القديمة حيث سقط قتيلا في 15 الشهر الجاري؛ لتختم سيرة جندي إجرام مجهول آخر، لم يكن يرى في جرافته التي يقود سوى وسيلة اجتثاث وتدمير وتمزيق أشلاء.