لماذا قال القرآن " في قلوبهم مرض ؟ " ولم يقل : قلوبهم مريضة .؟
بقلم : أبو ياسر السوري
هذا السؤال أثاره أحدهم ، ولم يجب عليه أحد ... فأحببت أن أجيب عنه على صفحتي ليكون شركائي فيها ، هم الأسبق إلى معرفة الجواب ، و" الأقربون أولى بالمعروف " :
" في قلوبهم مرض "
هذا التعبير القرآني يا سادة ، فيه تسعة لطائف ، كل واحدة منها تبين لنا أنه التعبير الأعلى صياغة ، والأكمل اتساقا ، والألطف أداء ، والأعمق معنى .. وإليك بيانها :
1 – قدم فيه الجار والمجرور " في قلوبهم " أو ما يسمى بـ " شبه الجملة " توصلا إلى الابتداء بالنكرة ، وهو لفظ " مَرَضٍ " . والنكرةُ لا يُبتدأ بها .. مع أنّ حاجة المعنى في الآية يقتضي الابتداء بهذه النكرة . فلزم تأخيرها في اللفظ مع تقدمها في المعنى ... إذن لم يكن تقديم الجار والمجرور اتفاقا ، وإنما كان لغرض مقصود .
2 – وهنا يرد السؤال التالي : لماذا اختير تنكير المرض ، بعد اختياره أن يكون مبتدأ ، وما أثر ذلك في المعنى .؟؟ ربما ظن بعضهم أن لفظ المرض جاء منكَّراً ، ليكون عاماً لكل أجناس الأمراض .. ولكن الشأن ليس كذلك ، لأن الآية تتحدث عن المنافقين ، ومرض النفاق واحد ، وهو إظهار الإسلام وإخفاء الكفر .. وهذا يحتم أن يكون التنكير لغرض آخر ، وهو أن يشمل المرض كل قلبِ ، قلبٍ حل فيه مرض النفاق على جهة العموم ، فاللفظ على هذا ينتظم كل قلوب المنافقين بدون الحصر بعدد معين .
3 – ثم إن تقديم الجار والمجرور يفيد حصر المرض في قلوبهم دون غيرهم .. وفيه دلالة على أن كل منافق مصاب بمرض خفي قاتل في قلبه . وهذا المرض خاص بهذا الصنف المريض من البشر .
4 – جاء لفظ المرض مفردا " في قلوبهم مرض " لأنه لم يكن هنالك حاجة إلى إيراده بصيغة الجمع ( أمراض ) وقد أغنى عن ذلك ، أنَّ تعداد المَحَالِّ يدل دلالة عقلية على تعداد الحالِّ فيها ، لهذا اكتفى بذكر المفرد عن الجمع ..
5 – لو قال " في قلوبهم أمراض " لأفاد العموم في توزيع الأمراض على القلوب ، وقد يوحي عندئذ بأن مرض القلوب مختلف فيها بعضه عن بعض .. وليس هذا المعنى مرادا ، وإنما المراد هو مرض النفاق حصرا ، لذلك عدل التعبير القرآني عن لفظ ( أمراض ) واختار لفظها المفرد ( مرض ) لكونه أدق دلالة على المراد من الآية .
6 – جاء التعبير بـ ( في ) الظرفية ، إشارة لكون المرض غائر في داخل القلب ، أي إنه مرض خفي غير ظاهر .. لأن الآية في المنافقين كما علمنا ، وهم يظهرون الإيمان ويخفون الكفر في داخلهم . مما يجعل التعبير بـ ( في ) الظرفية ، من موافقة المقال للمقام . وكأن القلب ظرف قد استقر المرض في داخله .
7 – خصت الآية الكريمة المنافقين بالمرض الكامن في قلوبهم ، وفي هذا إشارة إلى أن ذوات المنافقين مريضة أيضا . فمرض القلب يعم بالشكوى سائر الجسد . قال صلى الله عليه وسلم " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد ، وإذا فسدت فسد الجسد . ألا وهي القلب " ومن هنا عاد الضمير في قوله تعالى " فزادهم الله مرضا " إلى ذوات أصحاب تلك القلوب المريضة ، بدليل أنه جاء بضمير العاقل ( فزادهم ) . ولو كانت زيادة المرض متجهة إلى القلوب نفسها ، لجاء التعبير بضمير غير العاقل ، فقال ( فزادها ) الله مرضا ..
8 – إسناد المرض إلى قلوب المنافقين فيه دلالة على أن قلوبهم تمرض مرضا خاصا بهم ، وأن مرضها أخطر الأمراض وأخفاها وأشدها فتكاً . لذلك خصت بالذكر دون سائر الجسد .
9 – لو قال القرآن عن المنافقين ( قلوبهم مريضة ) لم يبق للتعبير شيء من هذه اللطائف التي مررنا على ذكرها . ولفقد أسلوب الحصر ، ولما كان هنالك دلالة على خفاء المرض ، ولما بقيت مناسبة بين المقال والحال ..
فانظر أخي الكريم ، كم لطيفة كامنة في هذه الآية ، على قلة كلماتها ، ووجازة حروفها .. فسبحان من هذا كلامه .!!!