الثورات الراهنة تقطع مع الأنظمة العربية المستبدة...
والإسلام التركي مثالأً ديموقراطياً محتملاً
يرى المفكر السوري صادق جلال العظم، صاحب "النقد الذاتي بعد الهزيمة" (1967)، و"نقد الفكر الديني" في اواخر ستينات القرن الماضي، ان الثورات والانتفاضات العربية الراهنة تستأنف القيام على الاستبداد، وتقطع مع أنظمته. والحراك السياسي والاجتماعي الكبير الذي ستطلقه هذه الثورات، سيحمل الاسلام السياسي العربي على تقبل الديموقراطية والتعدد، استلهاماً للنموذج التركي.
في اطار تفكيرك السياسي وسياقه، كيف تنظر الى الثورات العربية الراهنة: هل ترى انها تشكل قطيعة مع حقبة سابقة، ام استئنافاً لما فات؟
ليس من مهمات الفكر السياسي أن يتنبأ أو يصدر احكاما قاطعة. فهو يمكنه أن يكون دقيقاً ومنظماً وعلمياً بقدر نسبي. ويمكنه أن يرصد عوامل الظواهر والحوادث وخلفياتها، ويقدم بعض التوقعات. أما التنبوء فنادراً ما يكون صحيحا، الا بالمصادفة. ومن أهم الأفكار المتداولة عن الانتفاضات والثورات العربية الراهنة، هي قيامها على الاستبداد ورفضها الاستبداد. وهذا ما يعيدنا او يذكرنا بعصر عبد الرحمن الكواكبي، وكتابه "طبائع الاستبداد". وفي هذا المعنى قد تكون هذه الثورات استئنافا او استعادة. والتفاؤل في هذا السياق يشوبه شيء من الخوف مبعثه شعور بأن تاريخنا يراوح في مكانه ولا يتقدم، بل يستأنف عصر الكواكبي. فالشعارات التي رفعتها الثورات العربية، حتى في بلاد قبلية مثل اليمن، تركز على الكرامة والحرية، وكلها تحمل طابعا ليبراليا كلاسيكياً...
لماذا تقول ليبرالياً، وليس ديموقراطياً؟
هنالك فارق بين الليبرالية والديموقراطية. ففي التسلسل التاريخي، سبقت الليبرالية التي تؤكد الكرامة وحقوق الانسان والحريات والدستور، الديموقراطية في معناها الواسع. اذا اخذنا الأتاتوركية الكمالية (نسبة الى كمال اتاتورك) نلاحظ ان علمانيتها لعبت في تركيا دوراً شبيهاً بالدور الذي لعبته الليبرالية في التاريخ الاوروبي.
ورغم أن الليبرالية كانت سلطوية في أحيان كثيرة، فان منطلقها الأساسي كان الحد من الاستبداد، من دون أن تضمن الديموقراطية التي تحتاج الى نقلة جديدة لإرساء آلياتها، عقب الخلاص من الاستبداد. واذا اتخذنا ما حصل في البحرين مثلا، نجد، في اختصار، ان المطلب الاساسي هو الملكية الدستورية، وأن لا يكون رئيس الوزراء معيناً من القصر، بل حصيلة توازنات في الساحة السياسية. ومطلب الاحتجاجات في سوريا شبيه بالبحرين، من حيث المطالبة السورية برئيس دستوري، ورئيس وزراء لا يعيّنه القصر الرئاسي، بل خارج من الساحة السياسية ايضا، او من ميدان الحياة العامة. اما الديموقراطية فأعتقد انها تحتاج الى شيء اضافي يفترض مشاركة شعبية واسعة تحددها الآليات الانتخابية.
وفي هذا الاطار يمكننا ان نعتبر تركيا نموذجاً واضحاً في ما يتعلق بالديموقراطية. واذا نظرنا الى التيارات الاسلامية غير الجهادية، نرى اليوم أنها صارت ترفع الديموقراطية شعاراً، باعتبارها حكم الاكثرية. لكن من قال ان الاكثرية غير مستبدة؟ فهي من دون ضوابط وحدود، تحتكر السلطة وتستبد بالبلاد. لذا فان الديموقراطية لا تستقيم من دون اعتراف الاكثرية بحقوق الاقليات.
امتحان الاسلام الحاسم
هل ترى أن الثورات الراهنة همّشت الاسلام السياسي الصاعد منذ ثمانينات القرن الماضي؟
ارى ان هنالك مظهرين في هذه الثورات، يشير الأول الى تهميش الاسلام السياسي، ويشير الثاني الى تحوله:
-1 الشعارات والنداءات التي رفعها المتظاهرون في سائر البلدان تقريباً، بعيدة كل البعد من شعارات الاسلام السياسي المعروفة.
-2 النموذج التركي الذي لم يهمّش الاسلام السياسي، يقدم للحركات الاسلامية في البلدان العربية، نموذجا او مثالا، يشبه خشبة خلاص يتجلى في امكان وصول حزب اسلامي الى السلطة من طريق الانتخابات الديموقراطية السلسة، وغير المشكوك في نزاهتها، ومن دون ان تتعرض البلاد للانهيار او للحرب الاهلية، كما حدث في الجزائر والسودان والعراق. اما الحركات الجهادية الاسلامية العنيفة، فأعتقد انها ستبقى حاضرة في المدى المنظور، ولكنها سوف تضعف وتتقهقر لصالح اسلام معتدل وسلمي يستلهم النموذج التركي.
هل تلمس ان التغير في شعارات الاسلام السياسي، الاخواني خصوصا، تغير حقيقي وجدّي، ام انه يماشي الظروف الراهنة؟
- لنقل اولاً ان هذا التغير حصل على صعيد الخطاب السياسي للحركات الاسلامية. ومثل كل شيء يبدأ، يمكن ان يتطور بتأثير الحراك السياسي والاجتماعي، تطورا ايجابيا او سلبياً. انا أميل الى القول ان فاعلية النموذج التركي كمثال اسلامي، اضافة الى التعددية السياسية والايديولوجية التي ستطلقها الثورات الراهنة، سوف تؤديان الى توازنات وضوابط تدفع الحركات الاسلامية السلمية في اتجاه تقبل الديموقراطية والتعدد والتنوع. واعتقد اننا سنكون حيال امتحان حاسم، حين يأتي يوم يخسر فيه "حزب العدالة والتنمية" التركي الانتخابات، لنرى ان كان سيتخلى عن السلطة، وان كانت ديموقراطيته جدية وحقيقية، وأنه سيتخذ موقع المعارضة. اذا نجح هذا الامتحان في تركيا، سيكون له اثر كبير خارجها، اي في البلدان العربية، حيث سنكون حيال قفزة هائلة الى الامام.
أراك تركز كثيراً على الاسلام التركي كنموذج ومثال. لكن تركيا "العدالة والتنمية" سبقتها حقبة قومية كمالية أتاتوركية ناجزة، على خلاف الحقبة القومية العربية التي يمكن القول إنها محبطة، ولم تفضٍ الى انجاز...
- الحقبة القومية التركية انجزت 80 % من مهماتها، اي تحويل مركز الامبراطورية العثمانية المهزوم والمحتل، الى دولة قومية ناهضة. فهي قدمت انجازات عسكرية في الحرب الثانية، واتجهت نحو العلمانية والحداثة. اما القومية العربية فلم تستطع ان تنجز الأهداف التي وضعتها لنفسها، بل هي على العكس من ذلك نكصت عن اهدافها. فبقدر ما تناهض الدول العربية معاهدة سايكس- بيكو، نراها تدافع عنها ضمنا، وحتى عسكريا. التيارات القومية العربية عندما تكون في السلطة وتحصل بينها خلافات حدودية، نراها تعود الى سايكس- بيكو التي تناهضها. اما لماذا فشلت القومية العربية في تحقيق اهدافها؟ فسؤال كبير. وفي سياق تاريخي عام، يمكن القول ان المشاريع القومية فشل بعضها، والبعض الآخر حالفه النجاح منذ ما بعد الحرب العالمية الاولى. المشروع القومي العربي كان فاشلاً، وهنالك الكثير من النظريات والأفكار في هذا الفشل.
فشل القومية العربية
انطلاقاً من هذا الفشل، ما هي القومية العربية، هل هنالك فعلاً وحقيقة قومية عربية؟
- بمعنى ما هنالك قومية عربية. ومن مفارقات الانتفاضات والثورات الراهنة التي بدأت في تونس، رأينا أن كل نظام عربي أخذ يقول إنه ليس تونس. وهذا ما بدأت مصرفي قوله. وهنا يمكن التساؤل: أين أواصر العروبة، أين الثقافة المشتركة، أين الدين؟! ثم سارع النظام السوري الى القول إنه ليس تونس ولا مصر. أما المواطنون العرب على اختلاف بلدانهم – وأنا واحد منهم – فلم يشعروا منذ زمن بعيد بالتقارب في ما بينهم، مثلما شعروا في هذه الحقبة. فمشاكل العالم العربي، آماله وانسداداته ومعضلاته، متقاربة. وهذا ما بينته الثورات الراهنة التي تشبه تسونامي مفاجئاً ومتسارعاً. هذا يؤكد التشابه بين البلدان العربية في ما يتعلق باستبداد أنظمة الحكم فيها، ومطلب الحرية والعدالة. أنا منذ زمن بعيد لم يستفق لديّ إحساس عربي جامع، مثلما استفاق اليوم، مع أن وعيي عروبي منذ حرب السويس في العام 1956.
لكن ألا تتضمن هذه الانتفاضات والثورات عنصراً أساسياً ضد العروبة في معناها القديم، وخصوصاً الناصري؟
- لا أظن أن هذه الثورات قامت ضد العروبة، بل هي تقيم قطيعة معها قد يكون باعثها اليأس من تلك العروبة. هنالك قطيعة في الشعارات وأشكال التظاهر. لم نتعود على تظاهرات عربية تحضر فيها النساء، كما شاهدنا في التظاهرات الراهنة التي حضر فيها الاطفال والفتيات والعائلات والافراد، كما حضرت الموسيقى والفنون والاغاني. ثم إننا لم نشهد مظاهر عنف، كحرق الأعلام، ولا توحيد للشعارات. وهنالك ايضاً ظاهرة الفرح في التظاهر، على خلاف التظاهرات السابقة التي يغلب عليها العبوس. فالذي كان العبوس بادياً على وجهه هو الناطق الرسمي باسم الجيش المصري في أثناء قراءته البيانات العسكرية، على خلاف وجوه الجموع المصرية في الشوارع.
على صعيد الفكر السياسي، ما الأثر الذي تتوقعه نتيجة لهذه الثورات؟ وما السؤال الذي ستطرحه على الفكر السياسي العربي؟
- لا يمكن ألا يكون لهذه الثورات أثر كبير على صعيد الفكر السياسي الذي سيكون أقرب الى الليبرالية الديموقراطية. سوف تظهر مذاهب ونظريات جديدة تدفع في هذا الاتجاه. مبدأ فصل السلطات مثلاً، سوف يتقدم ويتخذ حيزاً واسعاً في الفكر السياسي، وكذلك مبدأ تداول السلطة، وشفافية القضاء، واحترام حقوق الانسان وحريات المواطن. إذا تحقق 50 أو 40 في المئة من هذه الشعارات، نكون قد انجزنا إنجازاً كبيراً.
على صعيد فكرة الدولة وحضورها في المجتمعات العربية، هل تتوقع إنجازات كبرى؟ فالدولة في المخيلة العربية لصيقة بالاستبداد غالباً، أو تكون الدولة غائبة، وفي أحسن الاحوال ضعيفة وفي حال من الانحطاط.
- من حيث المبدأ، لا بد من أن السعي الى دولة قوية وحديثة، سيكون حاضراً. لكن من شروط هذا السعي على الصعيد العملي، هنالك تحسين مستوى التعليم، وشيء من الازدهار الاقتصادي والنمو الثقافي. مثل هذه الشروط لازمة وضرورية لقيام دولة حديثة، رغم أنها غير كافية. وعندما نفكر في هذه المسائل في المجتمعات العربية، سوف يطالعنا الغم والقلق. مشكلة التزايد السكاني في مصر وسوريا مثلاً، اضافة الى العجز الطويل عن مقاربتها، تطرح هموماً كبرى. لكن لا بد من الرجاء في حال ظهور مناخات ديموقراطية تتيح مناقشة علنية وجديدة لمشكلات المجتمعات العربية المتراكمة والمهملة منذ زمن بعيد.
الدول العربية مستبدة سياسياً، ومستقيلة اجتماعياً. والسياسة هي الأمن، واشاعة فراغ اجتماعي وسياسي كبيرين.
- هذا يذكر بالفكر السياسي في بلدان شمال أفريقيا، حيث هنالك المخزن، أي الدولة، وبلاد السيبة، أي البلاد السائبة، خارج سلطان الدولة.
كلفة الإسلام الأصولي
إذا عدنا الى مسألة الإسلام السياسي في البلدان العربية وفي أطيافه المختلفة، نلاحظ أن المنطقة صُبغت بالاسلام ونهضته، وبالخوف منه، منذ ثمانينات القرن الماضي. مع الثورات الراهنة، ظهر أن حجم الاسلام والخوف منه ليسا على الصورة التي أعطيت لهما.
- قد يكون هذا صحيحاً. لكنني في الاساس لا أجد أن فكرة خوف الغرب من الاسلام فكرة حقيقية، إذ ما الذي يملكه الاسلام ويمكن أن يخيف الغرب فعلاً؟
- قد يكون الغرب خائفاً على المجتمعات الاسلامية، ومن نتائج تدهورها الكارثي عليه.
- لكن علينا أن نلاحظ أن الاسلام كان حليفاً للغرب في أثناء الحرب الباردة، إن على صعيد الاسلام الرسمي (كالسعودية، و"الحلف الاسلامي" في الحقبة الناصرية)، أو على صعيد الحركات السياسية (كالإخوان المسلمين)، وصولاً الى المنظمات الجهادية في افغانستان للحرب على الشيوعية أيام الاتحاد السوفياتي. لذا أعتقد أن الغرب لا يخاف من الاسلام بالقدر الذي تشيعه وسائل الاعلام. أما في ما يتعلق بالحرب على الارهاب اضافة الى عوامل سياسية أخرى، وتزايد حجم الجاليات الاسلامية في أوروبا، فليس الامر على الصورة التي يجري إظهارها. فالغرب يعلم أن لديه القدرة على ضبط هذه الظواهر، لكنه في الوقت نفسه يريد أن يستخدمها كفزاعة في السياسات الدولية. وهذا ما يمنح التيارات الدينية الاسلامية شعوراً بالزهو بقوتها لأنها تخيف أوروبا وأميركا. وإذا أخذنا الجزائر مثلاً، نرى أن إندفاع الاسلام الاصولي الجزائري للوصول الى السلطة، كلف الجزائر نفسها أثماناً باهظة يزيد حجمها أضعاف ما تكبده الغرب في ماجرّه عليه نهوض التيارات الاسلامية، بما في ذلك ما جرّته غزوة 11 أيلول 2001 على الولايات المتحدة الاميركية. لذا أرى أن ما تكبده التيارات الاسلامية لمجتمعاتنا من أكلاف وخوف، يفيض عما تكبده للمجتمعات الغربية.
هل ترى في الأفق من تأثير للانتفاضات العربية الراهنة على القضية الفلسطينية؟
- هنا يمكنني العودة الى اتفاق أوسلو، لأقول إن قيادة ياسر عرفات التي أنجزت الاتفاق الذي تلاه التفسخ الفلسطيني على ما شهدنا، فنشأت "إمارة" في غزة وسلطة في الضفة الغربية، مما أدى الى وصول القضية الفلسطينية الى ما وصلت اليه. لذا أخذ الانسان العربي الملتزم بهذه القضية يقول لنفسه: لا يمكنني أن أكون ملكاً أكثر من الملك، ما دامت القيادة الفلسطينية اختارت ذاك الخيار. أما التاثير الراهن والمقبل للانتفاضات العربية على الشعب الفلسطيني، فأرى أنها ستدفعه في اتجاه نضال مدني سلمي غير عنفي، وضد التمييز العنصري الاسرائيلي غير المعلن. فالتمييز العنصري مسألة مدانة عالمياً. وهذا ما سيمنح النضال الفلسطيني المدني والسلمي تعاطفاً عالمياً كبيراً في الداخل الفلسطيني، حيث تقوم دولة التمييز العنصري التي صنعتها اسرائيل ضد الفلسطينيين.
العلمانية ضرورية للديموقراطية وللحدّ من استبداد الأكثرية
يرى صادق جلال العظم ان العلمانية هي الاجراءات التي توضع للحد من الاستبداد. وتحديداً الاستبداد الديني الكنسي، أو حكم ولاية الفقيه مثلا، او الديني على الطريقة العثمانية إبان الامبراطورية. العلمانية ميزتها انها ذات طاقة استيعابية، بقدرتها على استيعاب الاثنيات والمذاهب والأقليات. وهو يعتبر العلمانية من ضرورات الديموقراطية. البعض لا يحب مفهوم العلمانية، ويستعمل مفهوم المدنية مكانه. لكن لتكون الديموقراطية ديموقراطية مواطنين، وليس ديموقراطية توازن جماعات ومذاهب او طوائف (على الطريقة اللبنانية مثلا)، لا بد من ان تحتل رابطة المواطنة القيمة العليا. والرابطة هذه مكون اساسي في أي دولة علمانية. ويضرب العظم حارس الضاري مثلاً، وهو رئيس هيئة العلماء السنة في العراق، وكان أعلن انه ضد الدولة الدينية في بلاده، رغم أنه شيخ معهم. ودافعه الى هذا الموقف هو خوفه من أن تكون الدولة الدينية في العراق، شيعية. وخوفه هذا أرغمه على تبني فكرة الدولة العلمانية التي تقوم على الحياد النسبي للدولة حيال مكونات المجتمع الاثنية والمذهبية والثقافية والدينية
والإسلام التركي مثالأً ديموقراطياً محتملاً
يرى المفكر السوري صادق جلال العظم، صاحب "النقد الذاتي بعد الهزيمة" (1967)، و"نقد الفكر الديني" في اواخر ستينات القرن الماضي، ان الثورات والانتفاضات العربية الراهنة تستأنف القيام على الاستبداد، وتقطع مع أنظمته. والحراك السياسي والاجتماعي الكبير الذي ستطلقه هذه الثورات، سيحمل الاسلام السياسي العربي على تقبل الديموقراطية والتعدد، استلهاماً للنموذج التركي.
في اطار تفكيرك السياسي وسياقه، كيف تنظر الى الثورات العربية الراهنة: هل ترى انها تشكل قطيعة مع حقبة سابقة، ام استئنافاً لما فات؟
ليس من مهمات الفكر السياسي أن يتنبأ أو يصدر احكاما قاطعة. فهو يمكنه أن يكون دقيقاً ومنظماً وعلمياً بقدر نسبي. ويمكنه أن يرصد عوامل الظواهر والحوادث وخلفياتها، ويقدم بعض التوقعات. أما التنبوء فنادراً ما يكون صحيحا، الا بالمصادفة. ومن أهم الأفكار المتداولة عن الانتفاضات والثورات العربية الراهنة، هي قيامها على الاستبداد ورفضها الاستبداد. وهذا ما يعيدنا او يذكرنا بعصر عبد الرحمن الكواكبي، وكتابه "طبائع الاستبداد". وفي هذا المعنى قد تكون هذه الثورات استئنافا او استعادة. والتفاؤل في هذا السياق يشوبه شيء من الخوف مبعثه شعور بأن تاريخنا يراوح في مكانه ولا يتقدم، بل يستأنف عصر الكواكبي. فالشعارات التي رفعتها الثورات العربية، حتى في بلاد قبلية مثل اليمن، تركز على الكرامة والحرية، وكلها تحمل طابعا ليبراليا كلاسيكياً...
لماذا تقول ليبرالياً، وليس ديموقراطياً؟
هنالك فارق بين الليبرالية والديموقراطية. ففي التسلسل التاريخي، سبقت الليبرالية التي تؤكد الكرامة وحقوق الانسان والحريات والدستور، الديموقراطية في معناها الواسع. اذا اخذنا الأتاتوركية الكمالية (نسبة الى كمال اتاتورك) نلاحظ ان علمانيتها لعبت في تركيا دوراً شبيهاً بالدور الذي لعبته الليبرالية في التاريخ الاوروبي.
ورغم أن الليبرالية كانت سلطوية في أحيان كثيرة، فان منطلقها الأساسي كان الحد من الاستبداد، من دون أن تضمن الديموقراطية التي تحتاج الى نقلة جديدة لإرساء آلياتها، عقب الخلاص من الاستبداد. واذا اتخذنا ما حصل في البحرين مثلا، نجد، في اختصار، ان المطلب الاساسي هو الملكية الدستورية، وأن لا يكون رئيس الوزراء معيناً من القصر، بل حصيلة توازنات في الساحة السياسية. ومطلب الاحتجاجات في سوريا شبيه بالبحرين، من حيث المطالبة السورية برئيس دستوري، ورئيس وزراء لا يعيّنه القصر الرئاسي، بل خارج من الساحة السياسية ايضا، او من ميدان الحياة العامة. اما الديموقراطية فأعتقد انها تحتاج الى شيء اضافي يفترض مشاركة شعبية واسعة تحددها الآليات الانتخابية.
وفي هذا الاطار يمكننا ان نعتبر تركيا نموذجاً واضحاً في ما يتعلق بالديموقراطية. واذا نظرنا الى التيارات الاسلامية غير الجهادية، نرى اليوم أنها صارت ترفع الديموقراطية شعاراً، باعتبارها حكم الاكثرية. لكن من قال ان الاكثرية غير مستبدة؟ فهي من دون ضوابط وحدود، تحتكر السلطة وتستبد بالبلاد. لذا فان الديموقراطية لا تستقيم من دون اعتراف الاكثرية بحقوق الاقليات.
امتحان الاسلام الحاسم
هل ترى أن الثورات الراهنة همّشت الاسلام السياسي الصاعد منذ ثمانينات القرن الماضي؟
ارى ان هنالك مظهرين في هذه الثورات، يشير الأول الى تهميش الاسلام السياسي، ويشير الثاني الى تحوله:
-1 الشعارات والنداءات التي رفعها المتظاهرون في سائر البلدان تقريباً، بعيدة كل البعد من شعارات الاسلام السياسي المعروفة.
-2 النموذج التركي الذي لم يهمّش الاسلام السياسي، يقدم للحركات الاسلامية في البلدان العربية، نموذجا او مثالا، يشبه خشبة خلاص يتجلى في امكان وصول حزب اسلامي الى السلطة من طريق الانتخابات الديموقراطية السلسة، وغير المشكوك في نزاهتها، ومن دون ان تتعرض البلاد للانهيار او للحرب الاهلية، كما حدث في الجزائر والسودان والعراق. اما الحركات الجهادية الاسلامية العنيفة، فأعتقد انها ستبقى حاضرة في المدى المنظور، ولكنها سوف تضعف وتتقهقر لصالح اسلام معتدل وسلمي يستلهم النموذج التركي.
هل تلمس ان التغير في شعارات الاسلام السياسي، الاخواني خصوصا، تغير حقيقي وجدّي، ام انه يماشي الظروف الراهنة؟
- لنقل اولاً ان هذا التغير حصل على صعيد الخطاب السياسي للحركات الاسلامية. ومثل كل شيء يبدأ، يمكن ان يتطور بتأثير الحراك السياسي والاجتماعي، تطورا ايجابيا او سلبياً. انا أميل الى القول ان فاعلية النموذج التركي كمثال اسلامي، اضافة الى التعددية السياسية والايديولوجية التي ستطلقها الثورات الراهنة، سوف تؤديان الى توازنات وضوابط تدفع الحركات الاسلامية السلمية في اتجاه تقبل الديموقراطية والتعدد والتنوع. واعتقد اننا سنكون حيال امتحان حاسم، حين يأتي يوم يخسر فيه "حزب العدالة والتنمية" التركي الانتخابات، لنرى ان كان سيتخلى عن السلطة، وان كانت ديموقراطيته جدية وحقيقية، وأنه سيتخذ موقع المعارضة. اذا نجح هذا الامتحان في تركيا، سيكون له اثر كبير خارجها، اي في البلدان العربية، حيث سنكون حيال قفزة هائلة الى الامام.
أراك تركز كثيراً على الاسلام التركي كنموذج ومثال. لكن تركيا "العدالة والتنمية" سبقتها حقبة قومية كمالية أتاتوركية ناجزة، على خلاف الحقبة القومية العربية التي يمكن القول إنها محبطة، ولم تفضٍ الى انجاز...
- الحقبة القومية التركية انجزت 80 % من مهماتها، اي تحويل مركز الامبراطورية العثمانية المهزوم والمحتل، الى دولة قومية ناهضة. فهي قدمت انجازات عسكرية في الحرب الثانية، واتجهت نحو العلمانية والحداثة. اما القومية العربية فلم تستطع ان تنجز الأهداف التي وضعتها لنفسها، بل هي على العكس من ذلك نكصت عن اهدافها. فبقدر ما تناهض الدول العربية معاهدة سايكس- بيكو، نراها تدافع عنها ضمنا، وحتى عسكريا. التيارات القومية العربية عندما تكون في السلطة وتحصل بينها خلافات حدودية، نراها تعود الى سايكس- بيكو التي تناهضها. اما لماذا فشلت القومية العربية في تحقيق اهدافها؟ فسؤال كبير. وفي سياق تاريخي عام، يمكن القول ان المشاريع القومية فشل بعضها، والبعض الآخر حالفه النجاح منذ ما بعد الحرب العالمية الاولى. المشروع القومي العربي كان فاشلاً، وهنالك الكثير من النظريات والأفكار في هذا الفشل.
فشل القومية العربية
انطلاقاً من هذا الفشل، ما هي القومية العربية، هل هنالك فعلاً وحقيقة قومية عربية؟
- بمعنى ما هنالك قومية عربية. ومن مفارقات الانتفاضات والثورات الراهنة التي بدأت في تونس، رأينا أن كل نظام عربي أخذ يقول إنه ليس تونس. وهذا ما بدأت مصرفي قوله. وهنا يمكن التساؤل: أين أواصر العروبة، أين الثقافة المشتركة، أين الدين؟! ثم سارع النظام السوري الى القول إنه ليس تونس ولا مصر. أما المواطنون العرب على اختلاف بلدانهم – وأنا واحد منهم – فلم يشعروا منذ زمن بعيد بالتقارب في ما بينهم، مثلما شعروا في هذه الحقبة. فمشاكل العالم العربي، آماله وانسداداته ومعضلاته، متقاربة. وهذا ما بينته الثورات الراهنة التي تشبه تسونامي مفاجئاً ومتسارعاً. هذا يؤكد التشابه بين البلدان العربية في ما يتعلق باستبداد أنظمة الحكم فيها، ومطلب الحرية والعدالة. أنا منذ زمن بعيد لم يستفق لديّ إحساس عربي جامع، مثلما استفاق اليوم، مع أن وعيي عروبي منذ حرب السويس في العام 1956.
لكن ألا تتضمن هذه الانتفاضات والثورات عنصراً أساسياً ضد العروبة في معناها القديم، وخصوصاً الناصري؟
- لا أظن أن هذه الثورات قامت ضد العروبة، بل هي تقيم قطيعة معها قد يكون باعثها اليأس من تلك العروبة. هنالك قطيعة في الشعارات وأشكال التظاهر. لم نتعود على تظاهرات عربية تحضر فيها النساء، كما شاهدنا في التظاهرات الراهنة التي حضر فيها الاطفال والفتيات والعائلات والافراد، كما حضرت الموسيقى والفنون والاغاني. ثم إننا لم نشهد مظاهر عنف، كحرق الأعلام، ولا توحيد للشعارات. وهنالك ايضاً ظاهرة الفرح في التظاهر، على خلاف التظاهرات السابقة التي يغلب عليها العبوس. فالذي كان العبوس بادياً على وجهه هو الناطق الرسمي باسم الجيش المصري في أثناء قراءته البيانات العسكرية، على خلاف وجوه الجموع المصرية في الشوارع.
على صعيد الفكر السياسي، ما الأثر الذي تتوقعه نتيجة لهذه الثورات؟ وما السؤال الذي ستطرحه على الفكر السياسي العربي؟
- لا يمكن ألا يكون لهذه الثورات أثر كبير على صعيد الفكر السياسي الذي سيكون أقرب الى الليبرالية الديموقراطية. سوف تظهر مذاهب ونظريات جديدة تدفع في هذا الاتجاه. مبدأ فصل السلطات مثلاً، سوف يتقدم ويتخذ حيزاً واسعاً في الفكر السياسي، وكذلك مبدأ تداول السلطة، وشفافية القضاء، واحترام حقوق الانسان وحريات المواطن. إذا تحقق 50 أو 40 في المئة من هذه الشعارات، نكون قد انجزنا إنجازاً كبيراً.
على صعيد فكرة الدولة وحضورها في المجتمعات العربية، هل تتوقع إنجازات كبرى؟ فالدولة في المخيلة العربية لصيقة بالاستبداد غالباً، أو تكون الدولة غائبة، وفي أحسن الاحوال ضعيفة وفي حال من الانحطاط.
- من حيث المبدأ، لا بد من أن السعي الى دولة قوية وحديثة، سيكون حاضراً. لكن من شروط هذا السعي على الصعيد العملي، هنالك تحسين مستوى التعليم، وشيء من الازدهار الاقتصادي والنمو الثقافي. مثل هذه الشروط لازمة وضرورية لقيام دولة حديثة، رغم أنها غير كافية. وعندما نفكر في هذه المسائل في المجتمعات العربية، سوف يطالعنا الغم والقلق. مشكلة التزايد السكاني في مصر وسوريا مثلاً، اضافة الى العجز الطويل عن مقاربتها، تطرح هموماً كبرى. لكن لا بد من الرجاء في حال ظهور مناخات ديموقراطية تتيح مناقشة علنية وجديدة لمشكلات المجتمعات العربية المتراكمة والمهملة منذ زمن بعيد.
الدول العربية مستبدة سياسياً، ومستقيلة اجتماعياً. والسياسة هي الأمن، واشاعة فراغ اجتماعي وسياسي كبيرين.
- هذا يذكر بالفكر السياسي في بلدان شمال أفريقيا، حيث هنالك المخزن، أي الدولة، وبلاد السيبة، أي البلاد السائبة، خارج سلطان الدولة.
كلفة الإسلام الأصولي
إذا عدنا الى مسألة الإسلام السياسي في البلدان العربية وفي أطيافه المختلفة، نلاحظ أن المنطقة صُبغت بالاسلام ونهضته، وبالخوف منه، منذ ثمانينات القرن الماضي. مع الثورات الراهنة، ظهر أن حجم الاسلام والخوف منه ليسا على الصورة التي أعطيت لهما.
- قد يكون هذا صحيحاً. لكنني في الاساس لا أجد أن فكرة خوف الغرب من الاسلام فكرة حقيقية، إذ ما الذي يملكه الاسلام ويمكن أن يخيف الغرب فعلاً؟
- قد يكون الغرب خائفاً على المجتمعات الاسلامية، ومن نتائج تدهورها الكارثي عليه.
- لكن علينا أن نلاحظ أن الاسلام كان حليفاً للغرب في أثناء الحرب الباردة، إن على صعيد الاسلام الرسمي (كالسعودية، و"الحلف الاسلامي" في الحقبة الناصرية)، أو على صعيد الحركات السياسية (كالإخوان المسلمين)، وصولاً الى المنظمات الجهادية في افغانستان للحرب على الشيوعية أيام الاتحاد السوفياتي. لذا أعتقد أن الغرب لا يخاف من الاسلام بالقدر الذي تشيعه وسائل الاعلام. أما في ما يتعلق بالحرب على الارهاب اضافة الى عوامل سياسية أخرى، وتزايد حجم الجاليات الاسلامية في أوروبا، فليس الامر على الصورة التي يجري إظهارها. فالغرب يعلم أن لديه القدرة على ضبط هذه الظواهر، لكنه في الوقت نفسه يريد أن يستخدمها كفزاعة في السياسات الدولية. وهذا ما يمنح التيارات الدينية الاسلامية شعوراً بالزهو بقوتها لأنها تخيف أوروبا وأميركا. وإذا أخذنا الجزائر مثلاً، نرى أن إندفاع الاسلام الاصولي الجزائري للوصول الى السلطة، كلف الجزائر نفسها أثماناً باهظة يزيد حجمها أضعاف ما تكبده الغرب في ماجرّه عليه نهوض التيارات الاسلامية، بما في ذلك ما جرّته غزوة 11 أيلول 2001 على الولايات المتحدة الاميركية. لذا أرى أن ما تكبده التيارات الاسلامية لمجتمعاتنا من أكلاف وخوف، يفيض عما تكبده للمجتمعات الغربية.
هل ترى في الأفق من تأثير للانتفاضات العربية الراهنة على القضية الفلسطينية؟
- هنا يمكنني العودة الى اتفاق أوسلو، لأقول إن قيادة ياسر عرفات التي أنجزت الاتفاق الذي تلاه التفسخ الفلسطيني على ما شهدنا، فنشأت "إمارة" في غزة وسلطة في الضفة الغربية، مما أدى الى وصول القضية الفلسطينية الى ما وصلت اليه. لذا أخذ الانسان العربي الملتزم بهذه القضية يقول لنفسه: لا يمكنني أن أكون ملكاً أكثر من الملك، ما دامت القيادة الفلسطينية اختارت ذاك الخيار. أما التاثير الراهن والمقبل للانتفاضات العربية على الشعب الفلسطيني، فأرى أنها ستدفعه في اتجاه نضال مدني سلمي غير عنفي، وضد التمييز العنصري الاسرائيلي غير المعلن. فالتمييز العنصري مسألة مدانة عالمياً. وهذا ما سيمنح النضال الفلسطيني المدني والسلمي تعاطفاً عالمياً كبيراً في الداخل الفلسطيني، حيث تقوم دولة التمييز العنصري التي صنعتها اسرائيل ضد الفلسطينيين.
العلمانية ضرورية للديموقراطية وللحدّ من استبداد الأكثرية
يرى صادق جلال العظم ان العلمانية هي الاجراءات التي توضع للحد من الاستبداد. وتحديداً الاستبداد الديني الكنسي، أو حكم ولاية الفقيه مثلا، او الديني على الطريقة العثمانية إبان الامبراطورية. العلمانية ميزتها انها ذات طاقة استيعابية، بقدرتها على استيعاب الاثنيات والمذاهب والأقليات. وهو يعتبر العلمانية من ضرورات الديموقراطية. البعض لا يحب مفهوم العلمانية، ويستعمل مفهوم المدنية مكانه. لكن لتكون الديموقراطية ديموقراطية مواطنين، وليس ديموقراطية توازن جماعات ومذاهب او طوائف (على الطريقة اللبنانية مثلا)، لا بد من ان تحتل رابطة المواطنة القيمة العليا. والرابطة هذه مكون اساسي في أي دولة علمانية. ويضرب العظم حارس الضاري مثلاً، وهو رئيس هيئة العلماء السنة في العراق، وكان أعلن انه ضد الدولة الدينية في بلاده، رغم أنه شيخ معهم. ودافعه الى هذا الموقف هو خوفه من أن تكون الدولة الدينية في العراق، شيعية. وخوفه هذا أرغمه على تبني فكرة الدولة العلمانية التي تقوم على الحياد النسبي للدولة حيال مكونات المجتمع الاثنية والمذهبية والثقافية والدينية