لا يوجد كثير من السوريين لا يدركون تماما معنى جملة «قرد ولاه» بقاف مقلقلة مغلظة وتنطق بازدراء واحتقار كبيرين. شخصيا أول مرة أسمع هذا اللفظ المقيت و«أراه» يطبق عمليا كانت في مطار دمشق وفي طابور متعلق بالإجراءات الجمركية.. قام شرطي أو ضابط مسؤول برفع صوته على أحد الركاب السوريين المنتظرين لدورهم وضربه كفا على وجهه وهو يسأل «قرد ولاه؟» والشيء المفزع والمرعب والمخيف أن أحدا لم يلتفت أو يتحرك أو يفتح فمه حتى من باب الدهشة، أدركت أن الخوف والرعب والذعر ولد في نفوس الناس حالة من التبلد والجمود واللامبالاة حولتهم إلى أشبه «بالروبوت الخائف!»، منظر مرعب ومشهد لا إنساني. ولكن هذا المسلك الهمجي لا يبدو أنه منحصر في تصرف عسكري مسؤول في مرفق عام ولكنه نهج إداري للنظام في سوريا اليوم، والمشاهد خير دليل؛ فها هو نائب الرئيس السوري المغلوب على أمره يترأس ندوة للحوار الوطني بين النظام والمعارضة أو هكذا صورت للعالم ولكن غاب عن الحضور كافة رموز المعارضة من الوزن الثقيل واضطرت الحكومة السورية لأن تعبئ الكراسي في قاعة المناسبة الضخمة بأعداد من الفنانين والنقابيين وشخصيات غير معروف أسباب وجودها في مناسبة حيوية من هذا النوع مثل وجود الإعلامي التونسي غسان بن جدو؟! وهو الذي انحاز وبشدة في صف النظام السوري منذ اندلاع الثورة السورية.
وطبعا سبب غياب المعارضة السورية «الحقيقية» عن الحضور علمها وإدراكها التام وعن سابق تجربة أن مصداقية النظام فقدت؛ فبينما كان فاروق الشرع يغزل بلسانه أعذب الكلمات ويبيع لإعلام العالم أجمل الوعود، كان الناس يتوقعون أن تدخل ترسانة الجيش السوري إلى حماه أولا انتقاما من المدينة التي «عرت» حقيقة الأمر على أرض الواقع وكشفت النظام وأظهرت حجم الثورة وكم المعارضين بعد خروج ستمائة ألف متظاهر في جمعة واحدة ونفس العدد أو أكثر في الجمعة التي تلتها مما أربك النظام وجعله مضطرا لفصل وعزل المحافظ (وهو ثالث محافظ يفقد منصبه منذ انطلاق الثورة السورية بعد أن سبقه محافظا درعا وحمص)، ولكن الدبابات السورية والمدرعات المصاحبة لها دخلت مدينة حمص مثيرة الذعر والرعب في نفوس سكانها ومطلقة الرصاص بشكل همجي وغير معقول مسقطة الجرحى وبعدها تحولت إلى حماه بنفس الشراسة وبنفس الوحشية وبنفس العدوانية. كيف تستقيم هذه الازدواجية التي هي أقرب للانفصام في الشخصية الحاكمة؟ يد تمتد للحوار والمصالحة وأخرى تطعن بدم بارد غير مكترثة لا بالنسوة ولا الشيوخ ولا الأطفال ولا الأبرياء.
نفس التركيبة والعقلية والنفسية التي حكمت سوريا بالحديد والنار، تم إقناعنا أن الوضع تغير وأن الرئيس الجديد «شاب وطبيب عيون» و«حباب بيحكي إنجليزي وبيفهم بالإنترنت» وأنه «كثير فهمان العالم» لكن (كانت دوما هناك لكن)، مشكلته أنه مضطر لتحمل الحرس القديم الخاص بوالده ويجب أن تعذروه، وتدريجيا استبدل الرئيس بشار الأسد بالحرس القديم حرسا جديدا لا يقل ضراوة ولا عنفا عن حرس أبيه فلا تفاهم لديه بخصوص الحريات السياسية ولا المشاركة الشعبية الحقيقية في الحكم ولا الشفافية ومحاربة الفساد وتحسين القضاء وتعديل الدستور وتحجيم حزب البعث وإزالة المخابرات والعسكر والسطوة الأمنية من على رقاب العباد. هذا هو ما فشلت فيه المنظومة الحاكمة في سوريا وهي اليوم مرتبكة متلعثمة ومتعثرة تحاول «لملمة» و«ترميم» ما يمكن عمله على عجالة ولكنها غير قادرة لأنها غير مقتنعة بذلك لأنها هي نفسها نتاج الجبروت والظلم والاستبداد الذي أوصلها للحكم والاستمرار فيه.
سوريا أفرزت عبقريات سياسية في السابق، ولذلك يبدو المشهد الحالي بائسا وحزينا ببعده الشديد عن المبادئ الأخلاقية التي كانت تحكم بها سوريا قديما، وهي مختلفة تماما عما يحدث اليوم. فأديب الشيشكلي الرئيس العظيم الذي ترك منصبه حقنا لدماء السوريين عندما استشعر أن بقاءه في المنصب سيكون مصدر فتنة بين أفراد الشعب أو ناظم قدسي الذي كان يحارب بسلوكه وأخلاقه كل أوجه الانتفاع من المناصب وسعد الله الجابري ورشدي كيخيا.. كانوا دوما يقدمون الصالح العام على المصلحة المحدودة.. وهناك غيرهم من النماذج الوطنية الصادقة الحقيقية.
سوريا لها من العزة والتاريخ والمجد والتراث والكرامة ما يجعلها تفرز فطاحل من الساسة والاقتصاديين قادرين على أن يحكموا بلادهم ويوصلوها بمهارة وحنكة إلى بر الأمان. أما الاعتقاد أن شخصا واحدا ومن ثم ابنه هما ملاذ البلاد وأمله وأمنه مما يجعل البلد كلها تختزل في صورتهما فتسمى «سوريا الأسد» فهو تحقير واستهزاء بسوريا ومجدها وتاريخها. إذا كان صمت الحكومات العربية مستمرا وصمت المجتمع الدولي مستمرا بحق المجازر التي يرتكبها النظام بشعبه فإن لليل آخرا وهذا الوضع لن يطول، وأذكر النظام في سوريا.. صدام كان في حفرة وبعدها كرت «السبحة»: واحد هرب، وواحد حجز، وواحد مختبئ، وواحد انحرق، وواحد مكابر. أراهن على الشعب في سوريا لأن عهد المهانة إلى زوال