أيها العالم... كفى تجاهلاً لمأساة سوريا
تاريخ النشر: الأحد 04 أغسطس 2013
في مثل هذا الصيف قبل ثمانية عشر عاماً، وفي بلدة تدعى «سربرينيتشا» تقع شرقي البوسنة والهرسك، شهد العالم عملية قتل ممنهجة لنحو 8 آلاف من الرجال والأطفال البوسنيين وترحيل نحو 30 ألف امرأة عن الأرض التي يقطننها. وبهذا أصبح اسم «سربرينيتشا» مرادفاً ليس فقط للوحشية التي ميّزت الصراع الدموي الذي شهدته يوغوسلافيا السابقة، بل أوحت أيضاً للبشرية جمعاء بأحد أبشع مظاهر الممارسات العنصرية انطواء على الشرّ والشذوذ الأخلاقي.
وخلافاً لما هي عليه العديد من أنواع الكائنات الحيّة، فإن البشر مهيؤون بالفطرة للتعلّم من أخطائهم، ولا شك أن «سربرينيتشا» تُعد واحدة من الأخطاء المأساوية التي تحمل في طيّاتها درساً ذا دلالات بليغة.
والآن، وبعد مرور 18 عاماً على الفظائع المروعة التي شهدتها «سربرينيتشا» والصدمة العالمية التي سببتها الحرب في البوسنة والهرسك، تتكشف أمام أعيننا في سوريا الكارثة البشرية الأكثر فظاعة في القرن الحادي والعشرين. ففي مكان آخر وزمان آخر، نشاهد الآن مأساة حقيقية فظيعة مكتملة العناصر. وهي تحدث اليوم على أرض الواقع بالرغم من تعهّد العالم بأن مثل هذه المآسي «لن تتكرر من جديد».
وبعد مرور ثلاث سنوات على بداية الحرب المريرة في البوسنة والهرسك، بلغ عدد الضحايا 300 ألف، وفاق عدد اللاجئين والمهجّرين 1.3 مليون. وفي سوريا، قتل ما يزيد على 100 ألف شخص منذ انطلاق الانتفاضة الشعبية السلمية عام 2011. وأصبح نحو 7 ملايين سوري بحاجة للمساعدات الإنسانية، و4 ملايين آخرون تم تهجيرهم من بيوتهم وباتوا يهيمون على وجوههم بحثاً عن اللجوء إلى دول مجاورة تؤويهم.
وفي عام 1992، كان الأبرياء يُقتلون في شارع «فازي ميسكينا» في سراييفو عندما كانوا يصطفّون أمام أحد الأفران للحصول على الخبز. وفي عام 2013، بات السكان الأبرياء في حلب وحمص أهدافاً للقوّات النظامية الهمجية أثناء محاولتهم الحصول على الخبز لإطعام عائلاتهم.
وفي البوسنة والهرسك، كان المدنيّون العُزّل يتعرضون للهجوم بمختلف أنواع الأسلحة والمدفعية الثقيلة. وفي سوريا، تسقط فوق رؤوس المواطنين الأبرياء الصواريخ الباليستية الموجهة بدقة نحو الأهداف المدنية. وتم التأكد مؤخراً وبما لا يدع مجالاً للشك بأن النظام الحاكم في سوريا استخدم الأسلحة الكيميائية ضد شعبه.
وكان التطهير العرقي يمثل المشهد الأكثر بروزاً في مجريات الصراع في البوسنة والهرسك. وفي سوريا، يرتكب النظام ومن دون رحمة أو استحياء، مئات المذابح في حق المدنيين على مرأى ومسمع من العالم. فلماذا يسمح المجتمع العالمي بكل ما ينادي به من دعوة إلى السلام والرحمة، بحدوث هذه المآسي مرة أخرى؟. خاصة وأن المبدأ الذي تبنّاه النظام السياسي العالمي تحت شعار «المسؤولية الجماعية لحماية المدنيين» انبثق من صلب المأساة التي وقعت في البوسنة والهرسك. وإذا كانت مسؤولية حماية المدنيين لا تنطبق على الحالة السورية، فأين يمكنها أن تُطبّق إذن؟.
إلى متى سيواصل مجلس الأمن الدولي النظر إلى الجهة المعاكسة لمجرى الأحداث فيما تتواصل الجرائم البشعة بمشهدها الكامل؟، وإلى متى سيبقى المجتمع الدولي صامّاً أذنيه في وقت بات فيه 5 آلاف سوري يفقدون حياتهم شهرياً على أيدي نظام دمشق؟ وهل ينتظر العالم اعتذاراً جديداً من الأمين العام للأمم المتحدة عن تقصيره في مواجهة كارثة بشرية جديدة شبيهة بتلك التي شهدتها البوسنة والهرسك؟.
نحن على ثقة من أن شعب سوريا سيتمكن من تحرير نفسه آخر المطاف من ربقة هذا النظام الدموي الذي يحكمه. وإرادة الشعب هي التي تنتصر على الدوام. وبعد عقود من القمع والاضطهاد، بات السوريون يتطلعون للحياة في وطن تنتصر فيه إرادتهم بدلاً من إرادة حكامهم المتسلّطين، وحيث ستكون السلطة بأكملها بيد الشعب الذي يتطلع لاستعادة القيم المتعارف عليها في العالم وعلى رأسها الديموقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون والحكم العادل الذي حرموا منه.
وسيظل بواسل الرجال والنساء السوريين يُذكرون على مدى الأزمان المقبلة لما أظهروه من معاني البطولة والشجاعة أثناء كفاحهم النبيل من أجل تحقيق تلك الأماني والتطلعات.
وفي القرن الحادي والعشرين، لن يبقَ مكان في العالم لمظاهر الاضطهاد الوحشي الذي يميّز عقلية العصور الوسطى. ولن يتحقق ذلك ما لم نتّعظ من الدروس التاريخية التي يمكنها أن ترشدنا إلى الطريق القويم.
وبعد عقدين من الرعب الفظيع الذي ساد البوسنة والهرسك، هل ينبغي أن يبقى الثمن الذي يتحتم عليك دفعه لنيل حريتك مرتفعاً إلى هذا الحدّ؟.
وعندما سيتطلع أبناء الجيل المقبل للثورة السورية، فسيحرصون على الحكم على موقف كل إنسان بمفرده. وهذا هو الوقت المناسب للسوريين جميعاً وللمجتمع الدولي ليأخذ كلّ منهم مكانه الصحيح في مدوّنة التاريخ. وخلاصة القول إن التاريخ سيستمر في تكرار نفسه ما لم نتعلّم من دروسه.
أحمد داوود أوغلو- وزير خارجية تركيا
زلاتكو لاغومدجيا- نائب رئيس الوزراء ووزير خارجية البوسنة والهرسك
ينشر بترتيب مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"
تاريخ النشر: الأحد 04 أغسطس 2013
في مثل هذا الصيف قبل ثمانية عشر عاماً، وفي بلدة تدعى «سربرينيتشا» تقع شرقي البوسنة والهرسك، شهد العالم عملية قتل ممنهجة لنحو 8 آلاف من الرجال والأطفال البوسنيين وترحيل نحو 30 ألف امرأة عن الأرض التي يقطننها. وبهذا أصبح اسم «سربرينيتشا» مرادفاً ليس فقط للوحشية التي ميّزت الصراع الدموي الذي شهدته يوغوسلافيا السابقة، بل أوحت أيضاً للبشرية جمعاء بأحد أبشع مظاهر الممارسات العنصرية انطواء على الشرّ والشذوذ الأخلاقي.
وخلافاً لما هي عليه العديد من أنواع الكائنات الحيّة، فإن البشر مهيؤون بالفطرة للتعلّم من أخطائهم، ولا شك أن «سربرينيتشا» تُعد واحدة من الأخطاء المأساوية التي تحمل في طيّاتها درساً ذا دلالات بليغة.
والآن، وبعد مرور 18 عاماً على الفظائع المروعة التي شهدتها «سربرينيتشا» والصدمة العالمية التي سببتها الحرب في البوسنة والهرسك، تتكشف أمام أعيننا في سوريا الكارثة البشرية الأكثر فظاعة في القرن الحادي والعشرين. ففي مكان آخر وزمان آخر، نشاهد الآن مأساة حقيقية فظيعة مكتملة العناصر. وهي تحدث اليوم على أرض الواقع بالرغم من تعهّد العالم بأن مثل هذه المآسي «لن تتكرر من جديد».
وبعد مرور ثلاث سنوات على بداية الحرب المريرة في البوسنة والهرسك، بلغ عدد الضحايا 300 ألف، وفاق عدد اللاجئين والمهجّرين 1.3 مليون. وفي سوريا، قتل ما يزيد على 100 ألف شخص منذ انطلاق الانتفاضة الشعبية السلمية عام 2011. وأصبح نحو 7 ملايين سوري بحاجة للمساعدات الإنسانية، و4 ملايين آخرون تم تهجيرهم من بيوتهم وباتوا يهيمون على وجوههم بحثاً عن اللجوء إلى دول مجاورة تؤويهم.
وفي عام 1992، كان الأبرياء يُقتلون في شارع «فازي ميسكينا» في سراييفو عندما كانوا يصطفّون أمام أحد الأفران للحصول على الخبز. وفي عام 2013، بات السكان الأبرياء في حلب وحمص أهدافاً للقوّات النظامية الهمجية أثناء محاولتهم الحصول على الخبز لإطعام عائلاتهم.
وفي البوسنة والهرسك، كان المدنيّون العُزّل يتعرضون للهجوم بمختلف أنواع الأسلحة والمدفعية الثقيلة. وفي سوريا، تسقط فوق رؤوس المواطنين الأبرياء الصواريخ الباليستية الموجهة بدقة نحو الأهداف المدنية. وتم التأكد مؤخراً وبما لا يدع مجالاً للشك بأن النظام الحاكم في سوريا استخدم الأسلحة الكيميائية ضد شعبه.
وكان التطهير العرقي يمثل المشهد الأكثر بروزاً في مجريات الصراع في البوسنة والهرسك. وفي سوريا، يرتكب النظام ومن دون رحمة أو استحياء، مئات المذابح في حق المدنيين على مرأى ومسمع من العالم. فلماذا يسمح المجتمع العالمي بكل ما ينادي به من دعوة إلى السلام والرحمة، بحدوث هذه المآسي مرة أخرى؟. خاصة وأن المبدأ الذي تبنّاه النظام السياسي العالمي تحت شعار «المسؤولية الجماعية لحماية المدنيين» انبثق من صلب المأساة التي وقعت في البوسنة والهرسك. وإذا كانت مسؤولية حماية المدنيين لا تنطبق على الحالة السورية، فأين يمكنها أن تُطبّق إذن؟.
إلى متى سيواصل مجلس الأمن الدولي النظر إلى الجهة المعاكسة لمجرى الأحداث فيما تتواصل الجرائم البشعة بمشهدها الكامل؟، وإلى متى سيبقى المجتمع الدولي صامّاً أذنيه في وقت بات فيه 5 آلاف سوري يفقدون حياتهم شهرياً على أيدي نظام دمشق؟ وهل ينتظر العالم اعتذاراً جديداً من الأمين العام للأمم المتحدة عن تقصيره في مواجهة كارثة بشرية جديدة شبيهة بتلك التي شهدتها البوسنة والهرسك؟.
نحن على ثقة من أن شعب سوريا سيتمكن من تحرير نفسه آخر المطاف من ربقة هذا النظام الدموي الذي يحكمه. وإرادة الشعب هي التي تنتصر على الدوام. وبعد عقود من القمع والاضطهاد، بات السوريون يتطلعون للحياة في وطن تنتصر فيه إرادتهم بدلاً من إرادة حكامهم المتسلّطين، وحيث ستكون السلطة بأكملها بيد الشعب الذي يتطلع لاستعادة القيم المتعارف عليها في العالم وعلى رأسها الديموقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون والحكم العادل الذي حرموا منه.
وسيظل بواسل الرجال والنساء السوريين يُذكرون على مدى الأزمان المقبلة لما أظهروه من معاني البطولة والشجاعة أثناء كفاحهم النبيل من أجل تحقيق تلك الأماني والتطلعات.
وفي القرن الحادي والعشرين، لن يبقَ مكان في العالم لمظاهر الاضطهاد الوحشي الذي يميّز عقلية العصور الوسطى. ولن يتحقق ذلك ما لم نتّعظ من الدروس التاريخية التي يمكنها أن ترشدنا إلى الطريق القويم.
وبعد عقدين من الرعب الفظيع الذي ساد البوسنة والهرسك، هل ينبغي أن يبقى الثمن الذي يتحتم عليك دفعه لنيل حريتك مرتفعاً إلى هذا الحدّ؟.
وعندما سيتطلع أبناء الجيل المقبل للثورة السورية، فسيحرصون على الحكم على موقف كل إنسان بمفرده. وهذا هو الوقت المناسب للسوريين جميعاً وللمجتمع الدولي ليأخذ كلّ منهم مكانه الصحيح في مدوّنة التاريخ. وخلاصة القول إن التاريخ سيستمر في تكرار نفسه ما لم نتعلّم من دروسه.
أحمد داوود أوغلو- وزير خارجية تركيا
زلاتكو لاغومدجيا- نائب رئيس الوزراء ووزير خارجية البوسنة والهرسك
ينشر بترتيب مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"