هل صحيحٌ أن الإسلام لا يَصلُح للحكم في القرن الحادي والعشرين ؟
بقلم : أبو ياسر السوري
تأصيل الموضوع :
لماذا يتحامل العلمانيون على الإسلام ؟ فكثيراً ما نقرأ لكُتَّاب يشككون في صلاحيته لحكم البشرية ، ويزعمون أن نظام الحكم فيه غير صالح للتطبيق في القرن الحادي والعشرين ، وإنما صَلُحُ لفترة محدودة ، قبل 14 قرنا ، وفي بيئة بدوية متخلفة عقديا واجتماعيا وعسكريا واقتصاديا . أما وقد تطورت البشرية اليوم ، وأحرزت كل هذا التقدم في مختلف مناحي الحياة ، فلم يعد الإسلام صالحا لأن يقود مسيرتها ، وإلا قادها بعكس التيار ، ولا تلبث في ظل حكمه أن تنهار ... ويضيف هؤلاء الكتاب : أن الدين مخصص لتنظيم العلاقة بين الرب والإنسان ، ولا علاقة له بشؤون الناس فيما بينهم .. ومنذ أيام سمعت على قناة العربية من يقول يجب أن ينزه الإسلام عن أكاذيب السياسة ودنسها. وآخر يقول: الحكم من أمور الدنيا . والحديث الشريف يقول : أنتم أعلم بأمور دنياكم ...
وكل ما قيل ، ويمكن أن يقال حول اتهام الإسلام " بعدم صلاحيته لحكم البشرية في هذا العصر" إنما هو مقولة لم يتفوه بها إلا جاهل بشرعة الإسلام ومنهاجه والهدف الذي جاء من أجله ... لهذا ينبغي إيجاد أرضية مشتركة ، نقف عليها مع من يزعم " أن الإسلام لا علاقة له بالحياة ؟ ويقول بوجوب فصله عن الدولة .
علاقة الإسلام بالحياة الدنيا :
هل الإسلام مقصور على تصحيح العلاقة بين العباد وربهم ، وأداء ما أوجب عليهم من : توحيد لله وصلاة وصيام وزكاة وحج .؟ أم أن تعاليمه الإلهية ، شاملة لإصلاح أحوال العباد في دنياهم ، وإرشادهم إلى ما يسعدهم في أُخْرَاهُم .؟؟
ومما لا شك فيه أن الإسلام معنيٌّ بتنظيم علاقة العبد بربه (أولا ) ثم إنه معني بعلاقة العبد بأسرته وذوي قرابته ومجتمعه الإسلامي العام (ثانيا) كما أنه معني بعلاقته بأخيه الإنسان من غير المسلمين في الإطارين الفردي والدولي (ثالثا) ولو رجعنا إلى سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لرأينا أنه كان رئيسا لدولة الإسلام وممسكا بأزمة الحكم فيها ، يقوم بنظيم شؤون المسلمين في سلمهم وحربهم ، مثلما كان إماما لهم يقتدون به في عباداتهم تجاه ربهم .
وعلى هذا ، فالذين يزعمون أنه لا علاقة للدين بالحكم وإدارة شؤون الحياة ، هم أناسٌ يعطلون بهذه المقولة شطر الإسلام ، ويلغون كل الأحكام الشرعية ، الكفيلة بتنظيم أحوال المجتمع الإسلامي ، من زواج ونفقة وميراث وتكافل اجتماعي . وفض للخصومات ، وفصل في النزاعات . وكبح لجماح المجرمين ، وحفظ للضرورات الخمس : الدين والنفس والعرض والعقل والمال ... وتعطيل هذه الأحكام التنظيمية ، التي جاء بها الإسلام ، من شأنه أن يوقع المسلمين في مفسدة الفوضى الاجتماعية ، التي لا تستقيم معها حياة المسلمين فيما بينهم ، وإنما تصبح جحيما لا يطاق ...
هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى ، فإن القول بإقصاء تعاليم الإسلام عن ساحة الحكم ، وعدم العمل بها في العلاقات الدولية .. يسلب المسلمين إمكان التعامل مع الآخرين ، ويجعلهم لا يُحسنون التصرف مع غيرهم لا في سلم ولا في حرب ، مما يجعل وجودهم نشازا بين الأمم . ومما يؤدي بالضرورة إلى مفسدة أكبر من المفسدة السابقة ، ويؤثر سلبا على مسيرة الحياة البشرية أجمع . وفي هذه الحال ، يكون المسلمون هم الخاسر الأكبر بين الأمم . لأن ذلك سيعطي الحق لكل أمة في اختيار صورة حكمها الذي يناسبها ، وسنِّ دستورها الذي يراعي مصالحها ، ووضع القانون الذي ينظم شؤونها ، إلا المسلمين الذين لم يكن لهم خيارٌ في صورة حكمهم ، ولا قرارٌ في سنِّ دستورهم ، ولا رأيٌ في وضع قوانينهم ، وإنما يُفرَضُ عليهم في ذلك كله اختيارُ الآخرين ، ويكونون أشبه بالذيول وراء الأمم الأخرى ، التي تخالفهم في العُرف والخُلق والدِّين ...
لهذا قال تعالى ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا )
وقال تعالى : ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ* )
وقال تعالى : ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ*)
وقال تعالى : ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ*)
أيهما أصلح ، التشريعات البشرية أم شرع الله .؟
وهذا التساؤل يقودنا بالضرورة إلى إجراء موازنة سريعة بين شرع الخالق وتشريع المخلوق .. يعني أن ننظر إلى جذر الموضوع ، لئلا نضيع في التفاصيل ..
ففي كل دول العالم المتحضر ، اصطلح البشر على أن صياغة الدستور والقانون ، هي من مهمات النُّخَبِ المختصة في كل دولة . وجَرَتِ العادةُ أن تستنير هذه النُّخَبُ غالبا بما تواضعت عليه البشرية قديما وحديثا في هذا الباب ، فتستعين بنصوص القوانين الرومانية ذات التاريخ العريق ، أو القوانين الفرنسية والبريطانية الحديثة ...
ومَنْ دَرَسَ تاريخ القوانين بكل فروعها ، الجزائي منها ، والجنائي ، والمدني ، والدولي .. وجد أنها تعرضتْ إلى كثير من التغييرات والتعديلات عبر تاريخها الطويل ... لأن علم البشر محدود وقاصر . فما كان نافعا لهم بالأمس قد يصبح ضارا الآن . وما يحقق العدالة اليوم قد يصبح ظلما صارخاً بعد حين ... ثم إن البشر غير منزهين عن الأثرة وحب الذات ، وصاحب القلم لا يكتب نفسه في زمرة الأشقياء . فقد يحيف واضعوا القوانين على الآخرين لاعتبارات يرونها ، أو امتيازات باطلة يُراعُونها ولا يستطيعون مجابهتها . فالنبلاء مثلا في بريطانيا كانت لهم امتيازات على غيرهم فيما مضى .. والبيض في أمريكا كانوا مميزين على السود بحسب قانون العنصرية ، الذي يفرق ما بين الأبيض والأسود بحسب اللون . ثم تغير هذا القانون إلى أن أصبح أوباما الأسود رئيسا لأمريكا . مما يجعلنا نحكم أن القوانين الوضعية تفتقر إلى الثبات والاستقرار . وتلك مسلمة لا مماحكة فيها .
وتعالوا بنا نتأمل قليلا في ( شرع الله ) لنجد أن لهذا الشرع الإلهي مزايا ليست في القوانين والدساتير البشرية ... إنه شرع منزل من عند الله وشتان ما بين أحكام أنزلها الله ، وأحكام صاغها البشر.. ثم إن هذه الأحكام لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها لأنها تنزيل من حكيم حميد .. ثم إنها أحكام لا تحابي فريقا على فريق ، ولا قردا على فرد ، ولا ذكرا على أنثى ، ولا قويا على ضعيف .. لأن منزلها هو رب البشر جميعا ، والخلق كلهم لديه سواء . ثم إنها أحكام ثابتة مستقرة في الأصول ، منفتحة مرنة في الفروع ، صالحة لكل زمان ومكان ، لأن منزلها واسع العلم ، ينكشف لعلمه ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة .. ولهذه الاعتبارات الكلية ، ولآلاف الاعتبارات الجزئية ، نجد أن شرع الله تعالى هو الأصلح ، والأعدل ، والأكمل ، والأحكم ، من كل دساتير البشر وقوانينها ، بلا استثناء ...
لماذا لم يُطبَّق الشرع الإلهي منذ مئات السنين .؟
بعد انهيار الخلافة العباسية وسقوط بغداد سنة 656 هـ انكسرت شوكة المسلمين ، وتفرقت الأمة شذرَ مذرَ ، وكثرت السلاطين . والأمراء ، منهم المماليك ، ومنهم الأكراد ، ومنهم الأتراك ، ومنهم العرب .. وتحولت دار الخلافة إلى ممالك لا تحصى ، فدمشق مملكة ، وحلب مملكة . وعكا .. وحمص .. وحماة .. إلى أن تغلب العثمانيون وأعادوا الخلافة .. ولكنها وفي أزهى عصورها ، لم تكن خلافة إسلامية بكل معنى الكلمة ... ثم ما لبثت أن انهارت ، وعادت الأمة إلى الفرقة والضعف من جديد . وألغيت مجلة الأحكام العدلية ، التي كانت تمثل القانون الإسلامي ، وفرضت علينا القوانين الغربية .. إلى عصرنا الحاضر ... ثم حال الفساد والاستبداد دون عودة حكم الإسلام . وكان الغرب شديد الإيحاء لحكامنا بأن يعادوا تعاليم الإسلام ، وأن يحولوا دون تحكيم شرعه بين المسلمين .
لذا كان الأجدر أن نسأل : هل من الممكن العودة إلى تحكيم الإسلام؟ فيكون الجواب : نعم ، فقد جرى تحكيمه أيام الخلفاء الراشدين .. ثم اختلفت السيرة قليلا في عهد بني أمية ، ثم جرى تطبيقه مرة أخرى بعد الخلافة الراشدة بـ 90 عاما في عهد عمر بن عبد العزيز .. وما أمكن العودة إلى تطبيقه مرة .. أمكن تطبيقه مرات . فالتجربة أكبر برهان .