1 - ( الخلافة أو الإمامة العظمى في الإسلام )
بقلم : أبو ياسر السوري
كثر الحديث حول هذا الموضوع ، وقد قرأت فيه لأكثر من كاتب ، فلاحظت أن أغلب من كتبوا فيه ، لم يكونوا على إلمام بمداخله ومخارجه ، ولا مطلعين حتى على أبجدياته الأولية ، وحري بمن يخوض في هذا البحث أن يكون مطلعاً على علمين اثنين ، أحدهما : علم السياسة المعاصر الذي أجهله ، وثانيهما : علم أصول الفقه الإسلامي الذي لا أجهله . وبداية أعتذر للقارئ الكريم ، إذا اضطررت إلى الإطالة قليلا ، لأن الموضوع رحب واسع ، لا يمكن اختزاله في اليسير من الكلام ، بيد أني أعد بأن لا أجمع بين الإطالة وتعقيد العبارة ، لتكون هذه بتلك . فأقول وبالله التوفيق :
( الحلقة الأولى )
ـ 1ـ
أهبط الله تعالى آدم عليه السلام إلى الأرض ، واستخلفه فيها ، قال تعالى : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) وشرفه بالوحي والرسالة . ليدعو إلى الله ذريته وأبناءه .. فالأرض كلها موطن خلافته ، وهو أول خليفة فيها . وهي ميراثه لأبنائه من بعده .. ولا ينبغي أن يستشكل هنا أحد في معنى قوله تعالى ( إني جاعل في الأرض خليفة ) فيقول مثلا : عن مَنْ كان آدم خليفة .؟ فإن كان عن الله . فالاستخلاف لا يكون إلا عن غائب ، والله حاضر لا يغيب . وإن كان خليفة عن أحد قبله ، فمن هو السابق الراحل ، الذي خلفه آدم في شأن الأرض ؟ ولماذا سكت عنه القرآن الكريم ؟ ولكن الراغب الأصفهاني ، حل لنا هذا الإشكال ، حين توسع في تفسير معنى الخلافة فقال : ( الخلافة هي النيابة عن الغير ، إما لغيبة المنوب عنه ، أو لموته ، وإما لعجزه ، وإما لتشريف المستخلَف ) بفتح اللام . ولهذا أجاز ابن جرير الطبري ، أن يكون آدم خليفة عن الله بهذا المعنى ، فقال ( إني جاعل في الأرض خليفة عني ، يخلفني في الحكم بين خلقي ، وذلك الخليفة هو آدم ، ومن قام مقامه في طاعة الله ، والحكم بالعدل بين خلقه ) . وعليه فاستخلاف آدم إنما هو تشريف له وتكريم .. واستخلاف ذريته من بعده جارٍ على نفس النسق من هذا التكريم الإلهي قال تعالى ( ولقد كرمنا بني آدم ) . وقال تعالى ( أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ) . ولكنَّ الناس يتفاوتون في هذا الإكرام ، فأكرم على الله هم أنبياؤه ورسله . فهم الذين اختارهم الله لتلقي وحي السماء ، وكلفهم بتبليغه لأهل الأرض . لهذا كانت النبوَّةُ أعلى درجات التشريف ، وكانت الرسالة أرفع مقامات التكريم ، فالرسولُ على قدر المُرسِل ، وشرفُ المكلَّفِ مِنْ شرَفِ التكليف .. والرُّسلُ مكلفون بالدعوة إلى الله ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين .؟ ) ثم اقتضت مشيئته سبحانه وتعالى أن تختم النبوات بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن تكون رسالته خاتمة الرسالات ، قال تعالى : ( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) وقال صلى الله عليه وسلم ( كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ وَإِنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ .. قَالُوا : فَمَا تَأْمُرُنَا قَالَ : فُوا ( من الوفاء ) بِبَيْعَةِ الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ ، أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ ، فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ ) .
ـ 2ـ
فلما توفي عليه الصلاة والسلام ، واصطلح المسلمون على أن يقوم أبو بكر مقامه في تدبير أمر المسلمين .. أطلقوا عليه لقب ( خليفة رسول الله ) فكانوا يخاطبونه بها . فلما توفي أبو بكر ، واستخلف عليهم عمر بن الخطاب ، أطلقوا عليه لقب : ( خليفة ، خليفةِ رسول الله ) فكان عمر يراها تسمية ستكون فيما بعدُ طويلة المبنى .. فألهم الله عمرو بن العاص يوما فقال ( يا أمير المؤمنين ) فاستحسنها عمر ، فقال : ما بدا لك في هذه التسمية يا ابن العاص .؟ قال عمرو : نحن المؤمنون وأنت أميرنا .. فأقره عليها عمر ، ثم درجت على ألسنة الناس ، وصار يخاطب بها كل خليفة جاء من بعدُ على مدار التاريخ ..
وعلى هذا فـ ( الخليفة ) كلمة تطلق ويراد بها مَنْ يخلُفُ رسول الله في الأمة ، ويقوم مقامه في إصلاح ما يهمهم من أمور دينهم ودنياهم ..
وقال أبو بكر الأنباري : الأصل في الخليفة لغة ( الخليف ) بغير هاء ، فدخلت الهاء للمبالغة في مدحه بهذا الوصف . كما قالوا : علَّامة ونسَّابة وراوية ، لمَّا أرادوا أن يبالغوا في المدح ، ولو لم يريدوا المبالغة لقالوا : رجل راوٍ ، وعلّامٌ ، ونسّابٌ .
ـ 3 ـ
ولو تتبعنا تعريف الخلافة لدى علماء الأمة ، لوجدنا أنها لا تخرج عن معنى واحد ، إنها ( حراسة الدين و سياسة الدنيا ) .
قال الإمام الماوردي : ( الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به ) وقال إمام الحرمين الجُوَيْني ( الإمامة رياسة تامة ، وزعامة تتعلق بالخاصة والعامة ، في مهمات الدين والدنيا ) .
ومن هذه التعريفات نجد أن كُلّاً من الماوردي والجُوَيني ، عبَّرا عن الخلافة بالإمامة ، تأسياً بالقرآن الكريم ، قال تعالى : ( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) أي أمراء وملوكا . وقال تعالى ( وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا ) . على أنه من المنظور الإسلامي ، لا فرق بين الخلافة والإمامة في الأثر ، وإنما الخلاف بينهما من حيث النظر.. فإذا نظرنا إلى ما سبق أسميناها ( خلافة ) لأن الخليفة يخلف من سبقه في مهمته . وإذا نظرنا إلى واقع الحال أسميناها : ( إمامة ) لأن الإمام الأعظم ، هو مَنْ يتقدم الناسَ ويأتمُّون به في أمر دنياهم وآخرتهم .
ـ 4 ـ
الإمام والخليفة وأمير المؤمنين : ذكر النووي ، أن الخلافة والإمامة العظمى وإمرة المؤمنين ، مترادفات لمعنى واحد . فالخليفة هو إمام المسلمين في الصلاة ، وإمامهم في المواقف المصيرية ، وهو قائدهم الذي يسير أمامهم في الشؤون العامة ويتبعونه ، يأمرهم ويطيعونه ، لقوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ، وأطيعوا الرسول ، وأولي الأمر منكم ) ولقوله صلى الله عليه وسلم ( من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني . ومن عصى أميري فقد عصاني ) .
ـ 5 ـ
الفرق بين الإمامة والخلافة : ويرى بعض الكتاب الإسلاميين ، أن الشيعة يفرقون ما بين الإمامة والخلافة ، فالإمامة عندهم خاصة برئاسة الدين . والخلافة خاصة برئاسة الدنيا . لذلك يصرون على وصف عليٍّ بها فيقولون ( الإمام عليّ ) لأنهم يعتبرونه الإمام الديني الأعظم ، مع وجود أبي بكر وعمر وعثمان . فلما آلت إليه الخلافة أخيرا ، زعموا أن الله جمع له ما بين الإمامة والخلافة . ولا دليل على هذا من كتاب ولا سنة ... ورأيهم هذا ، يفهم منه أنهم يقولون بفصل الدين عن الدولة . وهو رأي فاسد لا يتفق مع نصوص الشريعة ، وتكذبه وقائع التاريخ الإسلامي على مر العصور .
ـ 6 ـ
الفرق ما بين الخلافة والملك : كان الملك لدى الفرس والرومان ، يتمتع بسلطات قريبة من سلطة الإله في عباده . يفعل بهم ما يشاء من غير نكير . فما كان كسرى يُسأل عما يفعل ، ولا كان قيصر يُراجَعُ فيما يأمُرُ . فلما كان الإسلام وأكرم الله العرب بقيادة البشرية ، لم تكن تلك سيرتهم في الناس ، وإنما قال أبو بكر لمن استخلفوه ( لقد وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني . وإن أسأت فقوّمُوني ) . وكذلك كانت سيرة عمر ، فقد سأل الناس يوما ( ما أنتم فاعلون لو أن عمر مال هكذا او هكذا .؟ ) فقام إليه رجل منهم بالسيف مصلتا وقال : لو ملت هكذا أو هكذا ، قومناك بسيوفنا هذه . فقال أحدهم : مه لا تخاطب أمير المؤمنين بهذه الغلظة . فقال عمر : بل مه أنت . لا خير فيكم إن لم تقولوها لنا . ولا خير فينا إن لم نسمعها منكم . ) . ولعل هذا الفارق الجوهري بين الثقافتين ، الإسلامية وغير الإسلامية هو الذي جعل المسلمين يبتعدون عن تسمية حكامهم ، بـ كسرى المسلمين ، أو قيصر المسلمين ، أو ملك المسلمين . وعدولهم إلى تسميتهم بـ ( خليفة وإمام وأمير المؤمنين ) كان هو الأحب إليهم .
خصوصا وأنهم سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث تفرق ما بين الخلافة والملك . من ذلك قوله : ( تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ، فتكون ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون ملكا عضوضا ، فيكون ما شاء الله أن يكون ، ثم يرفعه الله إذا شاء أن يرفعه. ثم يكون ملكا جبريا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعه إذا شاء أن يرفعه. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ..
وسئل سلمان الفارسي ، وهو الخبير بما كان عليه ملوك فارس : ما الفرق بين الملك والخليفة .؟ فقال : إذا أنت جبيت من المسلمين درهما أو أقل أو أكثر ، ثم وضعته في غير حقه ، فأنت ملك من ملوك الدنيا . وأما الخليفة فهو الذي يعدل في الرعية ، ويقسم بينهم بالسوية ، ويقضي بكتاب الله ... يتبع .
بقلم : أبو ياسر السوري
كثر الحديث حول هذا الموضوع ، وقد قرأت فيه لأكثر من كاتب ، فلاحظت أن أغلب من كتبوا فيه ، لم يكونوا على إلمام بمداخله ومخارجه ، ولا مطلعين حتى على أبجدياته الأولية ، وحري بمن يخوض في هذا البحث أن يكون مطلعاً على علمين اثنين ، أحدهما : علم السياسة المعاصر الذي أجهله ، وثانيهما : علم أصول الفقه الإسلامي الذي لا أجهله . وبداية أعتذر للقارئ الكريم ، إذا اضطررت إلى الإطالة قليلا ، لأن الموضوع رحب واسع ، لا يمكن اختزاله في اليسير من الكلام ، بيد أني أعد بأن لا أجمع بين الإطالة وتعقيد العبارة ، لتكون هذه بتلك . فأقول وبالله التوفيق :
( الحلقة الأولى )
ـ 1ـ
أهبط الله تعالى آدم عليه السلام إلى الأرض ، واستخلفه فيها ، قال تعالى : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) وشرفه بالوحي والرسالة . ليدعو إلى الله ذريته وأبناءه .. فالأرض كلها موطن خلافته ، وهو أول خليفة فيها . وهي ميراثه لأبنائه من بعده .. ولا ينبغي أن يستشكل هنا أحد في معنى قوله تعالى ( إني جاعل في الأرض خليفة ) فيقول مثلا : عن مَنْ كان آدم خليفة .؟ فإن كان عن الله . فالاستخلاف لا يكون إلا عن غائب ، والله حاضر لا يغيب . وإن كان خليفة عن أحد قبله ، فمن هو السابق الراحل ، الذي خلفه آدم في شأن الأرض ؟ ولماذا سكت عنه القرآن الكريم ؟ ولكن الراغب الأصفهاني ، حل لنا هذا الإشكال ، حين توسع في تفسير معنى الخلافة فقال : ( الخلافة هي النيابة عن الغير ، إما لغيبة المنوب عنه ، أو لموته ، وإما لعجزه ، وإما لتشريف المستخلَف ) بفتح اللام . ولهذا أجاز ابن جرير الطبري ، أن يكون آدم خليفة عن الله بهذا المعنى ، فقال ( إني جاعل في الأرض خليفة عني ، يخلفني في الحكم بين خلقي ، وذلك الخليفة هو آدم ، ومن قام مقامه في طاعة الله ، والحكم بالعدل بين خلقه ) . وعليه فاستخلاف آدم إنما هو تشريف له وتكريم .. واستخلاف ذريته من بعده جارٍ على نفس النسق من هذا التكريم الإلهي قال تعالى ( ولقد كرمنا بني آدم ) . وقال تعالى ( أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ) . ولكنَّ الناس يتفاوتون في هذا الإكرام ، فأكرم على الله هم أنبياؤه ورسله . فهم الذين اختارهم الله لتلقي وحي السماء ، وكلفهم بتبليغه لأهل الأرض . لهذا كانت النبوَّةُ أعلى درجات التشريف ، وكانت الرسالة أرفع مقامات التكريم ، فالرسولُ على قدر المُرسِل ، وشرفُ المكلَّفِ مِنْ شرَفِ التكليف .. والرُّسلُ مكلفون بالدعوة إلى الله ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين .؟ ) ثم اقتضت مشيئته سبحانه وتعالى أن تختم النبوات بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن تكون رسالته خاتمة الرسالات ، قال تعالى : ( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) وقال صلى الله عليه وسلم ( كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ وَإِنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ .. قَالُوا : فَمَا تَأْمُرُنَا قَالَ : فُوا ( من الوفاء ) بِبَيْعَةِ الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ ، أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ ، فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ ) .
ـ 2ـ
فلما توفي عليه الصلاة والسلام ، واصطلح المسلمون على أن يقوم أبو بكر مقامه في تدبير أمر المسلمين .. أطلقوا عليه لقب ( خليفة رسول الله ) فكانوا يخاطبونه بها . فلما توفي أبو بكر ، واستخلف عليهم عمر بن الخطاب ، أطلقوا عليه لقب : ( خليفة ، خليفةِ رسول الله ) فكان عمر يراها تسمية ستكون فيما بعدُ طويلة المبنى .. فألهم الله عمرو بن العاص يوما فقال ( يا أمير المؤمنين ) فاستحسنها عمر ، فقال : ما بدا لك في هذه التسمية يا ابن العاص .؟ قال عمرو : نحن المؤمنون وأنت أميرنا .. فأقره عليها عمر ، ثم درجت على ألسنة الناس ، وصار يخاطب بها كل خليفة جاء من بعدُ على مدار التاريخ ..
وعلى هذا فـ ( الخليفة ) كلمة تطلق ويراد بها مَنْ يخلُفُ رسول الله في الأمة ، ويقوم مقامه في إصلاح ما يهمهم من أمور دينهم ودنياهم ..
وقال أبو بكر الأنباري : الأصل في الخليفة لغة ( الخليف ) بغير هاء ، فدخلت الهاء للمبالغة في مدحه بهذا الوصف . كما قالوا : علَّامة ونسَّابة وراوية ، لمَّا أرادوا أن يبالغوا في المدح ، ولو لم يريدوا المبالغة لقالوا : رجل راوٍ ، وعلّامٌ ، ونسّابٌ .
ـ 3 ـ
ولو تتبعنا تعريف الخلافة لدى علماء الأمة ، لوجدنا أنها لا تخرج عن معنى واحد ، إنها ( حراسة الدين و سياسة الدنيا ) .
قال الإمام الماوردي : ( الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به ) وقال إمام الحرمين الجُوَيْني ( الإمامة رياسة تامة ، وزعامة تتعلق بالخاصة والعامة ، في مهمات الدين والدنيا ) .
ومن هذه التعريفات نجد أن كُلّاً من الماوردي والجُوَيني ، عبَّرا عن الخلافة بالإمامة ، تأسياً بالقرآن الكريم ، قال تعالى : ( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) أي أمراء وملوكا . وقال تعالى ( وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا ) . على أنه من المنظور الإسلامي ، لا فرق بين الخلافة والإمامة في الأثر ، وإنما الخلاف بينهما من حيث النظر.. فإذا نظرنا إلى ما سبق أسميناها ( خلافة ) لأن الخليفة يخلف من سبقه في مهمته . وإذا نظرنا إلى واقع الحال أسميناها : ( إمامة ) لأن الإمام الأعظم ، هو مَنْ يتقدم الناسَ ويأتمُّون به في أمر دنياهم وآخرتهم .
ـ 4 ـ
الإمام والخليفة وأمير المؤمنين : ذكر النووي ، أن الخلافة والإمامة العظمى وإمرة المؤمنين ، مترادفات لمعنى واحد . فالخليفة هو إمام المسلمين في الصلاة ، وإمامهم في المواقف المصيرية ، وهو قائدهم الذي يسير أمامهم في الشؤون العامة ويتبعونه ، يأمرهم ويطيعونه ، لقوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ، وأطيعوا الرسول ، وأولي الأمر منكم ) ولقوله صلى الله عليه وسلم ( من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني . ومن عصى أميري فقد عصاني ) .
ـ 5 ـ
الفرق بين الإمامة والخلافة : ويرى بعض الكتاب الإسلاميين ، أن الشيعة يفرقون ما بين الإمامة والخلافة ، فالإمامة عندهم خاصة برئاسة الدين . والخلافة خاصة برئاسة الدنيا . لذلك يصرون على وصف عليٍّ بها فيقولون ( الإمام عليّ ) لأنهم يعتبرونه الإمام الديني الأعظم ، مع وجود أبي بكر وعمر وعثمان . فلما آلت إليه الخلافة أخيرا ، زعموا أن الله جمع له ما بين الإمامة والخلافة . ولا دليل على هذا من كتاب ولا سنة ... ورأيهم هذا ، يفهم منه أنهم يقولون بفصل الدين عن الدولة . وهو رأي فاسد لا يتفق مع نصوص الشريعة ، وتكذبه وقائع التاريخ الإسلامي على مر العصور .
ـ 6 ـ
الفرق ما بين الخلافة والملك : كان الملك لدى الفرس والرومان ، يتمتع بسلطات قريبة من سلطة الإله في عباده . يفعل بهم ما يشاء من غير نكير . فما كان كسرى يُسأل عما يفعل ، ولا كان قيصر يُراجَعُ فيما يأمُرُ . فلما كان الإسلام وأكرم الله العرب بقيادة البشرية ، لم تكن تلك سيرتهم في الناس ، وإنما قال أبو بكر لمن استخلفوه ( لقد وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني . وإن أسأت فقوّمُوني ) . وكذلك كانت سيرة عمر ، فقد سأل الناس يوما ( ما أنتم فاعلون لو أن عمر مال هكذا او هكذا .؟ ) فقام إليه رجل منهم بالسيف مصلتا وقال : لو ملت هكذا أو هكذا ، قومناك بسيوفنا هذه . فقال أحدهم : مه لا تخاطب أمير المؤمنين بهذه الغلظة . فقال عمر : بل مه أنت . لا خير فيكم إن لم تقولوها لنا . ولا خير فينا إن لم نسمعها منكم . ) . ولعل هذا الفارق الجوهري بين الثقافتين ، الإسلامية وغير الإسلامية هو الذي جعل المسلمين يبتعدون عن تسمية حكامهم ، بـ كسرى المسلمين ، أو قيصر المسلمين ، أو ملك المسلمين . وعدولهم إلى تسميتهم بـ ( خليفة وإمام وأمير المؤمنين ) كان هو الأحب إليهم .
خصوصا وأنهم سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث تفرق ما بين الخلافة والملك . من ذلك قوله : ( تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ، فتكون ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون ملكا عضوضا ، فيكون ما شاء الله أن يكون ، ثم يرفعه الله إذا شاء أن يرفعه. ثم يكون ملكا جبريا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعه إذا شاء أن يرفعه. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ..
وسئل سلمان الفارسي ، وهو الخبير بما كان عليه ملوك فارس : ما الفرق بين الملك والخليفة .؟ فقال : إذا أنت جبيت من المسلمين درهما أو أقل أو أكثر ، ثم وضعته في غير حقه ، فأنت ملك من ملوك الدنيا . وأما الخليفة فهو الذي يعدل في الرعية ، ويقسم بينهم بالسوية ، ويقضي بكتاب الله ... يتبع .