الحكم إذا أعطاه الله لأحد لا ينبغي التخلي عنه إلا بالقوة :
بقلم : ابو ياسر السوري
الرسالة التاريخية التي وجهها السلطان العثماني عبد الحميد بن عبد المجيد .. بخصوص تنازله عن الخلافة الإسلامية ، وعدم انصياعه لضغوط جماعة الاتحاد والترقي ، الذين ساوموه على أن يسمح بإقامة وطن قومي لليهود فوق جزء من أرض فلسطين ، في مقابل أن يعطيه اليهود مبلغ 150 مليون ليرة ذهبية ، فلم يقبل منهم ... فاتفق ضباط جماعة الاتحاد والترقي على خلعه من الحكم ، ونقله إلى سلونيك فقبل ذلك ... وكتب إلى شيخه أبي الشامات يعلمه بواقع الحال . فرد عليه شيخه بقوله ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء ، وتنزع الملك ممن تشاء ، وتعز من تشاء ، وتذل من تشاء ، بيدك الخير ، إنك على كل شيء قدير ) آل عمران / 26
واليوم يتصل الرئيس مرسي بالشيخ الداعية محمد حسان ، ويقول له : انصحني .؟ فيقول له محمد حسان ، ما قاله الخليفة الراشدي الألمعي عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيمن يصلح للحكم : ( قال عمر : هذا الأمر لا يحمله إلا الليِّنُ في غير ضعف ، والقويُّ في غير عنف ، والجوادُ في غير إسراف ، والمُمسكُ في غير بخل ، ولا يطيق هذا الأمر إلا رجلٌ لا يُصانعُ ولا يُضارعُ ولا يتبعُ المطامع ) . أي لا يجامل ، ولا يتذلل أمام أحد ولا يلهث وراء حطام الدنيا .
فكلا الرجلين استشار شيخا يثق بنصحه ، فكان جواب أبي الشامات للسلطان عبد الحميد ، آية آل عمران ( قل اللهم مالك الملك .. ) ففهم منها السلطان - رحمه الله - أن شيخه موافق له على تخليه عن الخلافة ، فتخلى عنها عن طواعية واختيار.
وأخشى ما أخشاه أن يفهم مرسي من وصية الشيخ حسان ، كما فهم السلطان العثماني من كلام شيخه أبي الشامات .. فيتخلى مرسي عن رئاسة مصر ، ويحجم عن حمل المسؤولية والمحافظة عليها ، ويكفي نفسه تكاليف البقاء حيث أقامه الله .
آيةُ آل عمران يا سادة ، لا تعني أن يطأطئ الحاكم رأسه للرعاع ، ويرضخ لإرادة السفلة من القوم . فيسلم الملك الذي آتاه الله إياه بسهولة ويسر . فالملك هبة من ملك الملوك ، ولا ينبغي أن يتنازل عنه صاحبه لطالبه بغير حق إلا أن يُنزع منه نزعا . ويؤخذ منه بالقوة .. وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة بلفظتي ( تؤتي الملك ) ولفظتي ( وتنزع الملك ) . والنزع هو أخذ الملك بقوة وعنف .. وهذا لا يكون إلا إذا كان هنالك صراع ومدافعة واقتتال عنيف على الملك ، بحيث لا ينتزعه من صاحبه إلا الأقوياء ... أما أن يتنازل الحاكم عن ملكه بدون مقاومة ، فلا .. وإلا كان ممن حقر ما منحه الله إياه ، وخالف بالسماح للمبطلين أن ينتزعوه منه بالإكراه ..
ولهذا قال رسول الله لعثمان بن عفان ( يا عثمان لعل الله يُقَمِّصُكَ قميصا ، فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم – يعني الخلافة – ولعلك تُضرَبُ على هذه فتختضب بالدم هذه . يشير صلى الله عليه وسلم إلى صفحة رأس عثمان ولحيته ) . كرر ذلك ثلاث مرات .
فلما كان يوم الفتنة رفض عثمان أن يتنازل عن الخلافة لأولئك الثائرين عليه بالباطل ، وأصر على التمسك بها ، وهو على يقين بأنه سيدفع من أجل ذلك حياته رضي الله عنه .. وقد فهم بعض الكتاب من موقف عثمان عكس ذلك ، فهموا منه أنه استسلم لقدره ، فقتل ولم يدافع عن كرسيه ... وليسمح لي هؤلاء الإخوة الذين فسروا موقف عثمان على هذا الوجه ، بأن أقول لهم : هذا التأويل الذي تبنيتموه ، قد جانبكم فيه الصواب ... لقد حوصر عثمان بمائتي ألف مقاتل نصفهم من العراق ، ونصفهم من مصر .. وكان حصارهم له في موسم حج ، مما مكنهم من اغتنام الفرصة ، بغياب أكثر الصحابة عن المدينة ، ولم يكن لأحد ممن بقي معه في المدينة طاقة بهؤلاء الهمج الثائرين عليه .. لذلك عمد الخليفة عثمان إلى بعض الشباب الذين كانوا يحرسونه ، ولم يشأ أن يقتل أحد منهم بسببه .. وكان من بينهم الحسن وابن الزبير وآخرون .. فعزم عليهم قائلا لهم : سألتكم بالله إلا انصرفتم عني إلى بيوتكم فتركوه وانصرفوا ... فاقتحم المجرمون عليه بيته ، وقتلوه رضي الله عنه وأرضاه ... نعم قتل عثمان ولم ينزع القمص . ولو طاوعهم وخلع نفسه من الخلافة لما قتلوه . ولو وجد من يصمد لأولئك المجرمين ما تردد في قتالهم ، ولم يمكنهم من انتزاع الخلافة منه .
ولنرجع قليلا إلى استقالة السلطان عبد الحميد ، نزولا عند رغبة جماعة الاتحاد والترقي ، أليس هذا الموقف جريمة تاريخية .؟ أليس تسليم الحكم لجماعة أغلب أعضائها يهود ، مما يعتبر خيانة وطنية ودينية .؟ ونحن هنا لا نريد أن نذم السلطان عبد الحميد ، لأنه لم يكن خائنا ، ولا عميلا ، ولا رخيصا يشترى بالمال ، فقد دفعت إليه 150 مليون ليرة ذهبية في مقابل أن يخون ، فيبيع جزءا من أرض الإسلام لليهود فأبى ، وراجعوه فأبى .. ثم طالبوه بالتنازل فلم يقاوم ... رحم الله السلطان ، وعفا الله عنه ، فقد اجتهد وأخطأ ..
ذكر أمير البيان شكيب أرسلان في كتاب " حاضر العالم الإسلامي " أن الغرب والشرق، قام بأكثر من 120 محاولة، لتهديم الخلافة العثمانية، فلم يتمكن من هدمها ، حتى قام بذلك جماعة الاتحاد والترقي . واتفقوا مع الحلفاء على حرب صورية ، واتفقوا على أن ينتصر فيها أتاتورك اليهودي ، لتلميع صورته بين الأتراك ، والإبقاء عليه كرمز وطني في تركيا الحديثة ، الخارجة عن تعاليم الإسلام ..
تصوروا معي يا سادة ، لو أن السلطان عبد الحميد رحمه الله دافع عن الخلاقة ، ولم يسمح بسقوطها .؟ لو أنه فعل ذلك لما شارك في الحرب العالمية الأولى . لأنه كما حدث عن نفسه ، أنه كان منذ ثلاثين عاما يخطط لأن تقوم حرب عالمية تدمر المعسكرين الشرقي والغربي ، وتبقى تركيا بمنأى عن الحرب ، وتؤول إليها قيادة العالم بعد انهيار كل المعسكرات الأخرى ... ولو بقيت الخلافة لما كانت معاهدة سايكس بيكو ، التي قسمت أرض الإسلام إلى دويلات تتحكم بها الدول العظمى كما تشاء .. لا تقولوا : لم يكن عبد الحميد يستطيع أن يقاوم جيش أتاتورك ، حين جاء لإسقاطه .. هذه قضية أراحنا من الاختلاف فيها السلطان عبد الحميد نفسه ... حين قال في مذكراته قوله : ( كان عندي حول قصر ( يلدز ) بإستنبول ، مائة ألف مقاتل ، بكامل السلاح والعتاد ، ولو شئت سحق هؤلاء الاتحاديين لفعلت . ولكنني كرهت أن أسفك الدماء من أجل بقائي في الحكم ... ) .