الشرق الأوسط

فاجأت كثيرين خلال الأسبوع الفائت زيارة اثنين من كبار مستشاري الرئيس
المصري محمد مرسي لطهران، حيث اجتمعا بقيادات إيرانية بارزة على رأسها رئيس
الجمهورية محمود أحمدي نجاد.

هذه الخطوة غير معزولة عن سياق غدا
مألوفا من القيادة المصرية الإخوانية الجديدة، التي تؤكد كل يوم قربها
سياسيا من السلطة في إيران. وبغض النظر عما إذا كانت المبررات متصلة
بالوفاء لـ«صداقات زمان» في وجه الخصم المشترك السابق، أو اقتناعا بصدق
طروحات طهران بشأن «العمل على وحدة المسلمين في وجه الصهيونية وأميركا»،
يأخذ بعضنا على الرئيس مرسي وصحبه تعجل التطبيع مع طهران بينما ينزف الدم
السوري، وينزلق كل من العراق ولبنان نحو المجهول. وفي حالتي العراق ولبنان
لا تغيب طهران عن المشهد.

أذكر جيدا وصف أحد أستاذتنا أيام الدراسة
الجامعية مصر بأنها «الدولة الأمة» (Nation – State) الوحيدة في العالم
العربي. ومن يتعمق في دراسة تاريخ مصر يكتشف أنه منذ توحيد مملكتي مصر
العليا ومصر السفلى تبلورت فيها حقا هوية الدولة المركزية الواحدة التي
تعزز الجغرافيا وحدتها وهويتها.

صحيح أن مصر تعرضت عبر الحقب
التاريخية المتعاقبة لأشكال مختلفة من الغزو قبل الفتح الإسلامي - العربي
وبعده، لكنها استوعبت ما دخلها وهضمته، وبقيت في ثقافتها فرادة لا تتوافر
في الكيانات المجاورة.

الإسلام في مصر له طابعه الخاص، فمع أن أقوى
دولة إسلامية حكمت مصر كانت الدولة الفاطمية الشيعية الإسماعيلية، فقد ظلت
البلاد معقلا من معاقل أهل السنة والجماعة، وتحول الأزهر الشريف الذي أسسه
الفاطميون إلى إحدى القلاع السنية الحصينة. والعروبة في مصر، أيضا، كان ولا
يزال لها طابعها «المصري» الخاص، فقد هيمن عليها لبعض الوقت الملوك الرعاة
أو الهكسوس الآتون من المشرق العربي قبل أن يذوبوا فيها، وبعدهم ذابت كذلك
موجات من الهجرة العربية جاءت إلى مصر من الشرق والغرب. وظلت مصر هي مصر.

وعلى
صعيد الاستقلال السياسي شكلت مصر بين مطلع القرن التاسع عشر والعقود
الأولى من القرن العشرين حالة خاصة من التبعية والحماية والاستقلال، إبان
حكم السلطنة العثمانية، ظهرت فيها أسرة محمد علي، ولولا التدخل الأجنبي بعد
معركة نزيب عام 1839 لكان الفرع غلب الأصل في عقر داره. كانت دولة إقليمية
كبرى لها دستور دولة مستقلة عام 1882 وممثليات أجنبية، لكنها ما كانت
مستقلة بالكامل.

مع خلفية كهذه، كان صعبا على القيادات التي توالت
على حكم مصر فهم التعقيدات البنيوية للكيانات السياسية المحيطة ببلادهم
«الدولة - الأمة». هذا أمر طبيعي في بلد يتمتع بقدرة عجيبة على «هضم»
الاختلافات والتعددية. وبالتالي، ليس مستغربا فهم الأخطاء التي ارتكبتها
القيادات المصرية، على الأقل منذ عهد أسرة محمد علي، في التعامل مع محيطها
العربي.

بعكس مصر «السنية»، يعيش في مناطق كثيرة من المشرق العربي
عدد من الفرق والمذاهب الإسلامية. والمسيحية في مصر هي في الغالب الأعم
القبطية الأرثوذكسية، إذ لم يظهر الأقباط الكاثوليك فعليا قبل العقود
الأخيرة من القرن السابع عشر، ولم يعين لهم بطريرك إلا في نهايات القرن
التاسع عشر. أما البروتستانت والمذاهب الأخرى فأحدث عهدا، وليس منها ما
يعود إلى عهود قديمة سوى أديار الروم الأرثوذكس، ولعل أشهرها على الإطلاق
دير سانت كاترين في سيناء. وفي مصر الانقسام الاجتماعي محصور عمليا بثلاثة
أشكال هي: سكان المدينة، والفلاحون الريفيون، والهوارة من أهل البادية.
وهؤلاء جميعا يعيشون في أرض منبسطة يربطها النيل ويوحدها حيث لا حواجز
طبيعية تفصل بين أرجائها، بعكس الحواجز الطبيعية الصحراوية التي تفصلها عما
يحيط بها.

في ظل واقع جيوسياسي واجتماعي – بيئي كهذا كان بديهيا أن
تولد ثقافة سياسية خاصة، تختلف عن ثقافات كيانات سياسية رسمت حدودها
فعليا، واعتباطيا – كحال كيانات بلاد الشام والعراق – خلال القرن العشرين.

ثقافة
«الوحدة والتجانس» في مصر تختلف عن ثقافة التنوع في بلاد الشام والعراق
بالذات. والمشكلة المستمرة حتى اليوم هي أن لا مصر استطاعت فرض «حالة
الوحدة والتجانس» على كيانات المشرق التي احتلتها غير مرة منذ عصر
الفراعنة، ولا «تنوع» تلك الكيانات أوجد وعيا عند القيادات المصرية بضرورة
التعامل مع قضاياها بحساسية، بل على النقيض من ذلك، أوجدت «حالة الوحدة
والتجانس» - تعززها أفضلية الثقل السكاني المصري - نوعا من التعاطي الواثق
المفرط أحيانا في فوقيته، والمفعم في فترات متباعدة بأحلام الهيمنة
التوسعية.

تجارب أسرة محمد علي في الهيمنة كانت لها نتائج سلبية في
عدة أماكن، منها المجازر الطائفية في سوريا وجبل لبنان في منتصف القرن
التاسع عشر بعدما أدت الحملة المصرية إلى اختلال العلاقات بين الأديان
والطوائف، وبين المدن والريف، قبل نضج حركة الإصلاح في الدولة العثمانية.

وعندما
بزغت أفكار "العروبة" في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين،
فإنها بدت دخيلة وطارئة على النخب المصرية الحاكمة. وظلت كذلك على الرغم من
التجربة الناصرية وشعارات الوحدة العربية قرابة عقدين من الزمن. وفي
المقابل، تمكن الإسلام السياسي قبل الفترة الناصرية وبعدها – بل على
أنقاضها – من فرض وجوده على العامة في مصر.

إن جزءا من تجاوز
القيادة المصرية اليوم معاناة ملايين السوريين يمكن تفسيره بأن الشارع
المصري لا يدرك مخاطر العبث الإيراني الخطير بالفسيفساء العربية المشرقية.
وإذا كان ثمة رد فعل مناهض لهذا العبث فإنه سيأتي من منطلق التكفير المذهبي
وليس من وازع حماية الأمن القومي العربي، وصيانة وحدة مجتمعات عربية هشة
يمزقها طموح طهران من أجل مساومة إقليمية كبرى.


نحن إزاء سوء فهم خطير، وقد تدفع المنطقة العربية كلها ثمنا باهظا قبل أن تدرك القاهرة «الإخوانية» خطأها الاستراتيجي القاتل