قطعوا رأس المعري يا ماركس ...! - أبو الشمقمق

ُدعيتُ أبا العلاء وذاك ميْنٌ …..ولكنّ الصحيحَ أبو النزول ِ
كل هذه المرارة التي تنضح بها النفس الإنسانية اختصرها أبو العلاء في بيت من الشعر . هذا الرجل اختزن الحزن الشديد في أعماقه ولازمه ثمانين سنة ، يتنفس الهواء ويشرب الماء ولا يأكل إلا الحساء .
لقد خلقه الله عظيم الذكاء قوي الحافظة شديد الحساسية عميق التأثر . وهي صفات شاعر مرهف الحس عفيف النفس متقد العاطفة ، كما وهبه هدوء الحكماء وصبر العارفين واتزان الفلاسفة . شاء حظه العاثر أن ُيبتلى بالعمى في الرابعة من عمره بسبب إصابته في الجدري ، فلايعرف من الألوان إلا الأحمر .
رافقتُ المعري وقبله المتنبي وأنا صبي ٌ، وحفظت من أشعارهما الكثير بعد أن استقرا في ذاكرتي ورسخا في وجداني . لا أريد استعراض حياتهما ولاسرد سيرتهما ، إنما أردت أن أخرج بنتيجة واحدة ، ألا وهي أن أبا العلاء لم يكن ملحداً ولا مارقاً ولازنديقاً ولارافضياً ولاعلوياً ولاشيوعياً . للاستزادة ( راجع كتابات الشيخ نديم الجسر رحمه الله )
تعرض المعري منذ ألف سنة إلى النقد والتجريح وحتى التشهير والتكفيرشأنه في ذلك شأن العظماء مثل ابن رشد وابن سينا والفارابي والخوارزمي والبيروني . لكن ماهي مناسبة هذا الحديث ؟


سارع النظام الطائفي القاتل في وطننا سورية إلى استثمار حدث قطع راس تمثال للمعري فوق ضريحه في معرة النعمان ، في غيرة لينينية وحمية ستالينية ، وساندته في ذلك قوى الليبرال الفضائحية من اليسار الأعمى ، صاحب الايديولوجية الذي يجهل العربية والذي يتسقط أخطاء الثوار وينتظر مثل هذا الحدث ليلصقه بها ويشهر بأهدافها ولا يهتم إلا بقيادة المرأة للسيارة في السعودية .! والنظام الصفوي العاهر لا يهمه المعري ولاغيره من مفكري الأمة ، كما يهمه سهام ابراهيم أو سارية السواس أو علي الديك .!

قيض للوطن السوري رجالات وأدباء كبار حريصة على تراثنا العظيم في الثلاثينيات والأربعينيات أمثال محمد كرد علي وشكيب أرسلان وفخري البارودي ، استقدموا شعراء العصر مثل احمد شوقي وحافظ ابراهيم ليخلدوا بلادنا بالغرر من القصائد . واهتم طه حسين في بداية عهد الوحدة ( وكان مشتركاً مع المعري بعلة البصر وكتب حوله عدة كتب منها مع أبي العلاء في سجنه) اهتم بإحياء تراث المعري فجمع المفكرين واستنهض همة الدولة السورية لتشيد له مناراً أدبياً ، وأحيا فوق ضريحه في معرة النعمان أمسيات من الشعر والفن والأدب ماتزال خالدة الذكر .

لما أناخ النظام العلوي الصفوي بكلكله على وطننا ، عم الجهل وامتد الظلام وتفشت المفاسد طيلة خمسين عاماً ، وتتلمذ دكاترة الطائفة على أيدي المخابرات والشرطة والجمارك فتسلموا الجامعات ، وتتالت الأجيال دون أن تعرف من هو المعري أو المتنبي أو أبوتمام . وتفتحت عيون أطفالنا على القائد الخالد وحواشيه ومواشيه وطلائعه وشبيبته وربيبته ، وحفظت بالقوة والتهديد أشعار سليمان العيسى وأبعار عقلة عرسان وأقذار حسن.م. يوسف . كان النظام أول من حارب القرآن واللغة والأدب والفن .

رفض المفكرون والشعراء والفنانون الشرفاء الحقيقيون ، التغني بركوب باسل على الخيل ومهارة بشار على الدراجة وشطارة ماهرعلى التعذيب ، وطهارة بشرى من التسريب وقدرة أنيسة على القيادة . هام المبدعون السوريون على وجوههم خارج وطنهم وناموا على ارصفة الشوارع ، محرومين من أهلهم وشعبهم وسماء بلادهم وتراب أرضهم .
لم يحافظ نظام الممانعة والمقاومة لا على المعري ولاغيره ، لا على الأموات ولاعلى الأحياء بل استثمر قطع راس التمثال _ الذي تبرأ من قطعه الجيش الحر بييان خاص ـ وأشاع أن المعري جد حافظ الهالك المقبور، كما أشاع من قبل أن الشيخ اسبر ( شكسبير ) هو جد علي أحمد سعيد اسبر ..! كيف يستقيم ذلك ؟

هل يستقيم العظيم مع الحقير ؟ هل يستقيم العملاق مع القزم ؟ هل يستقيم العالم مع الجاهل؟ هل يستقيم الشريف مع العاهر؟ هل يستقيم عفيف النفس مع دنيء النفس ؟ هل يستقيم البريء العاقل مع المجرم القاتل ؟
( أفنجعل المسلمين كالمجرمين ؟ مالكم كيف تحكمون ؟ )
المعري كان عربياً مسلماً برغم ماكتبوا عنه وما أشاعوه عليه . وقد فهم أدعياء الضلال منذ مئات السنين أن كتاباته تدعو للشك والريبة كما يعتقدون وتناولوا من أدبه وإبداعه ما يتناسب مع نفوسهم الخبيثة ، ولم يفهموا أنها تدعو للتفكر والتدبر والسعي وراء الحقيقة .
فهم المغرضون أن رسالة الغفران محاولة لتقليد القرآن وشتان مابين الأرض والسماء في المبنى والمعنى ، ونحن لاننكر قيمة الرسالة وثروتها اللغوية ، لكنهم فهموا من أشعاره وأفكاره أنه منكر للبعث والنشور، وغير ذلك من المسائل وحملوه ما لايحتمل ، وزعموا أنه أقرب إليهم بل هو منهم ، وهو جد ٌ لحافظ وجميل ورفعت بصفتهم من الملحدين ! تصوروا أن يكون أبو العلاء جداً لرفعت المجرم الخسيس ..!

كان المعري رجلاً نباتياً لايأكل اللحم ولا المشتقات الحيوانية كالبيض واللبن لأنه كان إنساناً رؤوفاً رحيماً وقصيدته التي أولها : غدوت مريض العقل والدين ....تنهي عن الإساة إلى الحيوان من النحل إلى الطير ، من البقر إلى الإبل ..! بله ذبحه ! فكيف نفهم أنه جد أولئك الطغاة القتلة المجرمين الذين ذبحوا عشرات الألوف من البشر ؟
المعري جدنا وليس جدهم .
هذا الزعم مردود على النصيرين الفجرة ومن هم في حكمهم من الشيعة الضالين ، وليس أدل على ذلك من المعري نفسه ، حين ذهب في بداية في بداية شبابه وتعاظم شهرته إلى بغداد موئل الشعر والفكر والفن والثقافة آنذاك ، ودخل إلى منتدى ( الشريف المرتضى ) نقيب الأشراف الشيعة وهو رجل يدّعي الأدب بعكس أخيه الشريف الرضي الشاعر الرقيق ،فراح الحضور يطعنون بالمتنبي وهو قدوة أبي العلاء ، ولما تناوله المرتضى بالسوء ، سأل المعري رأيه فأجابه أبلغ جواب قائلاً : المتنبي يرد عن نفسه . فسأله : كيف ؟ فقال :
لك يامنازل في القوب منازلُ ......أقفرتِ أنتِ وهنّ منك أواهل ُ
هنا غضب المرتضى وأمر الخدم بجرّ المعري من رجله على وجهه وإلقائه في الطريق . ولما فعلوا سأل الحضور عن الذنب الذي اقترفه الرجل كيما يتلقى هذا العقاب فقال: إنه يعني البيت الوارد في نفس القصيدة :
وإذا اتتك مذمتي من ناقص .....فهي الشهادة لي بأني كامل ُ
المعري صاحب جدل وفكر وعقل , وليس مريداً لطائفة ولا داعية لجماعة ولو كان يعرف المرتضى عن المعري أنه صاحبهم لما أساء إليه .!

لم يثبت عن شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء أنه ينهج نهج الحلاج المتأله ولا سلك طريق المكزون المتوله . بل كان يسلك طريق الحق والخير ويحث على تجنب الشر والضلال . لم يطرق أبواب الملوك ولا أعتاب السلاطين لأنه كان وحده ملك الفكر وسلطان العقل .
ومن أحسن الشهادات في حقه شهادة الإمام الذهبي المتوفي سنة 1346 حيث قال : ( وفي الجملة فكان من أهل الفضل الوافر والأدب الباهر ، والمعرفة بالنسب وأيام العرب . وله في التوحيد وإثبات النبوة وما يحض على الزهد
....شعر كثير )
هذا هو المعري الذي نعرفه ويجهله دكاترة البعث ، المعري الذي يعيش بين أمته ولغته ودينه والذي يريد الطائفيون اقتلاعه ليحرقوه ويتدفأوا في حطبه ويستعينوا به في إحراقنا . إنهم يريدون أن يتواروا به لتشويه الثوار السوريين وتمويه جرائمهم .
توجه المجرم تيمورلنك بعد تدمير حلب نحو حماة ، فمر قرب المعرة فرأى شيخاً أعمى طاعناً في السن يتوكأ على عصاه وقد أخرجه قومه على كره منه بعد أن تضرعت له النساء وبكى الأطفال على قدميه ليتشفع لهم ، فسأل تيمورعنه فأخبروه خبره فاستكثرهم من خبره فزادوه ، فقال :
- خلوا عن المعرة فقد تركتها لهذا الشيخ .
بينما دمر الطائفيون الصفويون المعرة دماراً ، شأنها شأن المدن والقرى السورية دون أن يراعوا المعري وغيره . وحين قطعوا رأس تمثاله بشظايا قذائفهم بكوا وشكوا حتى وصلت إلى مسامع اليونيسكو ..!
هذا هو المعري الذي يخاطبه الله تعالى مع بقية البشر : أفلا تتدبرون ...؟ أفلاتعقلون ... ؟ أفلاتتذكرون ... ؟ فهو يتدبر ويعقل ويتذكر . وهو الذي قال فيه : ( إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء ُ )
اسمع مايقول هذا الرجل في الاشتراكية قبل أن يخلق ماركس وانكلز ولينين بثمنمئة سنة :
الملك لله . من يظفر بنيل غنى ....يْرددْه قسراً وتضمنْ نفسه الدّركا
لو كان لي أو لغيري قدر أنملةٍ ....فوق التراب لكان الأمر مشتركا

أبو الشمقمق


المصدر ارفلون نت