مأزق العلويين
كيف وصلوا إلى عنق الزجاجة، وكيف يخرجون؟
لاأعتقد أن أي علوي في سورية أو الدول القريبة أو البعيدة اليوم يريد أن يعرف الناس أنه كذلك، ويعود السبب (للصورة) التي رسمها له نظام الأسد وسوقها في الداخل السوري وبقية العالم. وهي كما أشرت في مقال سابق، (صورة) الشبيح صاحب العضلات المنفوخة الذي يشبه المسخ أكثر مما يشبه الانسان، والذي هو أيضاً في نفس الوقت ذابح أطفال ومغتصب نساء ولص ووصولي ومؤمن بخرافات من وزن أن (الرب) يمكن أن يتمثل في بشر. فكيف حصل كل هذا وهل مازال بالامكان إصلاحه؟
للاجابة عن الشق الأول من السؤال فأرى أن المأزق الحقيقي للطائفة (العلوية) يعود إلى جوهر عقيدتها من جهة والمكان الذي شهد ولادتها وكذلك الزمان من جهة ثانية. وما أعنيه بجوهر عقيدتها هو إدعاء (ابن نصير) أن (الرب) يمكن أن يتجسد في البشر وأنه قد تجسد فيه شخصياً، منشقاً بذلك عن الطائفة (الشيعية) ومؤسساً للطائفة (النصيرية) التي غيرت اسمها فيما بعد بناء على نصيحة (الانتداب الفرنسي) إلى الطائفة (العلوية). خطورة هذا الادعاء أنه كان غير مسبوق في المجتمعات العربية أو المعروفة حينها، فقد ادعى البعض (النبوة) قبله وبعده، أما (الألوهية) فلا شك أنه صاحب براءة اختراعها. وهناك واحد من تفسيرين لاثالث لهما وراء ادعاء الرجل ذلك. الأول أنه كان فعلاً يصدق أن (الرب) قد تجسد فيه، وبالتالي فهو كان يعاني من مشكلة عقلية أو نفسية وبحاجة لعلاج. والثاني أنه فعل ذلك لتحقيق مكاسب شخصية وخاصة بعد إنكار (الشيعة) عليه منصب (الباب) الذي ادعاه لنفسه للتواصل مع الامام (المهدي) لحين ظهوره. لم يعد هاماً الآن ماذا كان الدافع وراء ادعاء الرجل للربوبية، فذلك صار في ذمة التاريخ، ولكن السؤال الهام هنا هو هل كان يعرف أن (ادعائه) هذا سيكون بمثابة (اللعنة) التي ستطارد أتباعه أينما ذهبوا وإلى الأبد؟
وهنا نصل إلى العاملين الاضافيين اللذين جعلا من هذا (الادعاء) أكثر لعنة وخطورة على من اتبع (ابن نصير)، وهما عاملي الزمان والمكان. فلا في العراق، حيث نشأت الطائفة، ولا في أي دولة عربية، لافي القرن التاسع الميلادي وقت نشأت ولاقبله ولابعده، كان يمكن لطائفة بعقيدة كهذه أن تعيش بسلام. والسبب أن هذه المجتمعات كانت ومازالت مجتمعات محافظة بكل ماتعنيه هذه الكلمة من معنى، والديانات السماوية الثلاثة التي خرجت منها وتجذرت فيها، كلها وبكافة فرقها قامت على (التوحيد). فاذا وضعنا (أهل السنة) وحتى (الشيعة) جانباً، وأتينا إلى مسيحي أو يهودي عارفين بدينهما، وسألناهما ماذا يقولان في ربوبية (ابن نصير) ومن بعده (سليمان المرشد) وحديثاً (الأسدين)؟ أحد أصدقائي السوريين المسيحيين هنا في هيوستن، والذي اعتاد زيارة البلد كل عام قبل الثورة وكان يجهل موضوع (تأليه) الحاكم عند (العلويين)، قال لي مؤخراً بأنه بات يخاف زيارة سورية مادام هذا النظام قائماً، لأن من يؤلهون البشر يمكن أن يرتكبوا أي حماقة ويجدوا لها مبرراً ضمن عقليتهم المتخلفة المحدودة. ماأريد أن أقوله هنا أن دعوة (ابن نصير) لو أنها تمت في بلد يتمتع بحرية المعتقدات، وأيضاً بالديمقراطية، كالدول الأوربية أو أمريكا أو كندا أو استراليا اليوم، لما واجهت الرفض والتكفير منذ البداية. ولاكان عليها أن تهرب من هنا وهناك لشعورها أنها مرفوضة، وبالتالي ماكانت لتشعر أن عليها عزل نفسها عن محيطها باللجوء إلى جبال عالية. ففي الدول التي ذكرتها كأمثلة، تجد أصحاب كافة المعتقدات بمن فيهم عبدة الشيطان وعبدة النار، ولا أعتقد أن إضافة عبدة (البشر) لهم سيزيد أو ينقص من تلك المجتمعات طالما أن لاهؤلاء ولاأولئك ولاغيرهم يخرقون القانون المدني المعمول به في ذلك البلد. ومن يفعل ذلك فالقاضي في المحكمة سيكون بانتظار سماع أقواله، ولن يكون بجانبه سوى محاميه ولاالمخابرات ولاغيرها ستكون قادرة أن تتوسط له.
بعد عامل (عقيدة تأليه البشر) وعاملي (الزمان والمكان)، يبدو أن الحظ بقي واقفاً ضد العلويين. وما أقصده هو أنه لو أتاهم بعد ذلك (قادة) حكماء استوعبوا خطورة ماوضعهم فيه (ابن نصير)، وأفتوا لأتباعهم بغير هذا، لكانوا بالتأكيد وجدوا ترحيباً بهم من محيطهم. أو لو أنهم أخذوا أتباعهم إلى بلدان غير عربية كالصين أو الهند حيث تزدهر عقائد مشابهة لعقيدتهم من حيث عدم افتقارها للخرافات مثل الهندوسية والبوذية وغيرها، لربما أيضاً وجدوا مكاناً آمناً للعيش دون أن يلفتوا أنظار أحد أو يثيروا حفيظة أحد. أو حتى بعد أن أتوا إلى سورية وبقوا فيها، فلو أن (قادتهم) تمتعوا بحكمة ونظرة بعيدة، ولم يحرضوهم على التعاون مع الغزاة مثل المغول والحملات الصليبية قديماً والفرنسيين حديثاً. لو أنهم بدلاً من ذلك دفعوهم لمحاربة هؤلاء الغزاة مع بقية فئات الشعب، لكان الشعب السوري تقبلهم بين جنباته بالرغم من أغلبيته المحافظة. لقد كان على (قادتهم) أن يقنعوهم بأن سورية أصبحت وطنهم ولايمكن أن يعيشوا فيها دون أن يقفوا مع شعبها ضد أعدائها، فالأقلية في أي زمان ومكان هي من بحاجة لرضى الأكثرية وليس العكس. وكأن كل هذه الأخطاء التاريخية (لقادة) العلويين لم تكن كافية لهم، وبعد كل هذه النقاط التي خسروها في علاقتهم التاريخية مع الشعب، أتت عائلة (الأسد) وفعلت مافعلت، موجهة للطائفة الضربة التي قد تكون القاضية والتي أوصلتها اليوم إلى عنق الزجاجة. هذه العائلة التي بدأها (الجد) بطلب الدولة العلوية من فرنسا عام 1936، ثم (الأب) بائع الجولان وحامي إسرائيل وبطل مجازر حماة وتدمر وغيرها، وطبعاً (الابن) الغني عن التعريف. وبناء عليه، فمن يتوجب عليها حقاً إعدام عائلة (الأسد) كلها (أشة لفة) كما يقولون هي طائفتها نفسها وليس غيرها، كونها دمرت البلد باسمها واضعة لها أمام خطر الافناء أو ربما التهجير في أحسن الأحوال.
وهذا يوصلنا إلى الاجابة على الشق الثاني من السؤال في عنوان المقال: كيف تخرج الطائفة من عنق الزجاجة حيث هي الآن وتتصالح مع مجتمعها؟ يشتكي الكثير منهم اليوم بأن محاصرة النظام لهم ومعاقبتهم على معارضته هي أضعاف مايفعله مع معارضيه من (السنة). أقول لهؤلاء أن لاينسوا ضحايا جرائم النظام حتى اليوم والتي بلغت مئات الآلاف من الشهداء والمفقودين والجرحى وملايين المهجرين. وبالتالي فان أمل (العلويين) الوحيد بنيل صفح الشعب السوري عما اقترفته نخبتهم في الماضي والحاضر هو الانخراط في الثورة مئة بالمئة وجعل التخلص من هذا السفاح وعائلته ومجرمي الحرب الذين يدعموه يتم على أيديهم هم قبل أن يتم على أيد غيرهم، فيفقدون بذلك فرصة لاتعوض. نعم سيدفعون ثمناً باهظاً، لكنه ثمن لم تبخل أغلبية الشعب السوري عن دفعه، وهم ليسوا أفضل من بقية الشعب. ثمن سيكون، كما ذكرت، أفضل في كافة الأحوال وبكثير من ثمن الفناء أو التهجير الكامل.
سورية بعد انتصار الثورة ستكون سورية لجميع سكانها من كافة الأطياف، ولكن السؤال هنا هو من من هؤلاء السكان سيبقى ليحتفل بانتصار الثورة لاشتراكه فيها أودعمه لها؟ ومن سيكون قد أصبح من سكان المقابر أو السجون أو المنفى القسري ممن هتف له يوم أمس في خطابه السادس من دار الأوبرا في دمشق (شبيحة للأبد كرمال عيونك ياأسد). أو حتى هؤلاء الذين صمتوا عنه لأنهم كانوا من المستفيدين، فالصمت كما يقولون هو (من علامات الرضى) في أغلب الأحيان.
***
بقلم: طريف يوسف آغا