جين شارب
السّلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته
أنا مدرّس في إحدى الجامعات السوريّة. درست الكفاح السلميّ أو النّضال غير العنفي.المرجع العالمي الأوّل في هذا الموضوع هو الدكتور جين شارب مؤسس معهد آلبرت آينشتاين و صاحب المؤلّفات الكثيرة في هذا المجال و هو يعتبر حجّةً في هذا العلم. من المعلوم أنّ أفكار شارب و الذي يلقّب بماكيافيلي اللاعنف و كلاوزفتز الحروب السلميّة قد ساعدت شعوباً كثيرة على إسقاط أنظمتها الاستبداديّة حتّى أنّه رشّح لنيل جائزة نوبل للسلام. راسلت شارب و أعطيته وصفاً موجزاً للوضع في سورية فجائني منه الردّ الآتي فترجمته و ها أنا أضعه بين أيديكم و أيدي جميع الثوّار للاستئناس و لما أرى فيه من فائدة و نفع. طبعا ما النّصر إلا من عند الله و لكن هذا من العمل بالأسباب فالثّورات التي تعتمد على العفويّة فقط و تفتقر للتخطيط الاستراتيجيّ قد لا يكتب لها النّصر.
هذا نصّ ردّ الدكتور جين شارب:
الأستاذ المحترم
آسف أنّه قد مضى وقت طويل قبل أن يصلك ردي على الرسالة التي كتبتها لي في الثامن من أيار و أنا في هذا ممتنّ لمساعدتي لمراسلتها إياكّ عدة مرات لاستمهالك في حين كنت أعمل على صياغة رد على ما جاء في رسالتك من استفسارات.
معرفتي بسورية ضئيلة للغاية كما أنّ ما أعرفه عن الصّراع الدائر هناك غير كاف. نحن عادة لا نعطي نصائح خاصّة لثورة معيّنة حين تكون الثورة قد بدأت سلفاً (عادة ما يتصل بهم الثوار قبل البدء بالثورة لأجل تنسيق التخطيط الاستراتيجي). إلا أنّني سأعطيك بعض الآراء العامّة التي قد تكون ذات نفع لكم، بيد أنّه ينبغي عليكم أن تجروا تقويما دقيقا لها بأنفسكم.
عندي بعض الملاحظات. إنّ نجاح ثورة سلميّة ما ضدّ مستبدّ لا يعتمد على إقناع المستبدّ باّنه قد حان وقت تنحّيه. إن حصل هذا فبها و نِعْمَتْ، لكنّ عليكم أن تكونوا متيقّظين لـ “الشّروط” التي سيضعها المستبدّ.
إن أبى المستبدّ أن يتنحّى فعليكم تغيير الوضع بحيث لا يبقى لديه خيار أو قوّة و بوسعكم فعل هذا عن طريق تحديد ما بقي من مكامن قوّته و العمل على انتزاعها منه. يعني، مستعيرين وصف روبرت هيلفي، عيكم إزالة “الدّعامات” التي يرتكز عليها النّظام و سحبها منه.
هذا ليس بالأمرّ الهيّن طبعاً و السوريون هم ربّما خير من يعرف هذا في العالم. لكنّ السوريّين يعرفون أيضا أن السّلبيّة لن تأتيهم بالحريّة و أنّ للتّحرير ثمناً غالياً.
إنّ الوضع الذي تصفه من قمع و تنكيل بلا هوادة أو رحمة يعتمد على انصياع و تعاون العديد من الأفراد و المؤسسات و لولا عونهم لما كان هذا البطش ممكناً.
إنّ تردّد بعض الجنود في تنفيذ الأوامر التي يتلقّونها و ما جرى هنا و هناك من عصيان معلن يهدّد النّظام ،و إلا لما احتاج النّظام لإعطاء أوامر بالاعدام الفوري لمن يعصي الأوامر من الجنود. هذا إن دلّ على شيء فهو يدلّ على أنّ النّظام لا يستطيع أن يستمرّ في تعويله على الجيش للبطش لفترة طويلةّ، بل و على أنّ هذه العلاقة قد تكون على شفير الانهيار الـتّام. هذا يعني انّ التّخيّر الحكيم لأعمال المقاومة قد ينجح في تحييد الجّيش و فكّ ارتباطه بالنّظام.
إنّ بطولة المتظاهرين في عودتهم بلا كلل أو ملل إلى السّاحات لتحدّي النّظام رغم التّقتيل، مع المحافظة إلى حدّ كبير على الانضباط بسلميّة الثّورة أمر يبشّر بخير و يبعث على الذهول و الاعجاب. هذا من شأنه مع مرور بعض الوقت أن يسحب الجيش من صفّ المستبدّ و يبدو أنّه قد حصل شيء من هذا سلفاً.
من الواضح أنّ النّظام مستميت و يائس و قد يكون القصد من وراء هذه الفظائع التي يرتكبها النّظام إثارة حنق المتظاهرين إلى درجة كبيرة يلجؤون معها إلى العنف لينتصروا لأنفسهم. رغم أنّ شيئا من هذا قد وقع إلا أنّ على المقاومين الحذر من أن يقعوا في فخّ اللّجوء إلى العنف إذ أن ذاك إنّ وصل إلى درجة معيّنة فقد يهدّد باسترداد النّظام لولاء الجيش و قوى الشرطة برمّتهم و بهزيمة الثّورة.
إنّ الهدف الذي تنبغي المواظبة عليه هو إضعاف و شلّ نظام المستبدّ. ليس القصد عمل مسيرة أو مظاهرة أو الاعتصام في مكان ما فقط بل يجب أن تكون الغاية الأولى و الأخيرة هي شلّ و من ثمّ تشظية النظام الذي يعتمد عليه المستبدّ، و هذا يتمّ عن طريق إزالة مصادر قوّته.
هل تذكر هذا؟ هي أمور أساسيّة (يقصد مصادر قوةّ المستبدّ)
1. سلطته المعنويّة، أي “شرعيّته”
2. الموارد البشريّة، أي النّاس الذين يطيعون أوامره (و هذا ينسحب على أيّ فرد في الشّعب يطيع أوامر النّظام في ايّ شيء) و يتعاونون معه و يقدّمون له المعونات الخاصّة، و المنظّمات أو المؤسسات التي يعملون فيها.
3. المهارات و العلم و المقدرات التي يحتاجها (مثلاً مثل من يساعده في تعقّب المتظاهرين على الانترنت أو من يعطيه معلومات عن أهل قرية ما، الخ ….)
4. العوامل المعنويّة، نفسيّة كانت أو عقائديّة أو دينيّة (مثل من يحاول تسويقه من علماء السّلطان على أنّه حاكم يجب عدم شقّ عصى طاعته مثلاً)
5. الموارد الماديّة من أبنية يمكنه استخدامها و التحكّم بها و من موارد طبيعية و و سائل اتّصالات و نقل.
6. من مصادر قوّته الرئيسيّة ايضاً الجّزاء، أي العقوبات، الذي بوسعه أن ينزله بالمقاومين عن طريق الشّرطة و السّجون و مراكز الاعتقال و التّعذيب و فرق الموت (مثل الشبّيحة) (للاستزادة طالع كتاب أصول العمل اللاعنفي ص: 11-12)
حين تكون مصادر القوّة هذه موجودة بوفرة للمستبدّ فّإنّ مدى نفوذه و سلطته يصبح لا حدّ له.
عندما يُخفّضُ أو يُحَدّ المدد الذي يأتيه من هذه المصادر عن طريق تقليص الطّاعة و المساعدة و التّعاون الذين يحصل عليهم فإنّ نفوذ المستبدّ و سلطته تنخفضان بنفس النّسبة. و حين يتّفق المجتمع بمؤسّساته على قطع المدد بشكل كليّ من هذه المصادر الضروريّة التي يعتمد عليها المستبدّ للاستمرار بالبطش فإنّ ذالك سيؤدّي حتماّ إلى سقوطه (طالع كتاب أصول العمل اللاعنفي ص:744-754)
حين يكون النظام المستبدّ يائسا إلا أنّه في نفس الوقت مصمّم على الاستماتة لأجل البقاء عن طريق ذبح النّاس فمن الضروريّ سلب ما تبقّى له من مصادر للقوّة عن طريق قطع ما يأتيه من مدد ممّا تبقى له منها ،و عندها فسيصاب بعجز لا يمكنه معه فعل أيّ شيء.
أمّا بالنّسبة لعناصر الجيش الذين لمّا يعصوا أوامر النّظام بعد فعليكم إعلامهم بأنّ الخيار الذي لديهم هو ليس فقط إمّا إطلاق الرّصاص على المتظاهرين أو أن يُطلق الرصاص عليهم أنفسهم. هناك حلول أخرى. بوسع الشّرفاء من أفراد الشرطة و الجيش مثلاً أن يصوّبوا عاليا فوق رؤوس المتظاهرين أو أن يصوّبوا على جدران و ما شابه ذلك و هذا أمر سبق و أن حصل في عدّة حالات في التّاريخ بدون أن تقع كارثة أو أن يعدم الجنود الشجعان.
لا تصابنّ بالهلع لأنّ الغرب غير مهتمّ كثيرا بحصول تغيير للنظام في سوريّة. إن كان هذا هو الحال فعلا فتلك نعمة لأنّه لو كان تغيير النّظام يصبّ في مصلحة الغرب فإنّهم عندها سيسعون جاهدين لدسّ أنوفهم لتحديد ملامح النّظام الجديد و السّيطرة عليه. إنّ الدّعم الخارجيّ ليس العامل الأهمّ في تقرير مصير الثّورة. الأهميّة الأولى هي لما يقوم به المقاومون أنفسهم فنجاح الثّورة من عدمه يعتمد بالمقام الأوّل على كم يُعْمِلُ الثّوّار تفكيرهم و إلى حكمة تخطيطهم و درجة إقدامهم و شجاعتهم على القيام بأعمال المقاومة مع انضباطهم و التزامهم بالسّلميّة في نفس الآن.
إن غير السّديد من النّصائح التي قد تأتي من الخارج و التي قد تكون سطحيّة أيضاً قد تؤدّي إلى ضرر كبير أو حتّى إلى أخطاء استراتيجيّة قاتلة و إلى أعداد كبيرة من الضّحايا بل و حتّى إلى الهزيمة. قد يقدّم الأجانب أو المؤسسات الأجنبيّة أحياناً دعماً ماديّا أنتم في مسيس الحاجة إليه إلا أنّ الدّعم الماديّ قد ينجم عنه في المستقبل تحكّم فيكم من نوع أو آخر. و احذروا لأنّ أيّ دعم قد تقبلونه من وكالات استخباراتيّة قد يكون غير جدير بالثّقة و قد يأتي مصحوباً بمحاولات للسيطرة عليكم تدمّرون بها سمعتكم (الحمد لله الكل يعلم أن ثورتنا صنعت و صممّت في سورية بدون أي عون خارجي). بدلاً من أن تعتمدوا على غيركم اعملوا بنصيحة الفلاحين الإيرلنديين في القرن التاسع عشر “ما حكّ جلدك مثل ظفرك”. تلك كانت نصيحة غاندي أيضاً.
و حذاري من أن تقعوا في فخّ “مفاوضات” زائفة لا تعدل في حقيقة الأمر إلاّ كونها اتّفاقيات استسلام في زيّ تنكّريّ.
هناك أمر آخر أيضاً غاية في الأهميّة يجب إيلاؤه كلّ انتباه منكم. حين يأخذ النّظام القديم بالترنّح، أو بعد أن ينهار، قد تحاول زمر شتّى أن تستأثر بالدّولة لنفسها. و قد يأتي هؤلاء الغَصَبةُ من جهاز المخابرات أو من زمرة من الضبّاط أو من جماعة دينيّة أو غيرها، و قد يدّعي هؤلاء الغصبة أنّهم يمثّلون النّصر للثّورة لكنّ هدفهم في حقيقة الأمر قد يكون إنشاء نظام استبداديّ جديد مثل ما فعل البلاشفة في روسيا عام 1918 و مثل ما فعل الخميني في إيران عام 1979.
كما قد تمكر وكالات الاستخبارات في الدّول الأجنبيّة لتحقيق سيطرة مشابهة على الدّولة الجديدة. على موقعنا www.aeinstein.org دليل “مكافحة الانقلابات” و فيه تفصيل للخطوات التي بوسع الشّعب و المؤسّسات القيام بها لإحباط هذه الانقلابات.
قد يحصل في مسيرة الثّورة ألاّ يصبح الجنود فقط موظّفين لا يستطيع النّظام استعمالهم للقمع بل و قد ينضمّ إليهم ضبّاط برتب عالية من عقداء و عمداء بل و حتّى ألوية لأسباب وطنية غيريّة أو لأسباب شخصيّة أنانيّة (يعني خوفاً على مصالحهم). قد يعلن هؤلاء عصيانهم للنظام و يعملون على مقاومته.
و عندها فقد يعرضون أو يقدّمون للمتظاهرين و لمناوئي النّظام جنودهم و أسلحتهم خدمة للثورة. قدّ يرحّب بعض المتظاهرين و المحتجّين ممّن يرون أنّ القوّة هي في القدرة العسكريّة بهذا “الدّعم” و هذا ما حصل في ليبيا. و لكن حذاري فالدّعم المفترض الكبير هذا قد يحرف مجرى الأمور بشكل هائل إلى صالح المستبدّ. فالمستبدّ لديه من العديد و العتاد ما سيفوق قدرة المنشقّين من الضّباط و عندها فسيسهل على المستبدّ التّحكم في مجريات الأمور. عندها إن لم يحصل تدخّل عسكريّ خارجي كبير فسينتهي الأمر بانتصار المستبدّ، و سيرتفع عدد الضّحايا إلى حدّ كبير جدّاً يفوق بأرقام كبيرة ما يسقط عادة من شهداء في مسيرة الكفاح السّلميّ ،و ستفلت الأمور من بين يدي المقاومين السلميّين و لن يكون بوسعهم تقرير مستقبل بلدهم بعد ذلك.
و إن حصل و نجا المستبدّ من انشقاق زمرة الضبّاط هؤلاء و خرج من هذه الأزمة سليماً فإنّ هذا سيشعر الشّعب بالعجز و ستضعف فرص تحّديهم له في المستقبل. و إن نجحت الحملة العسكريّة و حلّ محلّ النظام القديم زعماء سياسيّون أو قادة عسكريّون قادوا هذه الحملة العسكرية المضادّة فقد يصبحون عندها بنفس درجة استبداد النّظام القديم.
و قد تأخذ الأمور أيضاً مساراً آخر غير مرغوب به في مرحلة متقدّمة من النّزاع. فقد تقوم حكومات الدّول المجاورة أو دول أجنبيّة لها ثقلها العسكريّ بعرض أو فرض “خدماتها” بحجّة “إعادة الأمن” و عندها سيسحب ذاك التّدخل دفّة الأمور من بين يدي الشّعب الثّائر و يضعها بين يدي قوى خارجيّة فالحكومات الأجنبيّة ليس شغلها الشّاغل الحريّة و رفاه الشّعوب ، بل همّها الأوّل هو خدمة “مصالحها”. أمّا حكومات الدّول المجاورة ، و خصوصا تلك التي ليست مثالاً يحتذى به في الديمقراطيّة و العدل ،فلن ترغب في دعم أنموذج يمكن أن تتبعه شعوبها لتحقيق الحريّة و الدّيمقراطيّة بل سيكون العكس تماماً هو الصّحيح.
رغم عظم المخاطر و كثرة الصّعاب إلاّ أنّ النّجاح ممكن. لن يكون النّظام السياسيّ الجديد طوباويّاً (مثالياً) إلا أنّه سيكون نظاماً أكثر حريّة بأضعاف مضاعفة من النّظام الحاليّ القمعيّ، نظاماً ديمقراطيّاً يسمح لكم بأن تعملوا شيئا فشيئاً على تحسينه بشكل متواصل و جعل البلد منيعاً عصيّاً على أيّ استبداد مستقبليّ.
يبدو أنّ السوريّين قد أصبحوا قاب قوسين او أدنى من تحقيق “المستحيل”
مع أطيب التمنيّات.
السّلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته
أنا مدرّس في إحدى الجامعات السوريّة. درست الكفاح السلميّ أو النّضال غير العنفي.المرجع العالمي الأوّل في هذا الموضوع هو الدكتور جين شارب مؤسس معهد آلبرت آينشتاين و صاحب المؤلّفات الكثيرة في هذا المجال و هو يعتبر حجّةً في هذا العلم. من المعلوم أنّ أفكار شارب و الذي يلقّب بماكيافيلي اللاعنف و كلاوزفتز الحروب السلميّة قد ساعدت شعوباً كثيرة على إسقاط أنظمتها الاستبداديّة حتّى أنّه رشّح لنيل جائزة نوبل للسلام. راسلت شارب و أعطيته وصفاً موجزاً للوضع في سورية فجائني منه الردّ الآتي فترجمته و ها أنا أضعه بين أيديكم و أيدي جميع الثوّار للاستئناس و لما أرى فيه من فائدة و نفع. طبعا ما النّصر إلا من عند الله و لكن هذا من العمل بالأسباب فالثّورات التي تعتمد على العفويّة فقط و تفتقر للتخطيط الاستراتيجيّ قد لا يكتب لها النّصر.
هذا نصّ ردّ الدكتور جين شارب:
الأستاذ المحترم
آسف أنّه قد مضى وقت طويل قبل أن يصلك ردي على الرسالة التي كتبتها لي في الثامن من أيار و أنا في هذا ممتنّ لمساعدتي لمراسلتها إياكّ عدة مرات لاستمهالك في حين كنت أعمل على صياغة رد على ما جاء في رسالتك من استفسارات.
معرفتي بسورية ضئيلة للغاية كما أنّ ما أعرفه عن الصّراع الدائر هناك غير كاف. نحن عادة لا نعطي نصائح خاصّة لثورة معيّنة حين تكون الثورة قد بدأت سلفاً (عادة ما يتصل بهم الثوار قبل البدء بالثورة لأجل تنسيق التخطيط الاستراتيجي). إلا أنّني سأعطيك بعض الآراء العامّة التي قد تكون ذات نفع لكم، بيد أنّه ينبغي عليكم أن تجروا تقويما دقيقا لها بأنفسكم.
عندي بعض الملاحظات. إنّ نجاح ثورة سلميّة ما ضدّ مستبدّ لا يعتمد على إقناع المستبدّ باّنه قد حان وقت تنحّيه. إن حصل هذا فبها و نِعْمَتْ، لكنّ عليكم أن تكونوا متيقّظين لـ “الشّروط” التي سيضعها المستبدّ.
إن أبى المستبدّ أن يتنحّى فعليكم تغيير الوضع بحيث لا يبقى لديه خيار أو قوّة و بوسعكم فعل هذا عن طريق تحديد ما بقي من مكامن قوّته و العمل على انتزاعها منه. يعني، مستعيرين وصف روبرت هيلفي، عيكم إزالة “الدّعامات” التي يرتكز عليها النّظام و سحبها منه.
هذا ليس بالأمرّ الهيّن طبعاً و السوريون هم ربّما خير من يعرف هذا في العالم. لكنّ السوريّين يعرفون أيضا أن السّلبيّة لن تأتيهم بالحريّة و أنّ للتّحرير ثمناً غالياً.
إنّ الوضع الذي تصفه من قمع و تنكيل بلا هوادة أو رحمة يعتمد على انصياع و تعاون العديد من الأفراد و المؤسسات و لولا عونهم لما كان هذا البطش ممكناً.
إنّ تردّد بعض الجنود في تنفيذ الأوامر التي يتلقّونها و ما جرى هنا و هناك من عصيان معلن يهدّد النّظام ،و إلا لما احتاج النّظام لإعطاء أوامر بالاعدام الفوري لمن يعصي الأوامر من الجنود. هذا إن دلّ على شيء فهو يدلّ على أنّ النّظام لا يستطيع أن يستمرّ في تعويله على الجيش للبطش لفترة طويلةّ، بل و على أنّ هذه العلاقة قد تكون على شفير الانهيار الـتّام. هذا يعني انّ التّخيّر الحكيم لأعمال المقاومة قد ينجح في تحييد الجّيش و فكّ ارتباطه بالنّظام.
إنّ بطولة المتظاهرين في عودتهم بلا كلل أو ملل إلى السّاحات لتحدّي النّظام رغم التّقتيل، مع المحافظة إلى حدّ كبير على الانضباط بسلميّة الثّورة أمر يبشّر بخير و يبعث على الذهول و الاعجاب. هذا من شأنه مع مرور بعض الوقت أن يسحب الجيش من صفّ المستبدّ و يبدو أنّه قد حصل شيء من هذا سلفاً.
من الواضح أنّ النّظام مستميت و يائس و قد يكون القصد من وراء هذه الفظائع التي يرتكبها النّظام إثارة حنق المتظاهرين إلى درجة كبيرة يلجؤون معها إلى العنف لينتصروا لأنفسهم. رغم أنّ شيئا من هذا قد وقع إلا أنّ على المقاومين الحذر من أن يقعوا في فخّ اللّجوء إلى العنف إذ أن ذاك إنّ وصل إلى درجة معيّنة فقد يهدّد باسترداد النّظام لولاء الجيش و قوى الشرطة برمّتهم و بهزيمة الثّورة.
إنّ الهدف الذي تنبغي المواظبة عليه هو إضعاف و شلّ نظام المستبدّ. ليس القصد عمل مسيرة أو مظاهرة أو الاعتصام في مكان ما فقط بل يجب أن تكون الغاية الأولى و الأخيرة هي شلّ و من ثمّ تشظية النظام الذي يعتمد عليه المستبدّ، و هذا يتمّ عن طريق إزالة مصادر قوّته.
هل تذكر هذا؟ هي أمور أساسيّة (يقصد مصادر قوةّ المستبدّ)
1. سلطته المعنويّة، أي “شرعيّته”
2. الموارد البشريّة، أي النّاس الذين يطيعون أوامره (و هذا ينسحب على أيّ فرد في الشّعب يطيع أوامر النّظام في ايّ شيء) و يتعاونون معه و يقدّمون له المعونات الخاصّة، و المنظّمات أو المؤسسات التي يعملون فيها.
3. المهارات و العلم و المقدرات التي يحتاجها (مثلاً مثل من يساعده في تعقّب المتظاهرين على الانترنت أو من يعطيه معلومات عن أهل قرية ما، الخ ….)
4. العوامل المعنويّة، نفسيّة كانت أو عقائديّة أو دينيّة (مثل من يحاول تسويقه من علماء السّلطان على أنّه حاكم يجب عدم شقّ عصى طاعته مثلاً)
5. الموارد الماديّة من أبنية يمكنه استخدامها و التحكّم بها و من موارد طبيعية و و سائل اتّصالات و نقل.
6. من مصادر قوّته الرئيسيّة ايضاً الجّزاء، أي العقوبات، الذي بوسعه أن ينزله بالمقاومين عن طريق الشّرطة و السّجون و مراكز الاعتقال و التّعذيب و فرق الموت (مثل الشبّيحة) (للاستزادة طالع كتاب أصول العمل اللاعنفي ص: 11-12)
حين تكون مصادر القوّة هذه موجودة بوفرة للمستبدّ فّإنّ مدى نفوذه و سلطته يصبح لا حدّ له.
عندما يُخفّضُ أو يُحَدّ المدد الذي يأتيه من هذه المصادر عن طريق تقليص الطّاعة و المساعدة و التّعاون الذين يحصل عليهم فإنّ نفوذ المستبدّ و سلطته تنخفضان بنفس النّسبة. و حين يتّفق المجتمع بمؤسّساته على قطع المدد بشكل كليّ من هذه المصادر الضروريّة التي يعتمد عليها المستبدّ للاستمرار بالبطش فإنّ ذالك سيؤدّي حتماّ إلى سقوطه (طالع كتاب أصول العمل اللاعنفي ص:744-754)
حين يكون النظام المستبدّ يائسا إلا أنّه في نفس الوقت مصمّم على الاستماتة لأجل البقاء عن طريق ذبح النّاس فمن الضروريّ سلب ما تبقّى له من مصادر للقوّة عن طريق قطع ما يأتيه من مدد ممّا تبقى له منها ،و عندها فسيصاب بعجز لا يمكنه معه فعل أيّ شيء.
أمّا بالنّسبة لعناصر الجيش الذين لمّا يعصوا أوامر النّظام بعد فعليكم إعلامهم بأنّ الخيار الذي لديهم هو ليس فقط إمّا إطلاق الرّصاص على المتظاهرين أو أن يُطلق الرصاص عليهم أنفسهم. هناك حلول أخرى. بوسع الشّرفاء من أفراد الشرطة و الجيش مثلاً أن يصوّبوا عاليا فوق رؤوس المتظاهرين أو أن يصوّبوا على جدران و ما شابه ذلك و هذا أمر سبق و أن حصل في عدّة حالات في التّاريخ بدون أن تقع كارثة أو أن يعدم الجنود الشجعان.
لا تصابنّ بالهلع لأنّ الغرب غير مهتمّ كثيرا بحصول تغيير للنظام في سوريّة. إن كان هذا هو الحال فعلا فتلك نعمة لأنّه لو كان تغيير النّظام يصبّ في مصلحة الغرب فإنّهم عندها سيسعون جاهدين لدسّ أنوفهم لتحديد ملامح النّظام الجديد و السّيطرة عليه. إنّ الدّعم الخارجيّ ليس العامل الأهمّ في تقرير مصير الثّورة. الأهميّة الأولى هي لما يقوم به المقاومون أنفسهم فنجاح الثّورة من عدمه يعتمد بالمقام الأوّل على كم يُعْمِلُ الثّوّار تفكيرهم و إلى حكمة تخطيطهم و درجة إقدامهم و شجاعتهم على القيام بأعمال المقاومة مع انضباطهم و التزامهم بالسّلميّة في نفس الآن.
إن غير السّديد من النّصائح التي قد تأتي من الخارج و التي قد تكون سطحيّة أيضاً قد تؤدّي إلى ضرر كبير أو حتّى إلى أخطاء استراتيجيّة قاتلة و إلى أعداد كبيرة من الضّحايا بل و حتّى إلى الهزيمة. قد يقدّم الأجانب أو المؤسسات الأجنبيّة أحياناً دعماً ماديّا أنتم في مسيس الحاجة إليه إلا أنّ الدّعم الماديّ قد ينجم عنه في المستقبل تحكّم فيكم من نوع أو آخر. و احذروا لأنّ أيّ دعم قد تقبلونه من وكالات استخباراتيّة قد يكون غير جدير بالثّقة و قد يأتي مصحوباً بمحاولات للسيطرة عليكم تدمّرون بها سمعتكم (الحمد لله الكل يعلم أن ثورتنا صنعت و صممّت في سورية بدون أي عون خارجي). بدلاً من أن تعتمدوا على غيركم اعملوا بنصيحة الفلاحين الإيرلنديين في القرن التاسع عشر “ما حكّ جلدك مثل ظفرك”. تلك كانت نصيحة غاندي أيضاً.
و حذاري من أن تقعوا في فخّ “مفاوضات” زائفة لا تعدل في حقيقة الأمر إلاّ كونها اتّفاقيات استسلام في زيّ تنكّريّ.
هناك أمر آخر أيضاً غاية في الأهميّة يجب إيلاؤه كلّ انتباه منكم. حين يأخذ النّظام القديم بالترنّح، أو بعد أن ينهار، قد تحاول زمر شتّى أن تستأثر بالدّولة لنفسها. و قد يأتي هؤلاء الغَصَبةُ من جهاز المخابرات أو من زمرة من الضبّاط أو من جماعة دينيّة أو غيرها، و قد يدّعي هؤلاء الغصبة أنّهم يمثّلون النّصر للثّورة لكنّ هدفهم في حقيقة الأمر قد يكون إنشاء نظام استبداديّ جديد مثل ما فعل البلاشفة في روسيا عام 1918 و مثل ما فعل الخميني في إيران عام 1979.
كما قد تمكر وكالات الاستخبارات في الدّول الأجنبيّة لتحقيق سيطرة مشابهة على الدّولة الجديدة. على موقعنا www.aeinstein.org دليل “مكافحة الانقلابات” و فيه تفصيل للخطوات التي بوسع الشّعب و المؤسّسات القيام بها لإحباط هذه الانقلابات.
قد يحصل في مسيرة الثّورة ألاّ يصبح الجنود فقط موظّفين لا يستطيع النّظام استعمالهم للقمع بل و قد ينضمّ إليهم ضبّاط برتب عالية من عقداء و عمداء بل و حتّى ألوية لأسباب وطنية غيريّة أو لأسباب شخصيّة أنانيّة (يعني خوفاً على مصالحهم). قد يعلن هؤلاء عصيانهم للنظام و يعملون على مقاومته.
و عندها فقد يعرضون أو يقدّمون للمتظاهرين و لمناوئي النّظام جنودهم و أسلحتهم خدمة للثورة. قدّ يرحّب بعض المتظاهرين و المحتجّين ممّن يرون أنّ القوّة هي في القدرة العسكريّة بهذا “الدّعم” و هذا ما حصل في ليبيا. و لكن حذاري فالدّعم المفترض الكبير هذا قد يحرف مجرى الأمور بشكل هائل إلى صالح المستبدّ. فالمستبدّ لديه من العديد و العتاد ما سيفوق قدرة المنشقّين من الضّباط و عندها فسيسهل على المستبدّ التّحكم في مجريات الأمور. عندها إن لم يحصل تدخّل عسكريّ خارجي كبير فسينتهي الأمر بانتصار المستبدّ، و سيرتفع عدد الضّحايا إلى حدّ كبير جدّاً يفوق بأرقام كبيرة ما يسقط عادة من شهداء في مسيرة الكفاح السّلميّ ،و ستفلت الأمور من بين يدي المقاومين السلميّين و لن يكون بوسعهم تقرير مستقبل بلدهم بعد ذلك.
و إن حصل و نجا المستبدّ من انشقاق زمرة الضبّاط هؤلاء و خرج من هذه الأزمة سليماً فإنّ هذا سيشعر الشّعب بالعجز و ستضعف فرص تحّديهم له في المستقبل. و إن نجحت الحملة العسكريّة و حلّ محلّ النظام القديم زعماء سياسيّون أو قادة عسكريّون قادوا هذه الحملة العسكرية المضادّة فقد يصبحون عندها بنفس درجة استبداد النّظام القديم.
و قد تأخذ الأمور أيضاً مساراً آخر غير مرغوب به في مرحلة متقدّمة من النّزاع. فقد تقوم حكومات الدّول المجاورة أو دول أجنبيّة لها ثقلها العسكريّ بعرض أو فرض “خدماتها” بحجّة “إعادة الأمن” و عندها سيسحب ذاك التّدخل دفّة الأمور من بين يدي الشّعب الثّائر و يضعها بين يدي قوى خارجيّة فالحكومات الأجنبيّة ليس شغلها الشّاغل الحريّة و رفاه الشّعوب ، بل همّها الأوّل هو خدمة “مصالحها”. أمّا حكومات الدّول المجاورة ، و خصوصا تلك التي ليست مثالاً يحتذى به في الديمقراطيّة و العدل ،فلن ترغب في دعم أنموذج يمكن أن تتبعه شعوبها لتحقيق الحريّة و الدّيمقراطيّة بل سيكون العكس تماماً هو الصّحيح.
رغم عظم المخاطر و كثرة الصّعاب إلاّ أنّ النّجاح ممكن. لن يكون النّظام السياسيّ الجديد طوباويّاً (مثالياً) إلا أنّه سيكون نظاماً أكثر حريّة بأضعاف مضاعفة من النّظام الحاليّ القمعيّ، نظاماً ديمقراطيّاً يسمح لكم بأن تعملوا شيئا فشيئاً على تحسينه بشكل متواصل و جعل البلد منيعاً عصيّاً على أيّ استبداد مستقبليّ.
يبدو أنّ السوريّين قد أصبحوا قاب قوسين او أدنى من تحقيق “المستحيل”
مع أطيب التمنيّات.