دور سُنَّة لبنان في الحياة السياسية
الثلاثاء 14 ذو الحجة 1433هـ - 30 أكتوبر 2012م
بقلم : غسان الإمام
ذهب الرئيس اللبناني بشارة الخوري، بالقبعة إلى لقاءات جامعة الدول العربية في الأربعينات. لكن رياض الصلح رئيس الوزراء (السني) ذهب إلى القاهرة بالطربوش المائل، على عادة طرابيش لبنان آنذاك.
وخلع العرب واللبنانيون الطرابيش والقبعات، باستثناء عرب الخليج الذين احتفظوا بالعقال الذي أعتبره أجمل غطاء (رجّالي) للرأس في العالم. اختفى الطربوش. لكن ظل، بشكل وآخر، رمزا لاعتدال ممارسة سنة لبنان للسياسة، إلى حد اتهام طربوش رؤساء الحكومات بمسايرة المؤسسة المارونية الرئاسية، ثم العلويين السوريين الذين احتلوا لبنان نحو ثلاثين سنة.
الواقع أن مثقفي النخبة الأرستقراطية السنية في لبنان الثلاثينات «نظَّروا» في كتاباتهم، بإمكانية بقاء لبنان «عروبيا»، من دون أن تكون هناك حاجة إلى وحدة قومية مع سوريا. وكان هذا «التنظير» خطيرا، بحكم كون التيار العربي القومي قويا جدا في البلدين آنذاك.
غير أن الداهية العروبي اللبناني رياض الصلح تمكن من إقناع زملائه زعماء النضال الوطني (الكتلة الوطنية) في سوريا، بإمكانية اتفاق السنة مع الموارنة، على استقلال لبنان عن فرنسا، في مقابل عدم توحيده مع سوريا.
كان قرار الانفصال مؤلما جدا للزعماء السوريين. بيد أن إيمانهم العميق بالديمقراطية والحرية، جعلهم يقبلون برأي الصلح، إذا كانت هذه هي مشيئة سنة لبنان. وبالفعل، ولد استقلال لبنان مع استقلال سوريا (1946)، نتيجة عملية تفاوضية صعبة مع فرنسا، تطلبت تدخل بريطانيا مرتين لصالح اللبنانيين والسوريين.
لضيق المجال، أكتفي برواية دور السنة اللبنانية في الحياة السياسية، وصناعة القرار السياسي، من خلال التوقف المختصر عند بعض زعمائها الذين تولوا رئاسة الحكومة منذ استقلال لبنان.
كان رياض الصلح من الدهاء والذكاء، بحيث كان يعتزل الحكم لتوزير منافسيه، كسعدي المنلا. أو الشيخ عبد الحميد كرامي الذي كان عليه أن يخلع العمامة، ليصبح رئيسا للحكومة. بل تسامح رياض مع توزير قريبه سامي الصلح زوج شقيقته.
ظل رياض الصلح «رجل السنة القوي» في لبنان، سواء كان في الحكم أو خارجه. وعندما اغتاله الحزب السوري القومي الاجتماعي خلال زيارة لصديقه العاهل الأردني المؤسس عبد الله الأول، فقد اتهمه بأنه هو الذي أقنع الرئيس السوري المشير حسني الزعيم، بتسليم زعيم الحزب أنطون سعادة، إلى نظام بشارة الخوري الذي سارع بتنفيذ حكم قضائي بإعدامه (1949). وعندما أعدم سعادة لم يكن الراحل رياض الصلح رئيسا للحكومة.
بغياب رياض الصلح، اختل مقود القيادة في يد الرئيس الشيخ بشارة الذي جدد ولايته للمرة الثانية (التجديد أو التمديد كان شؤما على كل الرؤساء الموارنة). وهكذا، أجبره الإجماع الوطني والطائفي على الاستقالة. وتشكلت حكومة وفاق وطني (مؤقت) برئاسة شاب من آل كرامي الذين كانوا زعماء طرابلس آنذاك.
كان عمر رشيد كرامي (نجل الشيخ عبد الحميد) 36 سنة آنذاك. وظل القاسم المشترك الأعظم في تشكيل الحكومات. كان كرامي داهية كرياض الصلح. والمحزن أنه لاقى المصير ذاته في أواسط الثمانينات. «طربوش» كرامي كان فضفاضا. فقد ساير بصبره. واعتداله، رؤساء أقوياء ككميل شمعون. وفؤاد شهاب. بل كان محسوبا، بشكل وآخر، على العصرين الناصري والسوري في لبنان.
خلافا لنجيب ميقاتي، فقد كان رشيد كرامي يعرف متى يجب على السياسي المحترف أن ينسحب. انسحب كرامي من الرئيس شمعون الذي ظل مراهنا على بريطانيا، فيما كانت أميركا ماضية في تصفية الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية في العالم، والمنطقة العربية بالذات.
عندما خطط شمعون لتجديد رئاسته، استعان بطربوش سامي الصلح «أبي الفقراء». لكن سامي لم يكن له دهاء رياض أو كرامي. ولم يكن ظرفه وتقواه كافيين لحماية شمعون. فقد أسقطته ثورة سنية/ درزية صغيرة، انتهت بإنزال عسكري أميركي في لبنان (1958). وانتخاب قائد الجيش اللبناني العماد فؤاد شهاب رئيسا للجمهورية.
دخل لبنان الستينات العصر الأميركي/ الناصري. وكان شهاب يملك تصورا اجتماعيا يساير الطبقتين الفقيرة والوسطى (أسس نظام الضمان الاجتماعي) فأثار عليه الترويكا السياسية المارونية (بيار الجميل. كميل شمعون. ريمون إده) الحليفة للبورجوازية التجارية/ العقارية.
لتأكيد عصبيته المارونية، دخل شهاب في مساجلات طريفة ومريرة مع رئيس حكومته صائب سلام. كان شهاب يقول لسلام: «إذا كانت للشيعة حقوق، فليأخذوها من السنة». يفحم صائب بك الرئيس شهاب بالرد: «وماذا يعطي المغبون للمحروم، يا فخامة الرئيس؟».
انسحب صائب سلام من شهاب. كانت كبرياؤه السياسية عنده فوق كل اعتبار. ولذلك ظل محروما من المنصب التقليدي للسنة، في معظم حياته السياسية المديدة. وكانت الفُلَّة البيروتية القرمزية التي تحلي صدره دائما، رمزا بحرافة رائحتها، لاستقلاليته. وشعبيته لدى طائفته.
ثم انسحب سلام من العصر السوري في لبنان. كان صعبا عليه أن يُحكَم لبنان بضابط أمن سوري يبصم بإبهامه، جبين الساسة اللبنانيين الزاحفين إلى دمشق، للتعبير عن الولاء والنفاق للأب والابن. عمَّر سلام طويلا، شاهدا على محنة لبنان. وكنت أحرص على زيارته في دارته الجميلة في الريف الباريسي، كلما جاءها مع السيدة زوجته (سورية من أسرة مردم الدمشقية العريقة) مللا من منفاهما السويسري في جنيف. وكنت أجده دائما حاضر الذهن. متوقد العقل. وقارئا ممتازا لكتاب الفكر والسياسة.
كانت حكومة شفيق الوزان كارثة سنية حقيقية في أوائل الثمانينات. فقد أصر الرجل، بعناد عجيب، على البقاء في الحكم متمسكا باتفاقية الصلح مع إسرائيل (اتفاق 17 أيار) التي عقدتها المؤسسة المارونية الرئاسية، في ذروة العصر الإسرائيلي في لبنان.
تغيرت الظروف. سقطت معاهدة الصلح. وانتهت حياة الوزان السياسية باستقالته. فعاش منسيا. ومات غمّا وكمدا، نادما على خلافه مع إجماع طائفته ضد سياسته. وموقفه.
[size=25]ومن حسن حظ لبنان أن المارونية السياسية – باستثناء تيار ميشال عون – عادت لتراهن مع السنة، على العروبة. وقد وجدت، في السعودية بالذات، منذ ميثاق الطائف (1989)، حليفا حريصا على استقلال لبنان. واستقراره، ومروره سالما. آمنا، في الظروف الراهنة الصعبة.
بمصرع رشيد كرامي، ورحيل صائب سلام، ينتهي عصر الزعامة السنية الأرستقراطية. ليبدأ عصر سني جديد. جيل سني آت من القرية العالمية المحكومة بتكنوقراط الاقتصاد. ورجال المال. والأعمال. والمصارف.
في انتظار الثلاثاء المقبل، مع سليم الحص. رفيق وسعد الحريري. فؤاد السنيورة. وأخيرا، الحاج نجيب ميقاتي الذي أخشى عليه من مصير شفيق الوزان الذي خالف إرادة شعبه وطائفته، فاختفى من مسرح السياسة. قلت إن السياسي المحترف يعرف متى ينسحب. وما أصعب على السياسي أن يبقى حيا بعدما تنطفئ حوله أنوار المسرح
منقول عن "الشرق الأوسط" السعودية
-------------------------------------------
منقووووووول