المقالة (1) : هل هي أخطاء منا أم غفلة أم غباء .؟
بقلم : أبو ياسر السوري
قصة هذه المقالة وأخواتها الثلاث التالية :
منذ أيام مضت ، وأنا منهمك في لملمة مقالات كنت كتبتها حول الثورة ، لاحتفاظ بنسخة خطية منها ، لئلا تتعرض للضياع ، خصوصا وأنها تعتبر جزءا من تاريخ ثورة مجيدة ، من حقها أن يعتنى بكل ما يخصها من مقالات سياسية ، وشعر ثوري ، ونثر أدبي ... فعثرت على أربع مقالات لي لم تنشر بعد . فقرأتها من جديد ، فرأيت أنه لم يفت أوانها ، وأن الحاجة إليها ما زالت قائمة .. ولست أدري هل مرد ذلك إلى توقع صائب لما تسير عليه الأحداث ، أم لأن النظام يسير على سكة قطار ، لا يستطيع الخروج عنها ، مما يجعل أي مراقب يعرف خط سيره المرسوم ، الذي يتحكم في اتجاهه ، ويحتم عليه أن لا يخرج عنه اثناء المسير .
وقد رأيت أن هذه المقالات الأربع ، هي أشبه بحلقات متآخية في سلسلة واحدة ، مرتبط بعضها ببعض ، لا تتم الفائدة منها إلا بقراءتها معا ، لترابط أفكارها ، وتلاحم ما بينها .
لهذا سأقوم بنشرها الآن مرة واحدة ، لأضعها بذلك بين يدي القارئ الكريم ، لتنال حظها من المطالعة والنقد ، وتساعد هي وما يتبعها من ملاحق وتعليقات على قراءة الواقع قراءة تقود إلى تصحيح المسار في طريق الثورة ، وتؤدي دورها في التفسير والتنوير ... وهي المقالات التالية :
1 - هل هي أخطاء منا أم غفلة أم غباء .؟
2 - ( الخطوة الأولى إلى التغيير ) الانتقال بالثورة من السلمية إلى العسكرة
3 - (الخطوة الثانية إلى التغيير) الانتقال القسري من الحكم الطائفي إلى الحكم
الوطني .
4 - مجازر النظام بأهلنا لن تتوقف ما لم تهاجم القرداحة .
نص المقالة
معذرة أيها السادة ، فأنا الآن رجل فَقَدَ صوابَهُ أو كاد ، فكلامُهُ حالياً أقربُ إلى الجنون ، فمن شاء فليقرأه ، فقد تكون فيه عبرةٌ تنفع العقلاء ، وربما جرت الحكمة على أفواه المجانين .. ومن شاء فليعرض عنه ، وليضرب صفحا عن كلام لا يعنيه ..
معذرة أكررها مرة أخرى ، لأنَّ ما حَدَثَ وما زال يَحدُثُ من أخطاء فادحة ، يجعلني لا أرتاحُ إلا بشتم نفسي ، وشتم كل ثائر غبي مثلي ، سمح لنفسه أن يصغي ذات يوم لتوجيهات الأغبياء .. فالمقهور أحيانا يلطم وجهه بكفَّيه ، وقد يَخبِطُ رأسه بكلتا يديه ... وقد يبكي ، وقد يثور فيمزق ثيابه .. أو يكسر شيئا بيده ... وهو معذور في هذا كله ، لأنه يدفع بذلك الضرر الأشدَّ بالضرر الأخفّ ، فلو لم يقم بهذه الحماقات ، ربما تعَرَّضَ لأنْ يموتَ غيظا ، أو يفارقَ الحياة قهرا ...
وقبلَ أنْ أدخُل في صلب الموضوع ، سأعرض أرقاما ، قد لا تكون دقيقة في الحساب ، لا لأنها مبالغٌ فيها ، بل لأن الواقع أكبر منها بكثير . والزمنُ القادم سيكشف لنا عن أسرارٍ مخيفة ، يشيب لها الولدان ... نعم سيكشف لنا الزمن عن خسائر باهظة ، كان يمكننا تفاديها ، لو أننا اخترنا في ثورتنا طريقاً آخر ، غير الطريق الخطأ الذي سلكناه .
أقول هذا ، ونحن على مفترقٍ خطير ، والعقلُ يفرض علينا أن نراجع حساباتنا الماضية ، وندققها جيدا ، لنعرف مقدار الربح أو الخسارة ، ثم نتجاوز الأخطاء ، ونغيِّرُ المسار ، إلى اتجاه يجنبنا العثار .
وباستعراض سريع لما حدث منذ قيام الثورة وحتى الآن ، وقد مضى من عمر هذه الثورة 17 شهرا ... نجد الآتي :
أولا : لم تَسلَمْ قريةٌ سورية ، ولا مدينةٌ صغيرة ولا كبيرةٌ حتى العاصمة .. إلا طالها النظامُ بقذائف مدفعيته وصواريخه وممارساته الإجرامية ، كالقتل والسلب والنهب والحرق والتعذيب حتى الموت والاغتصاب ، دون التفريق في هذا كله بين رجل أو امرأة أو كبير أو صغير ... وقد بلغ عدد القتلى جَرَّاءَ ذلك أكثر من مائتي ألف قتيل ، ومليون جريج ، ومائة ألف مُعَوَّق ، ومائة ألف مُصابٍ بفقدانِ بعض أطرافه أو أعضائه ، كخسارة إحدى اليدين أو الرجلين أو العينين .. وهناك أكثرُ من ثلاثة ملايين مُشرَّدٍ من بيته داخل سوريا .. وهنالك أكثر من نصف مليون مهجر إلى دول الجوار : تركيا ، والأردن ، ولبنان ، والعراق أخيرا ... وهنالك اغتصابٌ بالآلاف ... وبيوتٌ محروقةٌ ومهدمةٌ بالآلاف .. وهنالك عشرات الآلاف من أشجار الزيتون التي أُحرِقَتْ ، وآلافُ الأشجار المثمرة من تفاح وليمون وبرتقال ... وأخيراً ، قام النظام بحرق أشجار الأحراج المحيطة بقرى جبل الأكراد ، والأحراج المحيطة بقرى جسر الشغور .. كما قام النظام بحرق الزروع والمحاصيل .. مُتَحَرّياً في هذا كله قرى ومدن الطائفة السنية خاصة .. وهم يشكلون أكثر من 80% من المواطنين السوريين . ويملكون أكثر من 90% من الأراضي الزراعية السورية .
ثانياً : قد تعرَّضَ الشعبُ السوري كله ، إلى سياسة التجويع بقطع أغلب المواد الغذائية الضرورية عنه ، كما قطع عنه الكهرباء والماء والاتصالات والغاز .. حتى قام النظام بتسميم الماء في بعض المدن ، وتسميم الخبز أيضا في مدن أخرى ... ويمكن القول بأن النظام تعمد تعطيل كل مرافق الحياة ، ليكره المواطنين من غير العلويين على العودة إلى بيت الطاعة والعبودية بعد أن خرجوا منه .!
واللافتُ للنظر ، أن النظام قد تحاشى مساسَ القرى العلوية بأي سوء ، وليس ذلك وحسب ، وإنما وفَّرَ لهم كل ما يطلبون من ضرورات العيش مجاناً بدون مقابل . فصار يُوزِّعُ لهم الغاز بالمجان ، ويَجلِبُ إليهم الأرزاق والمواد الغذائية بشكل أكبر من ذي قبل ... في الوقت الذي يعاني فيه الشعب السوري من غير العلويين أشد المعاناة ، ويقاسي فيه الأمرَّين من جوع وتضييق وظلم وإذلال وحرمان .
ثالثا : ارتكب النظام مجازر لا حصر لها حتى الآن ، وكانت هذه المجازر كلها في قرى وأحياء الطائفة السنية خاصة ، منها المجازر في بابا عمر وكرم الزيتون والحولة والقبير ، وبعض القرى التي أبيدت في جبل الزاوية ... ولم تخل مجزرة من هذه المجازر عن قتل الأبرياء نحرا بالسكاكين ، خصوصا الأطفال والنساء .. وذلك زيادة في إظهار الحقد والكراهية أثناء القتل والتنكيل . ثم زاد النظام على ذلك ، فشرع يحرق الضحايا ، مما جعل التعرف على هوياتهم أمراً جدَّ عسير .
رابعا : استعان النظام في ارتكاب هذه الممارسات الإجرامية كلها ، بأجهزته الأمنية ، وشبيحته ، وكتائب جيشه وألويته وفرقه العسكرية ، على رأسها الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري .. واستخدم النظام في القمع كل آلته الحربية الثقيلة ، من دبابات ومصفحات وطائرات مروحية وبر دي إم وناقلات جنود ومدفعية ميدان بعيدة المدى ، وراجمات صواريخ ، حتى قصف أخيرا بالطائرات الحربية النفاثة ، ذات الأجنحة الثابتة ، وبالصواريخ من زنة 1000 كغ من مادة : T N T . ذات القدرة التدميرية العالية . الواحدة منها تهدم بناية كاملة من عشرة أدوار . وهو الآن يلوح باستخدام السلاح البيولوجي والكيميائي بضربات ماحقة ، علما بأنه سبق أن استخدمه منذ أكثر من شهرين على نطاق ضيق .
خامسا : كما استعان النظام بالباسيج الإيراني ، وحزب الله اللبناني ، وميليشيات مقتدى الصدر العراقية ، فأمده هؤلاء بالمال والسلاح والذخيرة والرجال ووسائل التشويش وخبراء الاتصال .
سادسا : بتعاون نظام الأسد مع إيران ، وعن طريق تنازلات تمس بسيادة سوريا وأمنها وكرامتها . استطاع هذا النظام أن يكسب استمرار التأييد الإيراني له ، كما استطاع أن يكسب صوت روسيا والصين معا في مجلس الأمن ، فحاربتا معه بالفيتو المزدوج في مجلس الأمن ، الذي حال دون إصدار أي قرار يدينه . وشل حركة المجتمع الدولي ، ومنعه من مد يد العون إلينا ، وأطال علينا أمد المحنة والمعاناة .
سابعا : لقد تَحدَّثَتْ بعضُ الأوساط المطلعة عن اجتماعات عُقِدَتْ بين مسؤولين من النظام على أرفع المستويات ، وبعض عناصر الموساد الإسرائيلي ، للاتفاق على خطة عمل تعاونية مشتركة بينهما لقمع الثورة السورية . ويبدو أن اتفاقا ما ، قد وقع ما بين النظام الأسدي ، والعدو الإسرائيلي ، وهذا ما جعل إسرائيل تُصرِّحُ بأن بقاء الأسد في السلطة مصلحةٌ استراتيجية لإسرائيل ، وأن الشعب الإسرائيلي يصلِّي ويدعو للأسد بالسلامة والبقاء في الحكم . وهذا ما جعل نتنياهو يقوم بجولة سريعة إلى أوربا وأمريكا ، لم يرجع منها حتى أقنع الدول الغربية كلها بالتخلي عن نصرة الشعب السوري المطالب بحريته ، والسماح للأسد بقمع هذا الشعب الثائر بما شاء وكيفما شاء .. ولهذا غيَّرت الدولُ الغربية لهجتها تُجاه الأسد ، فأرْخَتْ له العِنَان ، ولوَّحتْ له بالسماح الضمني بارتكاب كل المجازر التي مارسها ضد شعبه ، المطالب بحقه في الحرية والكرامة ، وتعلَّلتْ تلك الدول الكبرى لعدم تدخلها في الشأن السوري باختلاق المعاذير الواهية ، وتظاهرت بعجزها عن التدخل عسكريا لإنقاذ السوريين مما هم فيه من محنة ومعاناة ..
كل هذا البلاء الذي صُبَّ علينا في الماضي ، وكل ما سيُصَبُّ علينا فيما سيأتي من بلاء ، كان - في نظري - نتيجة طبيعية لثلاثة أخطاء كبرى وقعنا فيها نحن الثوار ، وهي التالية :
1 – إننا تبنينا الحراك السلمي في غير مَحلِّه ، لأن النظام الذي ابتلينا به ، لا ينفعُ معه إلا العسكرة من أول ثانية في الحراك ، وكان ينبغي عدمُ إعطاء النظام فرصةً لتحريك قواته لحربنا وإنزال الخسائر الفادحة بنا ، وكان ينبغي أن لا نصبر على ظلمه وإجرامه كل هذه المدة الطويلة ، التي كلفتنا الكثيرَ الكثيرَ من الدماء والأشلاء .
2 – إننا لم نَرُدَّ على الطائفية بمثلها ، وإنما تحلَّينا بالبراءة من التجييش الطائفي ، وهذه غفلةٌ مِنّا ، لأنَّ كل الأقليات من حولنا متمسكة بالطائفية ، التي نتبرأ نحن منها ، ونتحاشى ذكرها ولو لفظا أثناء الحديث ، وهذه الحال هي ما يتقوى بها علينا أبناء الأقليات ، وتبقينا ضعفاء أمامهم ، والمُلك يا سادةُ كما يقول ابن خلدون ، يحتاج إلى عصبية تحميه ، والطائفية لونٌ من ألوان العصبية ، وبدونها لن تقوم لنا قائمة ، وأنا أعلم أن بعض المتفلسفين لن يعجبه كلامي هذا ، ولكنَّ الأيام ستبرهن له ولكل من يغمض عينيه عن هذا الجانب الخطير ، بأنه مخطئ بكل المعايير ، وأني فيه على صواب ..
3 – إننا أحسنا الظن بالعَرَبِ والغَرْبِ ، وكان علينا أن لا نثق بأيٍّ منهما ، لأنهم ليسوا محلا للثقة ، ولأنهم لا يتحلون بأي قدر من القيم والأخلاق . فقد خيب العالم العربي والغربي ظننا فيهم ، ووقفوا جميعاً إلى جانب النظام وما زالوا .. وما وقف من وقف معنا من العرب نصرة لنا وللحق الذي نثور من أجله ، وإنما وقفوا مراعاة لمصالح تخصهم هم ، ولولاها لما أيدونا بمقدار قطمير .
أما العالم الغربي ، فسيبقى متخليا عنا ، ما دامت إسرائيلُ تَصُفُّ إلى جانب عميلها الأسد في مواجهتنا . وحين يشعر العالم بقوتنا في لحظة ما ، سيتدخل ، ولكن لن يتدخل عندها لإنقاذنا ، وإنما لإنقاذ الأسد عميل اليهود المدلل ، وسوف يحاول المجتمع الدولي آنذاك أن يفرض علينا حلا وسطا ، لا يعطينا كل ما نريد ، ولا يحرمنا من كل ما نريد .
فهل نُقرُّ بأن هذه أخطاء ، أم نتجمَّلُ قليلا ونقول : إنها غفلة ؟ أم نكون صرحاء مع أنفسنا ، ونعترفُ بأنها منتهى الغباء ؟
بقلم : أبو ياسر السوري
قصة هذه المقالة وأخواتها الثلاث التالية :
منذ أيام مضت ، وأنا منهمك في لملمة مقالات كنت كتبتها حول الثورة ، لاحتفاظ بنسخة خطية منها ، لئلا تتعرض للضياع ، خصوصا وأنها تعتبر جزءا من تاريخ ثورة مجيدة ، من حقها أن يعتنى بكل ما يخصها من مقالات سياسية ، وشعر ثوري ، ونثر أدبي ... فعثرت على أربع مقالات لي لم تنشر بعد . فقرأتها من جديد ، فرأيت أنه لم يفت أوانها ، وأن الحاجة إليها ما زالت قائمة .. ولست أدري هل مرد ذلك إلى توقع صائب لما تسير عليه الأحداث ، أم لأن النظام يسير على سكة قطار ، لا يستطيع الخروج عنها ، مما يجعل أي مراقب يعرف خط سيره المرسوم ، الذي يتحكم في اتجاهه ، ويحتم عليه أن لا يخرج عنه اثناء المسير .
وقد رأيت أن هذه المقالات الأربع ، هي أشبه بحلقات متآخية في سلسلة واحدة ، مرتبط بعضها ببعض ، لا تتم الفائدة منها إلا بقراءتها معا ، لترابط أفكارها ، وتلاحم ما بينها .
لهذا سأقوم بنشرها الآن مرة واحدة ، لأضعها بذلك بين يدي القارئ الكريم ، لتنال حظها من المطالعة والنقد ، وتساعد هي وما يتبعها من ملاحق وتعليقات على قراءة الواقع قراءة تقود إلى تصحيح المسار في طريق الثورة ، وتؤدي دورها في التفسير والتنوير ... وهي المقالات التالية :
1 - هل هي أخطاء منا أم غفلة أم غباء .؟
2 - ( الخطوة الأولى إلى التغيير ) الانتقال بالثورة من السلمية إلى العسكرة
3 - (الخطوة الثانية إلى التغيير) الانتقال القسري من الحكم الطائفي إلى الحكم
الوطني .
4 - مجازر النظام بأهلنا لن تتوقف ما لم تهاجم القرداحة .
نص المقالة
معذرة أيها السادة ، فأنا الآن رجل فَقَدَ صوابَهُ أو كاد ، فكلامُهُ حالياً أقربُ إلى الجنون ، فمن شاء فليقرأه ، فقد تكون فيه عبرةٌ تنفع العقلاء ، وربما جرت الحكمة على أفواه المجانين .. ومن شاء فليعرض عنه ، وليضرب صفحا عن كلام لا يعنيه ..
معذرة أكررها مرة أخرى ، لأنَّ ما حَدَثَ وما زال يَحدُثُ من أخطاء فادحة ، يجعلني لا أرتاحُ إلا بشتم نفسي ، وشتم كل ثائر غبي مثلي ، سمح لنفسه أن يصغي ذات يوم لتوجيهات الأغبياء .. فالمقهور أحيانا يلطم وجهه بكفَّيه ، وقد يَخبِطُ رأسه بكلتا يديه ... وقد يبكي ، وقد يثور فيمزق ثيابه .. أو يكسر شيئا بيده ... وهو معذور في هذا كله ، لأنه يدفع بذلك الضرر الأشدَّ بالضرر الأخفّ ، فلو لم يقم بهذه الحماقات ، ربما تعَرَّضَ لأنْ يموتَ غيظا ، أو يفارقَ الحياة قهرا ...
وقبلَ أنْ أدخُل في صلب الموضوع ، سأعرض أرقاما ، قد لا تكون دقيقة في الحساب ، لا لأنها مبالغٌ فيها ، بل لأن الواقع أكبر منها بكثير . والزمنُ القادم سيكشف لنا عن أسرارٍ مخيفة ، يشيب لها الولدان ... نعم سيكشف لنا الزمن عن خسائر باهظة ، كان يمكننا تفاديها ، لو أننا اخترنا في ثورتنا طريقاً آخر ، غير الطريق الخطأ الذي سلكناه .
أقول هذا ، ونحن على مفترقٍ خطير ، والعقلُ يفرض علينا أن نراجع حساباتنا الماضية ، وندققها جيدا ، لنعرف مقدار الربح أو الخسارة ، ثم نتجاوز الأخطاء ، ونغيِّرُ المسار ، إلى اتجاه يجنبنا العثار .
وباستعراض سريع لما حدث منذ قيام الثورة وحتى الآن ، وقد مضى من عمر هذه الثورة 17 شهرا ... نجد الآتي :
أولا : لم تَسلَمْ قريةٌ سورية ، ولا مدينةٌ صغيرة ولا كبيرةٌ حتى العاصمة .. إلا طالها النظامُ بقذائف مدفعيته وصواريخه وممارساته الإجرامية ، كالقتل والسلب والنهب والحرق والتعذيب حتى الموت والاغتصاب ، دون التفريق في هذا كله بين رجل أو امرأة أو كبير أو صغير ... وقد بلغ عدد القتلى جَرَّاءَ ذلك أكثر من مائتي ألف قتيل ، ومليون جريج ، ومائة ألف مُعَوَّق ، ومائة ألف مُصابٍ بفقدانِ بعض أطرافه أو أعضائه ، كخسارة إحدى اليدين أو الرجلين أو العينين .. وهناك أكثرُ من ثلاثة ملايين مُشرَّدٍ من بيته داخل سوريا .. وهنالك أكثر من نصف مليون مهجر إلى دول الجوار : تركيا ، والأردن ، ولبنان ، والعراق أخيرا ... وهنالك اغتصابٌ بالآلاف ... وبيوتٌ محروقةٌ ومهدمةٌ بالآلاف .. وهنالك عشرات الآلاف من أشجار الزيتون التي أُحرِقَتْ ، وآلافُ الأشجار المثمرة من تفاح وليمون وبرتقال ... وأخيراً ، قام النظام بحرق أشجار الأحراج المحيطة بقرى جبل الأكراد ، والأحراج المحيطة بقرى جسر الشغور .. كما قام النظام بحرق الزروع والمحاصيل .. مُتَحَرّياً في هذا كله قرى ومدن الطائفة السنية خاصة .. وهم يشكلون أكثر من 80% من المواطنين السوريين . ويملكون أكثر من 90% من الأراضي الزراعية السورية .
ثانياً : قد تعرَّضَ الشعبُ السوري كله ، إلى سياسة التجويع بقطع أغلب المواد الغذائية الضرورية عنه ، كما قطع عنه الكهرباء والماء والاتصالات والغاز .. حتى قام النظام بتسميم الماء في بعض المدن ، وتسميم الخبز أيضا في مدن أخرى ... ويمكن القول بأن النظام تعمد تعطيل كل مرافق الحياة ، ليكره المواطنين من غير العلويين على العودة إلى بيت الطاعة والعبودية بعد أن خرجوا منه .!
واللافتُ للنظر ، أن النظام قد تحاشى مساسَ القرى العلوية بأي سوء ، وليس ذلك وحسب ، وإنما وفَّرَ لهم كل ما يطلبون من ضرورات العيش مجاناً بدون مقابل . فصار يُوزِّعُ لهم الغاز بالمجان ، ويَجلِبُ إليهم الأرزاق والمواد الغذائية بشكل أكبر من ذي قبل ... في الوقت الذي يعاني فيه الشعب السوري من غير العلويين أشد المعاناة ، ويقاسي فيه الأمرَّين من جوع وتضييق وظلم وإذلال وحرمان .
ثالثا : ارتكب النظام مجازر لا حصر لها حتى الآن ، وكانت هذه المجازر كلها في قرى وأحياء الطائفة السنية خاصة ، منها المجازر في بابا عمر وكرم الزيتون والحولة والقبير ، وبعض القرى التي أبيدت في جبل الزاوية ... ولم تخل مجزرة من هذه المجازر عن قتل الأبرياء نحرا بالسكاكين ، خصوصا الأطفال والنساء .. وذلك زيادة في إظهار الحقد والكراهية أثناء القتل والتنكيل . ثم زاد النظام على ذلك ، فشرع يحرق الضحايا ، مما جعل التعرف على هوياتهم أمراً جدَّ عسير .
رابعا : استعان النظام في ارتكاب هذه الممارسات الإجرامية كلها ، بأجهزته الأمنية ، وشبيحته ، وكتائب جيشه وألويته وفرقه العسكرية ، على رأسها الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري .. واستخدم النظام في القمع كل آلته الحربية الثقيلة ، من دبابات ومصفحات وطائرات مروحية وبر دي إم وناقلات جنود ومدفعية ميدان بعيدة المدى ، وراجمات صواريخ ، حتى قصف أخيرا بالطائرات الحربية النفاثة ، ذات الأجنحة الثابتة ، وبالصواريخ من زنة 1000 كغ من مادة : T N T . ذات القدرة التدميرية العالية . الواحدة منها تهدم بناية كاملة من عشرة أدوار . وهو الآن يلوح باستخدام السلاح البيولوجي والكيميائي بضربات ماحقة ، علما بأنه سبق أن استخدمه منذ أكثر من شهرين على نطاق ضيق .
خامسا : كما استعان النظام بالباسيج الإيراني ، وحزب الله اللبناني ، وميليشيات مقتدى الصدر العراقية ، فأمده هؤلاء بالمال والسلاح والذخيرة والرجال ووسائل التشويش وخبراء الاتصال .
سادسا : بتعاون نظام الأسد مع إيران ، وعن طريق تنازلات تمس بسيادة سوريا وأمنها وكرامتها . استطاع هذا النظام أن يكسب استمرار التأييد الإيراني له ، كما استطاع أن يكسب صوت روسيا والصين معا في مجلس الأمن ، فحاربتا معه بالفيتو المزدوج في مجلس الأمن ، الذي حال دون إصدار أي قرار يدينه . وشل حركة المجتمع الدولي ، ومنعه من مد يد العون إلينا ، وأطال علينا أمد المحنة والمعاناة .
سابعا : لقد تَحدَّثَتْ بعضُ الأوساط المطلعة عن اجتماعات عُقِدَتْ بين مسؤولين من النظام على أرفع المستويات ، وبعض عناصر الموساد الإسرائيلي ، للاتفاق على خطة عمل تعاونية مشتركة بينهما لقمع الثورة السورية . ويبدو أن اتفاقا ما ، قد وقع ما بين النظام الأسدي ، والعدو الإسرائيلي ، وهذا ما جعل إسرائيل تُصرِّحُ بأن بقاء الأسد في السلطة مصلحةٌ استراتيجية لإسرائيل ، وأن الشعب الإسرائيلي يصلِّي ويدعو للأسد بالسلامة والبقاء في الحكم . وهذا ما جعل نتنياهو يقوم بجولة سريعة إلى أوربا وأمريكا ، لم يرجع منها حتى أقنع الدول الغربية كلها بالتخلي عن نصرة الشعب السوري المطالب بحريته ، والسماح للأسد بقمع هذا الشعب الثائر بما شاء وكيفما شاء .. ولهذا غيَّرت الدولُ الغربية لهجتها تُجاه الأسد ، فأرْخَتْ له العِنَان ، ولوَّحتْ له بالسماح الضمني بارتكاب كل المجازر التي مارسها ضد شعبه ، المطالب بحقه في الحرية والكرامة ، وتعلَّلتْ تلك الدول الكبرى لعدم تدخلها في الشأن السوري باختلاق المعاذير الواهية ، وتظاهرت بعجزها عن التدخل عسكريا لإنقاذ السوريين مما هم فيه من محنة ومعاناة ..
كل هذا البلاء الذي صُبَّ علينا في الماضي ، وكل ما سيُصَبُّ علينا فيما سيأتي من بلاء ، كان - في نظري - نتيجة طبيعية لثلاثة أخطاء كبرى وقعنا فيها نحن الثوار ، وهي التالية :
1 – إننا تبنينا الحراك السلمي في غير مَحلِّه ، لأن النظام الذي ابتلينا به ، لا ينفعُ معه إلا العسكرة من أول ثانية في الحراك ، وكان ينبغي عدمُ إعطاء النظام فرصةً لتحريك قواته لحربنا وإنزال الخسائر الفادحة بنا ، وكان ينبغي أن لا نصبر على ظلمه وإجرامه كل هذه المدة الطويلة ، التي كلفتنا الكثيرَ الكثيرَ من الدماء والأشلاء .
2 – إننا لم نَرُدَّ على الطائفية بمثلها ، وإنما تحلَّينا بالبراءة من التجييش الطائفي ، وهذه غفلةٌ مِنّا ، لأنَّ كل الأقليات من حولنا متمسكة بالطائفية ، التي نتبرأ نحن منها ، ونتحاشى ذكرها ولو لفظا أثناء الحديث ، وهذه الحال هي ما يتقوى بها علينا أبناء الأقليات ، وتبقينا ضعفاء أمامهم ، والمُلك يا سادةُ كما يقول ابن خلدون ، يحتاج إلى عصبية تحميه ، والطائفية لونٌ من ألوان العصبية ، وبدونها لن تقوم لنا قائمة ، وأنا أعلم أن بعض المتفلسفين لن يعجبه كلامي هذا ، ولكنَّ الأيام ستبرهن له ولكل من يغمض عينيه عن هذا الجانب الخطير ، بأنه مخطئ بكل المعايير ، وأني فيه على صواب ..
3 – إننا أحسنا الظن بالعَرَبِ والغَرْبِ ، وكان علينا أن لا نثق بأيٍّ منهما ، لأنهم ليسوا محلا للثقة ، ولأنهم لا يتحلون بأي قدر من القيم والأخلاق . فقد خيب العالم العربي والغربي ظننا فيهم ، ووقفوا جميعاً إلى جانب النظام وما زالوا .. وما وقف من وقف معنا من العرب نصرة لنا وللحق الذي نثور من أجله ، وإنما وقفوا مراعاة لمصالح تخصهم هم ، ولولاها لما أيدونا بمقدار قطمير .
أما العالم الغربي ، فسيبقى متخليا عنا ، ما دامت إسرائيلُ تَصُفُّ إلى جانب عميلها الأسد في مواجهتنا . وحين يشعر العالم بقوتنا في لحظة ما ، سيتدخل ، ولكن لن يتدخل عندها لإنقاذنا ، وإنما لإنقاذ الأسد عميل اليهود المدلل ، وسوف يحاول المجتمع الدولي آنذاك أن يفرض علينا حلا وسطا ، لا يعطينا كل ما نريد ، ولا يحرمنا من كل ما نريد .
فهل نُقرُّ بأن هذه أخطاء ، أم نتجمَّلُ قليلا ونقول : إنها غفلة ؟ أم نكون صرحاء مع أنفسنا ، ونعترفُ بأنها منتهى الغباء ؟