د. محمد بن إبراهيم الحمد
الثناء الصادق المعتدل مما يشعر الإنسان بقيمته، ويهزّه إلى المكارم هزّاً؛ فيقوده إلى الصفح، والعفو، وإحسان الظن، والبذل. كما أنه دليل على كرم سجية المُثْنِي، وعلى بعده عن الأثرة والشحّ؛ فهو من قبيل الكلمة الطيبة، والكلمة الطيبة صدقة. كما أن له ارتباطاً بخلق كريم ألا وهو الاعتراف للمحسن، وعدم غمطه حقه.
ولا ريب أن هذه المعاني من أعظم ما يرتقي بالمشاعر، وينهض بالهمم، ويحفظ للناس أقدارهم، وينأى بهم عن السفاسف والمحقرات.
بل إن كرام الناس إذا مُدحوا أبت لهم هممهم أن يكونوا دون ما مدحوا به.
بل إن الثناء الصادق مما تنشرح له صدور العظماء، ويشعرهم بصواب ما هم عليه، ويقودهم إلى مزيد من الخير والإحسان، ويسدّ عليهم باب الكسل الذي يواجههم به المخذِّلون، والمبالغون في النقد.
ولهذا سلكت هداية القرآن الكريم هذا المهيع؛ فكم هي الآيات التي ورد فيها الثناء من الرب الكريم -جل وعلا- على بعض عباده الصالحين؟
إنها كثيرة جداً، منها قوله -تعالى- في الثناء على نوح -عليه السلام-: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً). [الإسراء: 17].وقوله -تعالى- في حق إبراهيم -عليه السلام-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ). [هود: 75].
وقوله في حق نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ). [القلم:4].
أما السنة النبوية فحافلة بهذا المقام؛ ولو ألقيت نظرة في دواوينها، وفي كتب المناقب منها على وجه الخصوص لرأيت عجباً، وإليك هذين المثالين فحسب:
جاء في صحيح البخاري عن عمرو بن تغلب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتى بمال، أو بسبي فقسمه، فأعطى رجالاً وترك رجالاً، فبلغه أن الذين ترك عتبوا؛ فحمد الله، ثم أثنى عليه ثم قال: "أما بعد، فوالله إني لأعطي الرجل، وأدع الرجل، والذي أدع أحب إليّ من الذي أعطي، ولكن أعطي أقواماً لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأَكِل أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، منهم عمرو بن تغلب" فوالله ما أحب أن لي بكلمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حمر النعم.
فانظر إلى هذا الثناء، وانظر إلى أثره في نفس عمرو بن تغلب -رضي الله عنه- حتى استغنى أن يطلب مالاً؛ فكانت هذه الكلمة أحب إليه من حمر النعم، وهي أَنْفَسُ ما تملكه العرب.
وجاء في الصحيحين من حديث عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كان الرجل في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتمنيت أن أرى رؤيا؛ فأقصها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكنت غلاماً شاباً، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني، فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان، وإذا فيها أناس قد عرفتهم؛ فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، قال: فَلَقِيَنا ملك آخر، فقال لي لم تُرَعْ.
فقصصتها على حفصة، فقصَّتْها حفصة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل".
فكان عبد الله بَعْدُ لا ينام من الليل إلاّ قليلاً. فهذه أمثلة يسيرة من السنة، والمقام لا يحتمل الإطالة في ذلك، وإنما هي إشارات يتبين من خلالها أن الثناء الصادق سنة متبعة، وأن له آثاره الحميدة.
ولهذا تتابع السلف الصالح على هذا الخلق النبيل، فلو نظرنا في سير أكابرهم لرأينا ذلك واضحاً؛ فهذا ابن مسعود -رضي الله عنه- يقول: "كان معاذ بن جبل أمة قانتاً لله حنيفاً، ولم يكن من المشركين" تشبيهاً له بإبراهيم الخليل -عليه السلام-.
فهذا الثناء من ابن مسعود -رضي الله عنه- دليل على إنصافه، وزكاء نفسه؛ فمع أنه من أكابر علماء الصحابة، ومع أنه أسبق إسلاماً وأكبر سناً من معاذ، إلاّ أنه لم يجد في نفسه غضاضة من الثناء عليه، وإنزاله منزلته اللائقة به.
وهكذا كان شأن الصحابة -رضي الله عنهم- وبمثل هذا الخلق النبيل سادوا، وارتفعوا، فكانوا خير أمة أخرجت للناس، وكانوا أكثرهم اتفاقاً ووئاماً، وأقلَّهم خلافاً وتفرقاً.
وهكذا درج من جاء بعد الصحابة على هذا المنوال؛ فهذا الإمام أحمد -رحمه الله- يقول: "أتدري مَن الإمامُ؟ الإمام سفيان الثوري، لا يتقدمه أحد في قلبي".
وقال: "قال لي ابن عيينة: لن ترى بعينك مثل سفيان".
وهذا سفيان الثوري -رحمه الله- يقول: "كان إبراهيم بن أدهم يشبه إبراهيم الخليل، ولو كان في الصحابة لكان رجلاً فاضلاً".
ويقول -أيضاً- في ابن المبارك -رحمه الله-: "إني لأشتهي أن أكون من عمري كلِّه أن أكون سنة مثل ابن المبارك؛ فما أقدر أن أكون، ولا ثلاثة أيام".
وقال علي بن زيد: حدثني عبدالرحمن بن أبي جميل قال: "كنا حول ابن المبارك بمكة، فقلنا له: يا عالم الشرق حدثنا -وسفيان قريب منا يسمع- فقال: ويْحَكُم! عالم المشرق والمغرب وما بينهم".
فها هم أفاضل السلف يشهد بعضهم لبعض، ويُثني بعضهم على بعض دونما تحرج أو غضاضة؛ فماذا كانت النتيجة؟ لقد رفعهم الله جميعاً؛ وربما كان إعجابنا بالشاهد المادح أعظم من إعجابنا بالمشهود له الممدوح؛ لأن شهادته لِقِرْنِهِ تدل على ساحة طاهرة، ونفس زكية.
وهذا مما يرقى بالذوق، ويسمو بالهمم، ويرتقي بالمشاعر، ويقضي على روح التشاحن والبغضاء.
قيل لأعرابي: "من أكرم الناس عِشرة؟ قال: من إذا قرب منح، وإذا بعد مَدَح، وإن ضويق فسح، فمن ظفر به فقد أفلح ونجح".
ومما ينبغي التنبيه عليه مراعاة الفرق بين المديح المنضبط المعتدل الصادق، وبين الإطراء الكاذب الممقوت؛ كمن يقول في ممدوحه:
ما شئْتَ لا ما شاءت الأقدارُ *** فاحكمْ فأنت الواحدُ القهّارُ
وكحال من يقول لما حصل زلزال في مصر في عهد أحد السلاطين:
ما زُلْزِلت مصرُ من كيدٍ يُراد بها *** لكنها رقصت من عدله طربا
وكذلك ينبغي مراعاة التوازن في المديح؛ لأن من الناس من يزيده المديح إقبالاً وجداً، وفضلاً ونبلاً، ومنهم من يبعث فيه المديح غروراً، وطيشاً، وتيهاً، وعتواً، ونفوراً.
وهذا راجع لحكمة الإنسان، ومعرفته بطبائع النفوس، وربما كان الفصل بينهما رهينَ كلمة مدح مقدرة أو مبالغ فيها.وبناءً على ما مضى كله؛ فلماذا لا نأخذ بهذه الطريقة الحكيمة النبيلة؟ لماذا لا نأخذ بها إذا وقفنا أمام الناس لنعظهم؛ فنبدأ بالثناء عليهم ثناءً متزناً؛ كي نهيئ نفوسهم لقبول ما نقول؛ إذ لا شيء يهزّ أعطافهم كالثناء عليهم خصوصاً إذا كان من غريب؟
وما الذي يضيرنا إذا رأينا إنساناً محافظاً على الصلاة، أو باراً بوالديه، أو واصلاً لأرحامه، أو متودّداً لجيرانه أن نذكره بعظم هذا العمل، وأن نشكره عليه، ونوصيه بالاستمرار على ذلك؟
وما الذي يمنعنا إذا رأينا من أحد طلابنا جداً ونشاطاً وأدباً أن نشعره بالرضا والفرح، والدعاء؟
وما الذي يمنعنا إذا رأينا معلماً مخلصاً في عمله، حريصاً على طلابه أن نَشُدَّ على يده، وأن نشكره على إخلاصه وحرصه؟ بدلاً من تخذيله، وإشعاره بأنه إنسان ساذَج يقوم بأكثر مما طلب منه.
وما الذي يضيرنا إذا رأينا خطيباً مصقعاً يهزّ أعواد المنابر، ويحترم عقول المخاطبين، ويحرص على تحرير خطبه، وإلقائها في أثواب ملائمة أن نشكر له صنيعه، ونشعره باستفادتنا منه، وتقديرنا له؟
وما الذي يضيرنا إذا رأينا أو سمعنا عن طبيب حاذق يتمتع بخلق فاضل، وصبر على مراجعيه، وحرص على سلامتهم وعافيتهم أن نبدي له إعجابنا وشكرنا ودعاءنا؟
وما الذي يلجم أفواهنا أو أقلامنا أن تشكر صحفياً أو كاتباً على حبه للفضيلة، ودفاعه عنها؟
ولماذا لا نزجي الشكر والثناء لمسؤول أصدر قراراً فيه نفع للمسلمين، أو فيه فتح لباب خير، أو إغلاق لباب شرّ؟
ولماذا لا نعتاد تقديم الثناء، والشكر لمن أسدى إلينا معروفاً ولو قَلَّ؟
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من صنع إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافؤونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه".
وقال -عليه الصلاة والسلام-: "من صُنع إليه معروفٌ، فقال لفاعله: جزاك الله خيراً فقد أبلغ في الثناء".
يقول سفيان الثوري -رحمه الله-: "إني لأريد شرب الماء، فيسبقني الرجل إلى الشربة، فيسقينيها؛ فكأنما دقَّ ضلعاً من أضلاعي لا أقدر على مكافأة لفعله".وقال أبو هاشم الحراني: "من طباع الكريم وسجاياه رعاية اللقاءة الواحدة، وشكر الكلمة الحسنة الطيبة، والمكافأة بجزيل الفائدة".
وبالجملة فباب الثناء والشكر باب واسع لمن أحسن الدخول فيه، ومسلك جميل للتعبير عن المشاعر، والحفاظ على روح الود، والنهوض بالهمم.
وإن الذي يُلحظ في أحوال بعضنا أنه لا يحفل بهذا المسلك الرشيد، مع أنه سهل ميسور، محمود العواقب، كثير العوائد.
بل إننا مستعدون للنقد، والمجادلة، والرد أكثر من استعدادنا للشكر والثناء الصادق، مع أن الثناء الصادق مقتضى العدلِ، بل والإحسانِ.
والعاقل لا يعدم خصلة خير ينفذ من خلالها إلى قلب من يريد هدايته، أو كسبه، أو تقليل شره، أو زيادة خيره.
بل إن المبادرة بالنقد، والنظر من زاوية الخلل -ابتداءً- قد يكون سبباً لرد الحق، وذريعة للتمادي في الباطل؛ فلو أنك بادرت شخصاً بالنقد والثلب لربما أراك أو أسمعك من سوئه ما لم يكن في حسبانك، ولسان حاله يُنشد:
.............................. *** أنا الغريقُ فما خوفي من البللِعدل سابقا من قبل الــثـائــرة مـــدى في الثلاثاء نوفمبر 06, 2012 10:02 pm عدل 1 مرات