المجلس العسكري في مصر و قصة الجرذ و الناسك، و قصة الذئب و وتر القوس لابن المقفع
كان شعوري مختلطاً بين الفرح و الغم عندما ظهر البيان الاول لما يسمى بالمجلس العسكري في مصر، فالبيان حوى لهجة مبهمة و غير واضحة، و هي ليست مع ثورة الناس ضد الظلم و الفساد و ليست مع حسنى مبارك.
إذ كان من المعلوم ان هؤلاء العسكريين الذين يفترض انهم تقاعدوا من الجيش، و لكن حسني مبارك ابقاهم في مناصبهم لغرض في نفسه، كانوا رافضين لتوريث جمال مبارك حكم مصر، لا سيما و ان جمال مبارك هو طفل مدلل لا يعرف عن الجيش و الجندية الا من خلال التمثيليات و القصص و الافلام، و تحالفاته مبنية مع رجال الاعمال من خارج الجيش. و طبعاً كان هذا سيؤدي الى سحب البساط من تحت اقدام العسكر الذين جمعوا بين مناصبهم و الاعمال التجارية.
http://www.bbc.co.uk/arabic/middleeast/2012/06/120623_army_egypt_business.shtml
و بما ان العسكر قد استطاعوا بناء امبراطورية تجارية ضخمة من خلال المعونة الامريكية لمدة ثلاثين سنة، و من خلال ميزانية الدولة، فهم يحسون بان هذه الاموال تخصهم و اولادهم و احفادهم و اولاد الاحفاد. و طبعاً هؤلاء العسكريين اخر ما يفكرون فيه هو باقي الشعب الذي قد نخر الفقر و الجوع عظامه، و اصبح الاحياء يزاحمون الاموات في سكن المقابر.
و هذا ما يفسر تشبث المجلس العسكري بالسلطة و افشاله لكل محاولة لتسليم الحكم الى قيادات سياسية ينتخبها الشعب و تكون مسؤولة امامه.
و في هذا الموضوع يروي لنا ابن المقفع في كتابه كليلة و دمنة عن قصة الجرذ و الناسك، و التي يرويها لنا الجرذ بنفسه (ببعض الاختصار):
بدأ الجرذ في قصصه وقال:
كان أول منزل نزلته في مدينة من المدائن في بيت رجل من النساك. ولم يكن للناسك عيال. وكان يُؤتى كل يوم بسلة من الطعام، فيأكل منها حاجته ثم يضع بقية الطعام فيها ويعلقها في البيت. فكنت أرصد الناسك حتى يخرج، فإذا خرج وثبت إلى السلة فلم أدع فيها طعاماً إلا أكلته، ورميت به على الجرذان.
وجهد الناسك مراراً ليعلق تلك السلة معلّقاً لا أناله فلم يقدر على ذلك. ثم إن ضيفاً نزل بالناسك ذات ليلة فتعشيا جميعاً، حتى إذا كان عهد الحديث قال الناسك للضيف: من أي أرض أنت وأين توجهك الآن؟ وكان الضيف رجلاً قد طاف الأرض، ورأى العجائب فأخذ يحدث الناسك بما وطئ من البلدان ورأى من الأمور.
وجعل الناسك من خلال ذلك يصفق بيديه أحياناً لينفّرني عن السلة. فغضب الضيف وقال: أحدثك وتصفّق كأنك تهزأ بحديثي، فما حملك على أن تسألني؟ فاعتذر الناسك للضيف وقال: إني قد أنصت لحديثك، ولكني قد صفّقت لأنفّر الجرذان عن سلة طعامي، ولقد تحيّرت في أمرها. لست أضع في البيت طعاماً إلا أكلته.
قال الناسك: بل جرذان كثيرة، وفيها جرذ واحد هو الذي غلبني فلا أستطيع له حيلة.
وكذلك قولي في هذا الجرذ الذي تذكر أنه يثب إلى السلة حيث وضعتها. فالأمر ما يقوى على ذلك دون أصحابه، فالتمس لي فأساً.
فأتى بها الضيف وأنا حينئذ في جحر غير جحري أسمع كلامهما، وكان جحري في موضع فيه ألف دينار ولا أدري من وضعها، فكنت أفترشها وأفرح بها وأعز بمكانها كلما ذكرتها.
وإن الضيف احتفر جحري حتى انتهى إلى الدنانير فأخذها وقال للناسك: هذه كانت تقوّي ذلك الجرذ للوثوب حين كان يثب، لأن المال جُعل زيادة للقوة والرأي، وسترى أن الجرذ لن يعود بعد اليوم قادراً على ما كان يقدر عليه فيما مضى.
فسمعتُ قول الضيف فعرفت في نفسيَ الانكسار، وتقاصر إعجابي بنفسي وانتقلت من جحري إلى جحر غيره، وأصبحت أعرف انحطاط منزلتي عند الجرذان وقلة توقيرهنّ إياي، بعد أن كلفنني ما عودتهنّ من الوثوب إلى السلة فعجزت عند ذلك، فزهدن فيّ وجعلن يقلن فيما بينهن: "هلك أخو الدهر ويوشك أن يحتاج إلى أن يعوله بعضكن"، فرفضنني بأجمعهن ولحقن بأعدائي وأخذن في عيبي وانتقاصي عند كل من ذكرنني عنده، فقلت في نفسي: ما التبع والإخوان والأهل والصديق والأعوان إلا تبعاً للمال.
وما أرى المروءة يظهرها إلا المال. ولا الرأي ولا القوة إلا بالمال. ووجدت من لا مال له إذا أراد أن يتناول أمراً قعد به الفقر عما يريد، فانقطع عن بلوغ غايته كما ينقطع ماء أمطار الصيف في الأودية، فلا يصل إلى البحر ولا إلى نهر حتى تنشّفه الأرض.
و وجدت أن من لا مال له من الإخوان لا أهل له ولا ولد له، ولا ذكر له. بل يعتبر كمن لا عقل له عند الناس ولا دنيا ولا آخرة. وإذا أصابت الرجل الفقير الحاجة نبذه إخوانه، وهان على ذوي قرابته، فربما اضطرّته المعيشة وما يحتاج إليه لنفسه وعياله إلى طلب ذلك بما يغرر فيه بدينه، فيهلك، فإذا هو قد خسر الدنيا والآخرة.
فالفقر رأس كل بلاء وداعٍ صاحبه إلى مقت الناس وهو مع ذلك مسلبة للعقل والمروءة، ومذهب للعلم والأدب، ومطيّة للتهمة، ومقطعة للحياء. ومن انقطع حياؤه ذهب سروره ومقت. ومن مقت أودى، ومن أودى حزن، ومن حزن فقد عقله واستنكر حفظه وفهمه. ومن أصيب في عقله وحفظه وفهمه كان أكثر قوله فيما يكون عليه لا له.
ووجدت الرجل إذا افتقر اتهمه من كان له مؤتمناً وأساء به الظن من كان يظن به حسناً. وليس من خلة هي للغني مدح ولا هي للفقير عيب. فإن كان شجاعاً سمي أهوج، وإن كان جواداً سمي مفسداً، وإن كان حليماً سمي ضعيفاً، وإن كان وقوراً سمي بليداً، وإن كان لسناً سمي مهذاراً، وإن كان صموتاً سمي غبياً..
فالموت أهون من الفاقة التي تضطر صاحبها إلى المسألة لا سيما مسألة الأشحاء اللؤماء. فإن الكريم لو كلّف أن يدخل يده فاه التنين فيستخرج سمّا ثم يبتلعه كان ينبغي أن يعدّ ذلك أخف عليه من مسألة اللئيم البخيل.
ثم إني كنت قد رأيت الضيف حين أخرج دنانيري قاسمها الناسك، وجعل الناسك نصيبه في خريطة يضعها بالليل عند رأسه، فطمعت أن أصيب منها دنانير فأردها إلى جحري، ورجوت أن أردّ إلي بذلك بعض قوتي ويراجعني بعض أصدقائي.
فانطلقت والناسك نائم حتى كبتّ رأسه ووجدت الضيف مستيقظاً، ومعه قضيب فضربني به على رأسي ضربة موجعة، فسعيت إلى جحري. فلما سكن عني الوجع قادني الحرص والشره وغلباني على عقلي فخرجت بمثل طمعي الأول حتى دنوت والضيف يرصدني، فعاد لي بالقضيب على رأسي ضربة أسالت منه الدماء وتقلبت على ظهري وبطني حتى دخلت الجحر، فخرزت فيه مغشياً عليّ فأصابني من الوجع فوق ما أصابني على المال حتى إني لا أسمع اليوم بذكر المال إلاّ يدخلني منه ذعر.
ثم تذكرت فوجدت البلايا في الدنيا إنما يسوقها إلى أهلها الحرص والشره. فلا يزال صاحب الدنيا يتقلب في بليّة وتعب لأنه لا يزال يداخله الشره والحرص. ورأيت اختلاف السخاء والشحّ شديداً. ووجدت ركوب الأهوال وتجشّم الأسفار البعيدة في طلب المال أهون عليّ من بسط اليد إلى السّخيّ بالمال، فكيف بالشحيح به، ولم أر كالرضا شيئاً.
وسمعت العلماء قد قالوا: لا عقل كالتدبير ولا ورع كحسن الخلق، ولا غنى كالرضا، وأحق ما صُبر عليه ما لم يكن إلى تغيّره سبيل. وكان يقال: أفضل البرّ الرحمة، ورأس المودة الاسترسال، ورأس العقل المعرفة بما يكون و ما لا يكون، وطيب النفس وحسن الانصراف عما لا سبيل له. فصار أمري إلى أن رضيت وقنعت وانتقلت من بيت الناسك إلى البرية.
فهل يكتب الله ان يتعلم المجلس العسكري من هذا الجرذ الحكيم و يترك مال مصر لاهل مصر؟
و الا سيكون مصيره كمصير مثل مصير الذئب في قصة الذئب و وتر القوس
عندما خرج رجل من القناصين غادياً بقوسه ونشّابه يبتغي الصيد والقنص، فلم يجاوز بعيداً حتى رمى ظبياً فصرعه واحتمله، ورجع به إلى أهله. فعرض له في طريقه خنزير فحمل خنزير فحمل الخنزير على الرجل حين نظر إليه. فوضع الرجل الظبي وأخذ قوسه، فرمى الخنزير رمية نفذت من وسطه. وأدرك الخنزير الرجل فضربه بنابه ضربة أطارت منه القوس والنشابة عن يده، ووقعا جميعاً ميّتين.
فأتى عليهما ذئب جائع، فلما رأى الرجل والظبي والخنزير وثق بالخصب في نفسه فقال: ينبغي أن أذّخر ما استطعت، فأنا جاعل ما وجدت ذخراً وكنزاً، ومكتف يومي هذا بوتر القوس. ثم دنا من القوس ليأكل وترها. فلما قطع اوتر اضطربت القوس وانقلبت فأصابت المقتل من حلقه فمات.
وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلمي أن الحرص على الجمع وخيم العاقبة.
و إذا كان المجلس العسكري يخطط ان يغرق مصر في الدماء من اجل ان يحتفظ بالمال المنهوب مثل ما فعل عسكر الغدر و الاجرام في الجزائر، فاذكره بان الناس ليست بالغباء ان تصدق نفس الكذبة مرتين.