المجلس العسكري في مصر، خداع على طريقة بقرة بني اسرائيل
عندما كنت صغيراً و كان المدرس يشرح لنا قصة بني اسرائيل مع البقرة، لم افهم بالضبط لماذا تمحورت مراوغة بني اسرائيل مع موسى حول موضوع بقرة تذبح.
و انه و ان كان المدرس اجتهد ان يعلل ذلك بان بني اسرائيل عندما كانوا في مصر قد تعلموا من اهلها تقديس البقر و انه من نفيس المال، الا انني احسست ان ذلك لم يكن تفسيراً كافياً. إذ ما علاقة شدة المراوغة و المماطلة بالبقرة و لونها و نوعها؟
و لكن اليوم اظن انه اتضح لي المزيد في الصورة بعدما رأيت المراوغة و المماطلة السمجة من مجلس كبار السارقين و المرتشين الذي اختارهم المجرم المخلوع حسني مبارك، و انتقاهم من بين الاكثر خبثاً و الاقل مروءة. و بعدما رأيت القضاة منزوعي الضمير الذين ولاهم مبارك في محاكمه و مؤسساته القضائية، لا ليكونوا قضاة يحكمون بين الناس بالعدل، و انما ليكونوا حملة مباخر و سدنة عند كبير اللصوص الجالس في سدة الحكم.
و اما عن علاقة هذا بالبقرة المذكورة في سورة البقرة، فالذي ارى انه حصل هو التالي:
مقدمة
كانت تجربة الثورة المصرية تعتمد فى الاساس على النموذج التركي، و الذي قام فيه تحالف ضم الاسلاميين مع رجال المال و الاعمال ضد كبار ضباط الجيش التركي الفاسدين. و كان ان نجح تحالف العدالة و التنمية في الانقلاب على العسكر بشكل سلمي و استطاعوا تدريجياً ان يقوموا بنزع مخالب و انياب العسكر، لدرجة انهم بدؤا في محاكمة بعضهم على الجرائم الماضية التي ارتكبوها في حق الشعب. كما كانت ثورة تونس مصدراً ثانياً للالهام في مصر، حيث قام الجيش في تونس بالتخلي عن المجرم الفاسد بن علي، و انحاز الى الشعب.
و لكن في حالة مصر فان الامر يختلف عما حصل في تركيا و ما حصل في تونس.
فعلى الرغم من ان ضباط الجيش التركي كانوا دائماً ينظرون لانفسهم على انهم هم الذين انقذوا تركيا من الاحتلال الاجنبي و انهم هم الذين اقاموا الجمهورية التركية (القزم التافه الذي ورث الخلافة العثمانية)، فانه و بسبب عدم دخول تركيا في اي حروب او اشتباكات او مناوشات (باستثناء عملية قبرص)، لمدة طويلة من الزمن و بسبب انه لا يوجد هناك تهديد مباشر لتركيا من اي طرف، و لذلك فقد تضائل دور الجيش في عين الشعب بشكل عام، الهم الا في حالة المناوشات المفتعلة مع حزب العمال الكردستاني.
و من ناحية اخرى فقد افاد تركيا موقعها الرابط بين أسيا و أوروبا و وجود عدد كبير من المهاجرين الاتراك الى المانيا، مما عزز حركة الصناعة في تركيا و خصوصاً بعدما قامت المانيا ببرنامج لتطوير الصناعة في تركيا لترغيب المهاجرين الاتراك في العودة الى بلدهم.
و هنا ظهر الجيش التركي على حقيقته، و هو انه عبارة عن ضباط عاطلين و لا عمل حقيقي لهم، و هم فوق ذلك فسدة مرتشين يعيشون على اعمال التهريب و الاجرام و التستر على العصابات و فرض الاتاوات على التجار.
و لان الصناعة تستلزم طاقات علمية و فنية عالية المهارة و التدريب، فان عملية ابتزاز اهل الصناعة سرعان ما تظهر و يتم التضجر منها. لا سيما ان المصانع تحتاج الى حركة سريعة للمواد الخام و المنتجات المصنعة، و عملية فرض الاتاوات عليها و تعطيلها تظهر بشكل فوري.
و لذلك سرعان ما دب التمرد وسط رجال الصناعة و الاعمال الاتراك، و تحالفوا مع القوى الاكثر صداماً مع الجيش و الاكثر مخالفة و انتقاداً لفساده، و الاكثر تنظيماً ايضاً، الا و هي القوى الاسلامية السياسية.
و اما الوضع في تونس، فهو يختلف في ان زين العابدين بن علي لم يكن رجل جيش، و انما كان زعيم عصابة من افراد الشرطة و قوى الامن ورثها من وزارته للداخلية في عهد المنافق التافه بورقيبة. و تونس ليس لها اقتصاد حقيقي و انما تعتمد على تصدير بعض الخامات كالفوسفات و بعض المحاصيل الزراعية و بشكل اكبر على السياحة.
و لما فشل بن علي في ايقاف ادمانه هو وعائلته عن سرقة البلد و تحويل ثرواتها الى ارصدته و ارصدة عائلته و كبار معاونيه، في الوقت الذي لا تحوي فيه تونس موارد اقتصادية تحتمل ان تستمر السرقات، فلذلك تمرد الشعب في ثورة البوعزيزي رحمه الله، و وقف الجيش موقف المؤيد للثورة لان افراده ايضاً يعانون من نفس مشكلة الفقر.
حالة مصر و لماذا شكلت البقرة فرقاً في الحالة المصرية
اما في حالة مصر، فالجيش في مصر لا يزال ينظر لنفسه على انه هو الذي حرر البلد من الاستعمار الانجليزي (على مثل اوهام الجيش التركي)، و انه هو الذي حمى البلد من العدوان الثلاثي (البريطاني، الفرنسي و الاسرائيلي). بينما في الحقيقة ان امريكا و الاتحاد السوفيتي هما الذان ضغطا على بريطانيا في الحالتين حتى تنسحب من مصر بعدما اوشكت ان تنهزم امام المانيا بعد الحرب العالمية الثانية، و لم تكن بسبب بطولة شلة عبد الناصر التي تحولت فيما بعد لاعمال البلطجة و اللصوصية.
و لكن الفرق هنا بين تركيا و تونس من جهة، و مصر من جهة اخرى، فهو ان مصر بلد الزراعة فيه تشكل اهمية قصوى منذ الالاف السنين. و البقرة كانت و لا تزال عند عدد كبير من اهل الريف تشكل مصدر احساس بالامان، و قبل عصر جرارات الديزل كانت البقرة تشكل محور الزراعة و رمزاً مهماً للثورة و المكانة.
و هنا بيت القصيد
فقد روي أنه-صلى الله عليه وآله وسلم-رأى سِكَّة"يعني المحراث الذي يشق به الأرض"في أرض أو في نخيل فقال-عليه الصلاة والسلام:"ما دَخَلَ هذا بيتَ قومٍ إلا ذلوا"
و طبعاً هنا يفهم الحديث على ان الانشغال بالزراعة و الارتباط النفسي بها يورث الذلة و ترك اوامر الله. و ذلك ايضاً ينطبق على اعمال كثيرة، و لكن الزراعة بالذات تورث الانسان التعلق بالارض بشكل زائد و التشبث بالمكان مهما عظم الاذى.
فالمعلم او الصانع او الطبيب و حتى التاجر، يستطيع ان ينتقل من مكان الى مكان، فهو اذا اوذي في مكان تركه و ذهب الى غيره، و لكن المزارع لا يستطيع فعل ذلك بسهولة. كما ان المزارع مرتبط بدورة زراعية تفرض عليه التواجد في الوقت المحدد في ارضه و الا لن يلحق الموسم، و سيجلس بلا عمل باقي السنة.
و لو نظرنا في التاريخ و الجغرافيا، لوجدنا ان هذا ينطبق على جميع شعوب الارض و في مختلف الازمنة. فدائماً يكون الفلاحين هم هدف سهل للحكام و الملوك و الاباطرة، الذين يسرقون جزءاً كبيراً من محاصيلهم و يتركون لهم الفتات الذي بالكاد يبقيهم على قيد الحياة ليستمروا في الزراعة و توفير المحاصيل لمن يستغلهم و يسرقهم.
و ثبات المزارع في ارضه يفرض عليه ان يكون وسط جيران يعرفهم و يعرفونه بسبب دوام الجوار، و لذلك فان اهل القرى الزراعية تكون لهم قيماً و اخلاقاً متقاربة الى حد ما، فهم يخافون من مخالفة باقي اهل القرية حتى لا يعيرونهم.
و من اعلى القيم عند المزارع هو عدم التفريط في ارضه و عدم التصرف بطريقة تضر محصوله، فالمزارع بطبعه لا يحب المغامرة، و لا يحب ان يتخذ موقفاً منفرداً عن جيرانه. الا اذا كان هذا يفيد المحصول، ففي هذه الحالة يمدحه الجيران و يسعون لتقليده.
و مع ذلك، فان المزارع يسعى ان يكون مقبولاً او حتى محبوباً لدى جيرانه، و لكنه لا يميل الى التضحية بشكل فردي و اتخاذ موقفاً فردياً شجاعاً او متهوراً
و نرجع هنا الى قضية بقرة بني اسرائيل
فنجد ان هناك جريمة قتل حصلت في بني اسرائيل، و يبدو انها حصلت في قرية زراعية و لان اهل تلك القرية كانوا ليودون اخفاء تلك الجريمة و الصاقها بمجهول او شخص بريء ( و ربما شخص ضعيف يتم تحميله القضية و يفلت الجاني من العقاب).
و لان اهل تلك القرية، لا يريدون الاعتراف انهم انما يتعمدون اضاعة الوقت و محاولة التفلت من اوامر نبي الله موسى، فزعموا انهم انما يريدون الدقة و الامانة في التنفيذ حتى لا يذبحون بقرة غير البقرة المطلوبة.
و لذلك فنجد ان القران لم يذكر ان قام احد اهل القرية و وعظ قومه بانهم يجب عليهم تنفيذ اوامر موسى عليه السلام و عدم المماطلة، اذ يبدو انه كان هناك اتفاق بين اهل القرية على التستر على الجاني و على المماطلة.
ثم لننظر قليلاً الى لهجة بني اسرائيل و هم يحاولون التظاهر بالتقوى في نفس الوقت الذي يتعمدون فيه اخفاء الجريمة و المماطلة عندما يقولون:
( قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون ( 70 ) قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون ( 71 ) سورة البقرة
فهل تذكرنا هذه الكلمات بكلمات المستشار احمد رفعت في قضية الحكم على حسني مبارك؟
و نعود الان الى المهزلة و السيرك الذي يقيمه المجلس العسكري بواسطة مهرجيه من القضاة و رجال قانون السرقة و الاجرام
و نسأل، ما هو الدستور و الدستوري و الدستورية الذي يملاْ رجال المجرم مبارك و ما تبقى من ابواقه الاعلامية الدنيا ضجيجاً عليه؟ و نصبح بدلاً ان نتكلم عن المجرم و الجريمة، و عن تدمير البلد و اهدار ثرواته و اهدار كرامته و رجولته، نتكلم عن النص الدستوري و الفراغ الدستوري و المحكمة الدستورية، و فقهاء دستوريين.
و كأن الدستور الذي كتبه مجموعة من المنافقين و المحتالين و اللصوص و حملة المباخر، هو نص مقدس انزله العليم الحكيم
و كأن كل هؤلاء المنافقين و المجرمين و الابواق الذين يتقاذفون مصير الشعب الذي ضربه الفقر و الجوع و المرض يقدسون القوانين و يحترمون الحقوق، و يغارون عليها من ان تنتهك
اين كان هؤلاء القضاة و الحقوقيين و من وراءهم العسكريين الذين يدعون الغيرة على القوانين، عندما نهبت ثروات مصر و تحولت الى حساب زعيم العصابة و اعوانه؟ الم يكونوا شركاء في السرقة و في الغنيمة؟
ثم من الذي اوصل كل كلب نابح منهم الى كرسيه على حساب الالاف غيره من الاكثر كفاءة و الاكثر امانة و الاكثر اخلاصاً؟ اليس هو زعيم المجرمين مبارك؟ لماذا لم نسمع له صوتاً و برقاً و رعداً على عشرات الالاف من الجرائم التي كانت ترتكب و المجرمين لا يزالون الى الان يسرحون و يمرحون و يتمتعون بالبلايين التي سرقوها؟
ثم لماذا يصر جميع هؤلاء على التهرب من المحاسبة على ثرواتهم و الاعلان عن جميع ما استولوا عليه من اموال و عقارات و مزارع؟ هل يستلزم الكشف عن الثروة و رد المال الى اصحابه صحة و دستورية انتخابات مجلس الشعب؟
القضية هي ليست قضية الخوف من مخالفة القوانين، بل القضية هي قضية بقرة بني اسرائيل التي اتخذ البحث عنها ستاراً للممطالة و اخفاء الحقائق و محاولة ارهاق نبي الله موسى بالتفاصيل لعله ينشغل او يتناسى جريمة القتل و يغوص مع المنافقين في مشوار التفاصيل التي لا تنتهي
و ان كان مجرمي المجلس العسكري يراهنون على طبيعة المزارعين التي تهتم بشؤون الزراعة اكثر مما تهتم بكشف المجرمين و اعطاء الحق لاصحابه، لا سيما و ان هذا المجلس الكاذب المنحط قد اذاق الناس عمداً قسطاً من التجويع المتعمد و التلاعب بالامن طوال السنة الماضية حتى يهيء الناس للقبول باهون الضررين و يتنازلوا عن حقوق شهداء الثورة في قضية مبارك، ثم ليتراجعوا عن الثورة بشكل كامل في المهزلة الاخيرة.
فان الله قد امر بني اسرائيل بذبح البقرة و التضحية بها من اجل كشف الجريمة و ايقاف حالة التستر عليها
فاسأل الله ان ينتفض الناس كلهم و بخاصة المزارعين ضد مجلس الكذب و النفاق، و ان يضحوا باوقاتهم و باعمالهم و بزراعتهم قليلا حتى يلقوا شياطين المجلس العسكري من فوق كراسي السرقة و النهب و التستر على جرائم مبارك
و ان يحاكموا مجرميه فردا فردا بمن فيهم قضاة الرشوة و الكذب و النائب العام مخفي الادلة و جميع ابواق النفاق و التضليل
و ان تصادر اموالهم التي اكتسبوها بغير وجه حق، و ان يطردوا من مناصب لا يستحقونها و كانت وسيلتهم لتدويخ الشعب و مماطلته و تضييع حقوقه
لان في ابقاء المجلس العسكري هو ابقاء للذئاب و الافاعي تتكاثر و تتوالد و تتزايد، فتزيد السرقة و يزيد النهب و يزيد الظلم و يزيد الاجرام،
فهم قد سرقوا لانفسهم، و لما شبعوا سرقوا لاولادهم، و لما تكاثروا هاهم يسرقون لاحفادهم و لاحفاد احفادهم
فهل تضحوا بالبقرة من اجل كشف الجريمة و احقاق الحقيقة و تقديم الجناة الى العدالة؟