اللعب الآن على المكشوف . فما هو الحل لكسب المعركة (4)
( سلسلة مقالات سياسية تنويرية قصيرة )
بقلم : أبو ياسر السوري
خَلَصْتُ في المقالِ السابق إلى أنَّ هنالك قناعةً لدى المثقف العربي " أن الأنظمة العربية في وادٍ ، وشعوبَها في وادٍ آخر .. " وهذه الظاهرة مختلفةٌ عما هو عليه الحال ، في كافَّة دول العالم الحر ..

فكل زعيم هناك ، سواءً أكان رئيساً ، أو مستشاراً ، أو ملكاً ، أو وزيراً ، أو سيناتوراً ، أو حتى رئيسَ بلدية في مدينة ما .. كلُّ مسؤول غربي يجلس على كرسيه ، وعينُهُ إلى أبناء شعبه .. يحاولُ خَطْبَ ودّهم ، وشراء مرضاتهم ، ويبذل في سبيل ذلك كل ما لديه من قوة وتفانٍ .. وليس لأي زعيم هنالك قداسةٌ تُنزّهُهُ عن النقد ، ولا منزلةٌ تجعله فوق المساءلة .. أو تعفيه إن أساء من المحاسبة والعقاب .

فلماذا كانت الحال عندنا على النقيض من هذا .!؟ لماذا كان كل مسؤول عربي إما إلهاً ، أو ثلاثة أرباع إله ، أو نصفه ، أو ربعه ، أو خمسه ، أو جزءاً من إله ... يعني بالمشرمحي : كل مسؤول لدينا فيه نسبة من سلطة الإله ، تتماشى طردا مع عُلُوِّ مركزه في الدولة .. وكل واحد من هؤلاء الآلهة الصغار يَعبُدُ مَنْ فوقَهُ من الآلهة الأكبر . ويَستَعْبِدُ هو مَنْ دونه من صغار الآلهة ..

هذه قضية ، لم يكن قبل الربيع العربي ممكنا أن نلعب فيها على المكشوف ، أما وقد أظلَّنا هذا الربيع ، فقد صار بإمكاننا أن نقول :

إن الاختلاف في تفسير معنى المواطنة بيننا وبينهم ، هو الذي جعل مواطنيهم يعيشون في جنة الوطن .. وجعلنا نعيش في جحيمه ..

فالمواطنة في العالم الحر ، تعني أن للمواطن حقا على الدولة ، وأن للدولة حقا على المواطن ، وكلاهما يأخذ ما له ويعطي الطرف الآخر ما عليه .. ذلك لأن مفهوم المنصب في الغرب ، يعني إبرام اتفاق ما بين الشعب وصاحب المنصب .. بدءاً من الموظف الصغير إلى رأس الهرم في الدولة ، وقد رُسِمَتْ لصاحبِ المَنصِبِ مهامُّه ومسؤولياته وسلطاته ، ولا يستطيع أن يتجاوزها أو يتخطاها . فرئيس الدولة هناك موظف مقيدٌ بالدستور والقانون ، لم يتولَّ الرئاسة بانقلاب عسكري ، ولا بانتخابات مزورة ، ولا عن طريق الأجهزة الأمنية الغاشمة . نعم لم يصل الرئيس لديهم إلى كرسي الرئاسة ، إلا بعد تاريخ مشرفٍ ، حملَ أبناء شعبه على اختياره لهذا المنصب الخطير ... ورغم ذلك كله ، فليس في دساتيرهم أن يظل الرئيس رئيساً من المهد إلى اللحد . ولا أن يحكم البلد إلى الأبد . وإنما يحكم لسنوات معدودة ، لا تزيد عن ست سنوات في الغالب .. وليس في دساتيرهم أيضاً أن يتربَّح الرئيس من وراء منصبه ، ولا أن يتقاضى مرتباً أكثر مما خصص له .. ولا أن يكافئ نفسه مكافأة مالية ، ولا أن يسرق من أرصدة الدولة ، ولا أن يسرق من مواردها .. ولا أن يخون وطنه ، فيتنازل عن بعض ترابه ، أو يتنازل عن بعض كرامة مواطنيه .. وحين تنتهي فترة رئاسته ، ويخلفه في المنصب رئيس آخر ، لا يُهَانُ الرئيسُ السابق ، ولا يُخوَّنُ ، ولا يُشتَمُ ، ولا يُهمَّشُ ، ولا يُقصَى عن الحياة السياسية إلا باختياره . وإنما يظل في مرتبة مرموقة ، ومنزلة رفيعة ، وحسبه أنه يُدَوَّنُ اسمُه في السجل الذهبي لتلك الدولة ، ويخلَّد ذكره بين عظمائها على مر الزمن ..

أما رؤاسنا :

فلا تُعيّنُهُمْ شعوبُهم بانتخابات حرة نزيهة ، وإنما يُفرضون على هذه الشعوب فرضا ، إما بانقلاب عسكري ، أو بتعيين خارجي ، أو بتوافق دولي ، ولا يصل أحدهم إلى سدة الحكم إلا بعد أخذ العهد عليه : أن يكون كل مخلصا لإسرائيل ، موالياً للغرب أو الشرق ، خائنا لأمته ، عدواً لشعبه ، لصاً ، دكتاتوراً ، مجرما .

ولو تصفَّحتَ تاريخ رؤسائنا ، الذين سقطوا خلال هذا الربيع العربي ، بعدما صار بالإمكان فَتْحُ ملفّاتهم السرية ، لرأيتَ ما تشيبُ منه الرؤوس ، وتتفطر القلوب .

فالرئيس التونسي ، يجعل جدرانَ قصره الداخلية في سيدي بوسعيد مزدوجة ، بحيث يكون كل جدار مفرغاً من داخله ، ليملأ هذا الفراغ بسبائك الذهب التي سرقها من شعبه . وقد وَجَدَتْ لَجْنةُ تقصِّي الحقائق في ذلك القصر أموالا بالمليارات ، ومجوهرات بالمليارات ... مع أن ثلاثة أرباع الشعب التونسي كان يعيشُ تحتَ خط الفقر ، حتى إن بو عزيزي رحمه الله ، أحرق نفسه من شدة فقره .

أما الرئيس المصري ، فقد كُشِفَ النقابُ عن جزءٍ واحدٍ من سرقاته ، فكان بما يُقدَّرُ بسبعين مليار دولار . وما خَفِيَ منْ سرقاته فهو أعظم . ذكر الكفراوي وزير الزراعة ، أن جمال مبارك استولى على ألف فدان من أراضي 6 اكتوبر ... وذكرتْ بعضُ المصادر المعنية بثروات الرؤساء وذويهم ، أن سوزان مبارك تُعدُّ ثالثَ أغنى زوجةِ رئيسٍ في العالم .

وأما حافظُ الأسد ، فقد سرقَ البترول السوري وحقولَ الغاز ، على مدى أربعين سنة ، ولكي يكون لدينا فكرةٌ أولية عن قيمة هذا المورد وحده ، نرجع إلى الدراسات الاقتصادية ، فنجدُ أن الدخل السنوي للبترول والغاز في سوريا ، يقدر بـ 7،2 مليار دولار .. فيكون مجموعُ ما سرقه من هذا البند وحده 288 مليار . كما سرقَ الأسدُ موارد الاتصالات السلكية واللاسلكية ، والنقل ، والتجارة الخارجية ، وموارد الكهرباء ، وبلغت سرقاتُه أكثر من 600 مليار دولار .. وها هم أبناؤه اليوم يسرقون الذهب السوري من البنك المركزي وينقلونه إلى روسيا بعد قيام الثورة بشهور . ثم ها هم يكافئون سوريا بخرابها قبل رحيلهم منها .. ولو قُتِلُوا غداً ، فسيكون ما أُخِذَ منْ نَهَابِر ، ذهبَ في مَهَابِر ..

أما علي عبد الله صالح ، فلم يَدَعْ باباً من أبوابِ السَّطوِ والسرقة إلا وَلَجَهُ ، فَسَرقَ كلَّ شيء في اليمن ، ووضع ثلثي شعبه تحت خط الفقر ، ومن طريف سرقاته ، أن كاتباً يمنيا اتَّهمه بسرقة حرف الدال .. فسرقها : من ( الدماء) لتصير ( ماء ) ... و من ( الدستور ) ليصير ( الستور ) .. ليجعل سفك الدماء ، كسفح الماء .. وليجعل من الدستور ستوراً لجرائمه .. أفلا يحق لنا أن نفخر بهكذا رؤساء ، ونباهي بهم رؤساء العالم كله .؟؟

هرب ابن علي وأغلبُ سرقاته بقيتْ في تونس .. لأنه كان يأمل أن يخرج ثم يعود .. فخرج ولم يَعُدْ ..

ومما يحزُّ في النفس حقا أن القذافي أخفى الذهبَ الليبي كله في مكان مجهول ، إما قام بِدَفنِهِ في الصحراء ، أو أودَعَهُ في دولة ما ، ثم مات ، ومات الثروة المنهوبة معه ، فحَرَمَ بذلك أبناءَ شعبِهِ ، لِيُوَرِّثَ المالَ إمّا لباطن الأرض ، وإمّا لِمَنْ لا يَستحقّ ..

فانظروا ما فعلتْ هذه الثورات ، لقد مكنتنا أن نصارح الزعماء ، ونقول لهم على المكشوف : يا خسارة ، كُنّا نظنكم رؤساءَ شرفاء ، فإذا أنتم لصوص عملاء .!