أدب الحوار بين الثوار :
بقلم : ابو ياسر السوري
هذه الفكرةُ ، تبدو لأول وهلةٍ ، وكأنها لا تستحقُّ الاهتمام ، وهي من الأهمية بمكان ، لأنه لا بُدَّ للثائر من رأي يُبديه ، أو فكرةٍ يعرضها ، أو خطةِ عمَلٍ يُقدّمُها . لأن الثورةَ أشبهُ بمرجل يغلي على النار ، ويثور فيه الماء ويضطرب ، فيصعد أسفلُه إلى أعلاه ، وأعلاه إلى أسفله ، وتتزاحمُ ذرات مائه على غير هدى ، وتتلاطمُ أمواجها في صعود وهبوط . حتى لكأنَّ كلَّ ذرة فيه ، ضائقةٌ ذرعاً بما هي فيه .
ومن هذا المثل البسيط ، يمكنك أنْ تقول : إن المنخرطين في أتون الثورة ، أشبه بالماء في القدر ، فالكلُّ يغلي ، والكلُّ مضطربٌ ، ومشاعرُ الكلِّ متأججة ، وأحاسيسُهُمْ ملتهبة .. فالناسُ في أجواء الثورة ، ما بين حُزْنٍ على شهيد قضى نَحْبَهُ ، أو فَرَحٍ بانتصار في أحد الميادين ، أو تألُّمٍ لجريحٍ أو مُعاق ، أو غضَبٍ لمسجدٍ هُدِّم ، أو مئذنةٍ قُصِفتْ ، أو قرآنٍ مزَّقَهُ المجرمون ، أو تَحرُّقٍ إلى لحظة النصر ، التي ينتظرها الكلُّ بفارغ الصبر ، أو حَنَقٍ على العرب المتخاذلين عن نصرتنا حكومة وشعوبا ، أو احتقارٍ لما يسمى بالمجتمع الدولي المتآمر علينا مع الجلاد ...
فأجواء الثورة في واقعها يا سادة ، ليست أجواء عادية ، وإنما هي ظرفٌ خاص ، تتغير فيه المعطيات ، وتتبدل فيه المواقف .. فصديقُ الأمس قد يصبح عدوَّ اليوم . وما كان خطأ في اللحظة الحاضرة ، قد يصبح صوابا بعد حين ... فلا يعجلْ أحدُنا فيحكم بالإعدام على كل من يخالفه في الرأي ، فقد تكون أنت المخطئ وهو المصيب .!؟ وإليك بعض الأمثلة من واقع الثورة ، على صدق ما أقول .
1- فقد بدأت الثورة سلمية ، لأكثر من خمسة شهور ، لم يُطلِقْ فيها أي مواطن رصاصةً ، وكنا نستقبل الرصاص بصدورنا ، ونحتمل فقدان الإخوة الذين يقتلون على مذابح الحرية ... وكنت واحداً ممن كتبَ ودعا إلى ضرورة حماية الثوار في ذلك الحين ... فخالفني في ذلك كثيرٌ من الإخوة ، ورفضوا أن يُحمَلَ السلاحُ تحتَ أيِّ اعتبار ، واتهموا كلَّ داعٍ إلى حمل السلاح بأنه يريد أن يُشوِّه جمال الثورة ، ويلطِّخَ سمعتها ، ويدعو لأمر فيه القضاء عليها ... وكادوا يَصِمُون الداعي إلى التسليح بالخيانة العظمى .. ثم انتهى الأمر بنا بعد ذلك ، إلى أن اضطررنا لحمل السلاح ، وأصبحنا نطالب بتأمينه فلا نجد إلى ذلك سبيلا ...
2-وكتبتُ مرة أنتقدُ المجلس الوطني ، وأطالبُ بتحويله إلى مجلس ثوري ، تكون قيادته من شباب الثورة بالذات ، لا من المعارضة في الخارج ، ولا من هيئة التنسيق في الداخل . وقسوتُ في بعض مقالاتي على هيثم مناع ، وبرهان غليون .. فتعالت الأصواتُ تستنكر قولي ، وتطالبني بالكفِّ عن مهاجمة غليون ، وقد قيل لي يومها " ما عملنا هذا المجلس الوطني إلا بشق الأنفس ، ويجب أن نعطيه مهلة " وكنتُ أراها مهلة لقتل الشعب ، فالمجلس لا يتحرك إلا بسرعة النملة على الجليد ، والثورة بحاجة لمجلس يمشي بسرعتها ، أو يسبقها بخطوات .. فسكتُّ أخيراً على مَضَضٍ ، وكففتُ قلمي عن الأداء البطيء للمجلس ، لإعطائه مهلة يسيره ، وأنا أعلم أن كل مهلة تعني إبطاءً في الوصول إلى الهدف ، وكل إبطاء لا بد أن يصبَّ في مصلحة النظام ...لذلك حرص المجتمعُ العربي والمجتمعُ الدولي ، على إغداق المُهَلِ على النظام ، ومنحِهِ كثيراً منها ، فقد أعطي مُهَلاً : من روسيا ، ومن جامعة الدول العربية ، ومن المراقبين العرب ، ومن مجلس الأمن ، ومن حقوق الإنسان ... إلى غير ذلك من المُهَلِ ، التي استغلها النظامُ أحسن استغلال ، وقتل فيها منا المئات والآلاف ...
ثم علمنا أخيراً .. أخيراً .. أن المجلس الوطني لا يمكنه أن يصنع لنا شيئا .. فلا هو استطاع أن ينتزع من العالم اعترافا بنفسه ولا بالثورة ، ولا هو استطاع أن يتجرد عن المصالح الحزبية والشخصية ... ولا هو استطاع أن يساير ركب الثورة في حراكها السريع ...ولا هو أوقفَ القتلَ عن المواطنين ، فما زلنا نُقْتَلُ ، والمجلسُ عاجزٌ مكبل اليدين ...
لقد تبين بشكل واضح أننا كنا مخطئين في اختراع مجلس سياسي تقوده الثورة ، بدلاً من مجلس ثوري يقود وراءه السياسيين ..!؟
3 - ما زلتُ أرى أننا بحاجة إلى مجلس ثوري ، وليس إلى مجلس وطني سياسي . لأن الثورة هي التي يجب أن تفرض شروطها على المجتمع الدولي ، والثورة هي التي يجب أن تنتزع حقوقها انتزاعا .. والمنطق الثوريُّ الحارُّ ، مختلفٌ كل الاختلاف عن المنطق السياسي البارد . وأنا هنا لا أخوِّنُ السياسيين ، ولا أتهمهم بالتقصير ، وإنْ كان هنالك دلائل كثيرةٌ ، تشير إلى أن بعضهم خونة ، وبعضهم الآخر مقصرون ..
4 – وبعد هذه المقدمة ، التي وضح من خلالها ، أنه ليس هنالك من هو معصومٌ عن الخطأ إلا الأنبياء ، وأن ما تراه خطأ قد يكون صوابا ، وما تراه صوابا قد يكون خطأ ... ونظرا لما نحن فيه من أمر هذه الثورة ، والوقوف معها بأقلامنا ، وفكرنا ، ونضالنا ، وهتافاتنا التي تمثل صرخات الحق في وجوه المستبدين .. ونظراً لظهور الحوارات السياسية على صفحات المنتديات ، ووقوع الخلاف في الرأي بين المتحاورين .. نظرا لهذا كله ، فإنني أرى أن لا نسمح للخلاف أن يتحول إلى نزاع شخصي ، أو ينقلب إلى جدل يؤزر صاحبه ولا يؤجر .
وعلينا أن لا ننسى يا سادة ، بأننا كنا مقموعين منذ أربعة عقود ، وقد زرع النظامُ فينا بذرة الشك وسوء الظن ، حتى أصبحنا لا يأمن أحدٌ أحداً ، ولا يطمئن مواطن لأخيه . لذلك اختار المواطن السوري العيش في عزلة ، يأمن فيها مغبَّةَ الاختلاط بالآخرين ، فأغلق عليه بابه ، وابتعد عن إخوانه السوريين .. وأنا واحدٌ ممن اضطُرَّ إلى ترك البلدِ مدةً طويلة ، لن أحدِّدَها ، ولن أخجل إن قلتُ : إنني أكتمها خوفا من المندسين .. لقد فُرِضَتْ علينا غربةٌ طويلة ، وأشهدُ أن السوريين هم أسوأ الشعوب تعاملا فيما بينهم . فالكلُّ في غربته يجافي الكل .. هكذا علَّمَنَا الاستبدادُ .. أو هكذا فَرَضَ علينا النظام المستبد أن نكون ، لِيَطُولَ عمرُ بقائه فينا ، وقد كان له – مع الأسف - ما أراد .
5 – أيها الإخوة ، إن خلاف المعارضة فيما بينها ، وبعد المواطنين عن بعضهم ، كان من العوامل المساعدة على بقاء النظام ، فقد أعطى الغرب مبررا لعدم الوقوف إلى جانبنا في محنتنا . والغرب يعلم أننا شعبٌ متفكك ، وأن أشد الناس تفككاً بيننا هم السياسيون المغتربون ، لذلك اشترط علينا ، لحل قضيتنا أن تتوحد المعارضة . وهو يعلمُ أنها لن تتوحَّد ، لأن وجهاتِ النظر بين فصائلها ، كما بين المشرق والمغرب ، وكل واحد منهم يُخوِّنُ الآخر ، ويتوجَّسُ منه خيفة ...فكيف يتوحَّدُون ؟ وعلى ماذا يتوحدون ؟ إنَّ الغَرْبَ يعلمُ أنَّ توحيد المعارضة هو الشرط المستحيل ، لذلك اختبأ وراءه ، وجعله سبباً لخذلاننا ، ومبرراً للقعود عن نصرتنا ...
6 –وهنا أعيذ حملة الأقلام ، المدافعين عن الثورة ، أن ينزلقوا في حواراتهم إلى نزاعات شخصية ، أو جدل عقيم ، يحرف مسارهم عن وجهته الصحيحة ، ويشغلهم ببعضهم عن محاربة النظام .
أقول هذا ، لأن الخلاف بيننا نحن - معاشر الكتاب - يمكن أن يكون أشد من الخلاف بين السياسيين ، وقد يتفق السياسيون ولا نتفق .. فهم الآن يتواصلون في المؤتمرات ، والمنتديات ، وقد ساعدت الثورة على كسر الحواجز بينهم ، فتقاربت وجهات نظرهم بعض التقارب ...
أما نحن فما زالت تفصلُ بيننا الأسوار ، وكل منا مختبئ تحت اسم مستعار ... وما أسرع ما يتهم أحدنا غيره بالخيانة والعمالة ، وما أسهل أن يحكم عليه بالجهل وقلة الدين ، وكأننا أُصِبْنَا بعدوَى الاستبداد من النظام ، وهذا خطرٌ كبير ، قال تعالى ( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ) ...
وهنا أستأذنكم يا سادة ، بأن أقول: نحن لم نتعلم بعدُ " أدبَ الحوار " . مع أن المتأمل في قوله تعالى " وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ " يجد أنَّ القرآن عامل أصنام المشركين معاملة العقلاء ، وهي من الحجارة الصماء ، فعبر عنها باسم الموصول ( الذين ) الخاص بالعقلاء ، بدل الموصول (ما ) الخاص بغير العاقل , وأبى أن يقول ( ولا تسبوا ما يدعون من دون الله ) مراعاة لمشاعر الخصوم ، وتمسكاً معهم بأدب الحوار .
7 –وأختم كلمتي هذه بما نقوم به فيما بيننا من تعليقات على ما نقرأ ، وهو شديد المساس بأدب الحوار .. ومن المعلوم أن مِنَ القُرَّاء مَنْ يعلِّقُ على موضوع ما ، إما مُستحسناً ، وإما مُخَطِّئاً . فالمستحسنُ يشدُّ أزر الكاتب ، ويزيده ثقةً بموضوعه .. والمُخطِّئُ يُطْلِعُ الكاتبَ على وجهة نظر ثانية في الموضوع . وهذا يُوسِّعُ آفاق الكاتب ، ويحركه إلى الدفاعِ عن مكتوبه ، أو يحمله على الاعتراف بخطئه ويقوده إلى الصواب .. وإلى هنا ، والموقف جدُّ حضاري ، وفيه : إما شكرُ للمحسن يدفعُهُ إلى مزيد من الإحسان . وإما تعويدٌ للقارئ على سماع الرأي الآخر ، وإما تعاون على الوصول إلى الصواب .
أما أنْ يكونَ التعليقُ على الموضوع بغلظة وفظاظة ، وتعالٍ وتجريح .. فهذا غيرُ مقبولٍ البتة .. وقد علَّمَنَا اللهُ تعالى أدبَ الخطاب ، وتوجَّه به إلى رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم ، حتى لا يرى أحدٌ نفسَهُ فوق التأديب والتعليم ، فقال تعالى مخاطبا سيد الخلق " فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ، وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ " .
خصوصاً ، وأننا نكتبُ ونتحاور على غير معرفة بيننا ، فربما يكونُ مَنْ تردُّ عليه ، رجلاً ذا شأن ، يُؤلمُه أن تُوَجَّهَ إليه كلمةٌ خشنةٌ ، وربما أوغَرَتْ قلبَ أخيك عليك ، فيفرح بها الشيطان ، لأن مهمته الرئيسية هي أن يحرش بين الناس ، ويلقي بينهم بذور العداوة والبغضاء .
بقلم : ابو ياسر السوري
هذه الفكرةُ ، تبدو لأول وهلةٍ ، وكأنها لا تستحقُّ الاهتمام ، وهي من الأهمية بمكان ، لأنه لا بُدَّ للثائر من رأي يُبديه ، أو فكرةٍ يعرضها ، أو خطةِ عمَلٍ يُقدّمُها . لأن الثورةَ أشبهُ بمرجل يغلي على النار ، ويثور فيه الماء ويضطرب ، فيصعد أسفلُه إلى أعلاه ، وأعلاه إلى أسفله ، وتتزاحمُ ذرات مائه على غير هدى ، وتتلاطمُ أمواجها في صعود وهبوط . حتى لكأنَّ كلَّ ذرة فيه ، ضائقةٌ ذرعاً بما هي فيه .
ومن هذا المثل البسيط ، يمكنك أنْ تقول : إن المنخرطين في أتون الثورة ، أشبه بالماء في القدر ، فالكلُّ يغلي ، والكلُّ مضطربٌ ، ومشاعرُ الكلِّ متأججة ، وأحاسيسُهُمْ ملتهبة .. فالناسُ في أجواء الثورة ، ما بين حُزْنٍ على شهيد قضى نَحْبَهُ ، أو فَرَحٍ بانتصار في أحد الميادين ، أو تألُّمٍ لجريحٍ أو مُعاق ، أو غضَبٍ لمسجدٍ هُدِّم ، أو مئذنةٍ قُصِفتْ ، أو قرآنٍ مزَّقَهُ المجرمون ، أو تَحرُّقٍ إلى لحظة النصر ، التي ينتظرها الكلُّ بفارغ الصبر ، أو حَنَقٍ على العرب المتخاذلين عن نصرتنا حكومة وشعوبا ، أو احتقارٍ لما يسمى بالمجتمع الدولي المتآمر علينا مع الجلاد ...
فأجواء الثورة في واقعها يا سادة ، ليست أجواء عادية ، وإنما هي ظرفٌ خاص ، تتغير فيه المعطيات ، وتتبدل فيه المواقف .. فصديقُ الأمس قد يصبح عدوَّ اليوم . وما كان خطأ في اللحظة الحاضرة ، قد يصبح صوابا بعد حين ... فلا يعجلْ أحدُنا فيحكم بالإعدام على كل من يخالفه في الرأي ، فقد تكون أنت المخطئ وهو المصيب .!؟ وإليك بعض الأمثلة من واقع الثورة ، على صدق ما أقول .
1- فقد بدأت الثورة سلمية ، لأكثر من خمسة شهور ، لم يُطلِقْ فيها أي مواطن رصاصةً ، وكنا نستقبل الرصاص بصدورنا ، ونحتمل فقدان الإخوة الذين يقتلون على مذابح الحرية ... وكنت واحداً ممن كتبَ ودعا إلى ضرورة حماية الثوار في ذلك الحين ... فخالفني في ذلك كثيرٌ من الإخوة ، ورفضوا أن يُحمَلَ السلاحُ تحتَ أيِّ اعتبار ، واتهموا كلَّ داعٍ إلى حمل السلاح بأنه يريد أن يُشوِّه جمال الثورة ، ويلطِّخَ سمعتها ، ويدعو لأمر فيه القضاء عليها ... وكادوا يَصِمُون الداعي إلى التسليح بالخيانة العظمى .. ثم انتهى الأمر بنا بعد ذلك ، إلى أن اضطررنا لحمل السلاح ، وأصبحنا نطالب بتأمينه فلا نجد إلى ذلك سبيلا ...
2-وكتبتُ مرة أنتقدُ المجلس الوطني ، وأطالبُ بتحويله إلى مجلس ثوري ، تكون قيادته من شباب الثورة بالذات ، لا من المعارضة في الخارج ، ولا من هيئة التنسيق في الداخل . وقسوتُ في بعض مقالاتي على هيثم مناع ، وبرهان غليون .. فتعالت الأصواتُ تستنكر قولي ، وتطالبني بالكفِّ عن مهاجمة غليون ، وقد قيل لي يومها " ما عملنا هذا المجلس الوطني إلا بشق الأنفس ، ويجب أن نعطيه مهلة " وكنتُ أراها مهلة لقتل الشعب ، فالمجلس لا يتحرك إلا بسرعة النملة على الجليد ، والثورة بحاجة لمجلس يمشي بسرعتها ، أو يسبقها بخطوات .. فسكتُّ أخيراً على مَضَضٍ ، وكففتُ قلمي عن الأداء البطيء للمجلس ، لإعطائه مهلة يسيره ، وأنا أعلم أن كل مهلة تعني إبطاءً في الوصول إلى الهدف ، وكل إبطاء لا بد أن يصبَّ في مصلحة النظام ...لذلك حرص المجتمعُ العربي والمجتمعُ الدولي ، على إغداق المُهَلِ على النظام ، ومنحِهِ كثيراً منها ، فقد أعطي مُهَلاً : من روسيا ، ومن جامعة الدول العربية ، ومن المراقبين العرب ، ومن مجلس الأمن ، ومن حقوق الإنسان ... إلى غير ذلك من المُهَلِ ، التي استغلها النظامُ أحسن استغلال ، وقتل فيها منا المئات والآلاف ...
ثم علمنا أخيراً .. أخيراً .. أن المجلس الوطني لا يمكنه أن يصنع لنا شيئا .. فلا هو استطاع أن ينتزع من العالم اعترافا بنفسه ولا بالثورة ، ولا هو استطاع أن يتجرد عن المصالح الحزبية والشخصية ... ولا هو استطاع أن يساير ركب الثورة في حراكها السريع ...ولا هو أوقفَ القتلَ عن المواطنين ، فما زلنا نُقْتَلُ ، والمجلسُ عاجزٌ مكبل اليدين ...
لقد تبين بشكل واضح أننا كنا مخطئين في اختراع مجلس سياسي تقوده الثورة ، بدلاً من مجلس ثوري يقود وراءه السياسيين ..!؟
3 - ما زلتُ أرى أننا بحاجة إلى مجلس ثوري ، وليس إلى مجلس وطني سياسي . لأن الثورة هي التي يجب أن تفرض شروطها على المجتمع الدولي ، والثورة هي التي يجب أن تنتزع حقوقها انتزاعا .. والمنطق الثوريُّ الحارُّ ، مختلفٌ كل الاختلاف عن المنطق السياسي البارد . وأنا هنا لا أخوِّنُ السياسيين ، ولا أتهمهم بالتقصير ، وإنْ كان هنالك دلائل كثيرةٌ ، تشير إلى أن بعضهم خونة ، وبعضهم الآخر مقصرون ..
4 – وبعد هذه المقدمة ، التي وضح من خلالها ، أنه ليس هنالك من هو معصومٌ عن الخطأ إلا الأنبياء ، وأن ما تراه خطأ قد يكون صوابا ، وما تراه صوابا قد يكون خطأ ... ونظرا لما نحن فيه من أمر هذه الثورة ، والوقوف معها بأقلامنا ، وفكرنا ، ونضالنا ، وهتافاتنا التي تمثل صرخات الحق في وجوه المستبدين .. ونظراً لظهور الحوارات السياسية على صفحات المنتديات ، ووقوع الخلاف في الرأي بين المتحاورين .. نظرا لهذا كله ، فإنني أرى أن لا نسمح للخلاف أن يتحول إلى نزاع شخصي ، أو ينقلب إلى جدل يؤزر صاحبه ولا يؤجر .
وعلينا أن لا ننسى يا سادة ، بأننا كنا مقموعين منذ أربعة عقود ، وقد زرع النظامُ فينا بذرة الشك وسوء الظن ، حتى أصبحنا لا يأمن أحدٌ أحداً ، ولا يطمئن مواطن لأخيه . لذلك اختار المواطن السوري العيش في عزلة ، يأمن فيها مغبَّةَ الاختلاط بالآخرين ، فأغلق عليه بابه ، وابتعد عن إخوانه السوريين .. وأنا واحدٌ ممن اضطُرَّ إلى ترك البلدِ مدةً طويلة ، لن أحدِّدَها ، ولن أخجل إن قلتُ : إنني أكتمها خوفا من المندسين .. لقد فُرِضَتْ علينا غربةٌ طويلة ، وأشهدُ أن السوريين هم أسوأ الشعوب تعاملا فيما بينهم . فالكلُّ في غربته يجافي الكل .. هكذا علَّمَنَا الاستبدادُ .. أو هكذا فَرَضَ علينا النظام المستبد أن نكون ، لِيَطُولَ عمرُ بقائه فينا ، وقد كان له – مع الأسف - ما أراد .
5 – أيها الإخوة ، إن خلاف المعارضة فيما بينها ، وبعد المواطنين عن بعضهم ، كان من العوامل المساعدة على بقاء النظام ، فقد أعطى الغرب مبررا لعدم الوقوف إلى جانبنا في محنتنا . والغرب يعلم أننا شعبٌ متفكك ، وأن أشد الناس تفككاً بيننا هم السياسيون المغتربون ، لذلك اشترط علينا ، لحل قضيتنا أن تتوحد المعارضة . وهو يعلمُ أنها لن تتوحَّد ، لأن وجهاتِ النظر بين فصائلها ، كما بين المشرق والمغرب ، وكل واحد منهم يُخوِّنُ الآخر ، ويتوجَّسُ منه خيفة ...فكيف يتوحَّدُون ؟ وعلى ماذا يتوحدون ؟ إنَّ الغَرْبَ يعلمُ أنَّ توحيد المعارضة هو الشرط المستحيل ، لذلك اختبأ وراءه ، وجعله سبباً لخذلاننا ، ومبرراً للقعود عن نصرتنا ...
6 –وهنا أعيذ حملة الأقلام ، المدافعين عن الثورة ، أن ينزلقوا في حواراتهم إلى نزاعات شخصية ، أو جدل عقيم ، يحرف مسارهم عن وجهته الصحيحة ، ويشغلهم ببعضهم عن محاربة النظام .
أقول هذا ، لأن الخلاف بيننا نحن - معاشر الكتاب - يمكن أن يكون أشد من الخلاف بين السياسيين ، وقد يتفق السياسيون ولا نتفق .. فهم الآن يتواصلون في المؤتمرات ، والمنتديات ، وقد ساعدت الثورة على كسر الحواجز بينهم ، فتقاربت وجهات نظرهم بعض التقارب ...
أما نحن فما زالت تفصلُ بيننا الأسوار ، وكل منا مختبئ تحت اسم مستعار ... وما أسرع ما يتهم أحدنا غيره بالخيانة والعمالة ، وما أسهل أن يحكم عليه بالجهل وقلة الدين ، وكأننا أُصِبْنَا بعدوَى الاستبداد من النظام ، وهذا خطرٌ كبير ، قال تعالى ( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ) ...
وهنا أستأذنكم يا سادة ، بأن أقول: نحن لم نتعلم بعدُ " أدبَ الحوار " . مع أن المتأمل في قوله تعالى " وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ " يجد أنَّ القرآن عامل أصنام المشركين معاملة العقلاء ، وهي من الحجارة الصماء ، فعبر عنها باسم الموصول ( الذين ) الخاص بالعقلاء ، بدل الموصول (ما ) الخاص بغير العاقل , وأبى أن يقول ( ولا تسبوا ما يدعون من دون الله ) مراعاة لمشاعر الخصوم ، وتمسكاً معهم بأدب الحوار .
7 –وأختم كلمتي هذه بما نقوم به فيما بيننا من تعليقات على ما نقرأ ، وهو شديد المساس بأدب الحوار .. ومن المعلوم أن مِنَ القُرَّاء مَنْ يعلِّقُ على موضوع ما ، إما مُستحسناً ، وإما مُخَطِّئاً . فالمستحسنُ يشدُّ أزر الكاتب ، ويزيده ثقةً بموضوعه .. والمُخطِّئُ يُطْلِعُ الكاتبَ على وجهة نظر ثانية في الموضوع . وهذا يُوسِّعُ آفاق الكاتب ، ويحركه إلى الدفاعِ عن مكتوبه ، أو يحمله على الاعتراف بخطئه ويقوده إلى الصواب .. وإلى هنا ، والموقف جدُّ حضاري ، وفيه : إما شكرُ للمحسن يدفعُهُ إلى مزيد من الإحسان . وإما تعويدٌ للقارئ على سماع الرأي الآخر ، وإما تعاون على الوصول إلى الصواب .
أما أنْ يكونَ التعليقُ على الموضوع بغلظة وفظاظة ، وتعالٍ وتجريح .. فهذا غيرُ مقبولٍ البتة .. وقد علَّمَنَا اللهُ تعالى أدبَ الخطاب ، وتوجَّه به إلى رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم ، حتى لا يرى أحدٌ نفسَهُ فوق التأديب والتعليم ، فقال تعالى مخاطبا سيد الخلق " فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ، وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ " .
خصوصاً ، وأننا نكتبُ ونتحاور على غير معرفة بيننا ، فربما يكونُ مَنْ تردُّ عليه ، رجلاً ذا شأن ، يُؤلمُه أن تُوَجَّهَ إليه كلمةٌ خشنةٌ ، وربما أوغَرَتْ قلبَ أخيك عليك ، فيفرح بها الشيطان ، لأن مهمته الرئيسية هي أن يحرش بين الناس ، ويلقي بينهم بذور العداوة والبغضاء .
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ