“كنت أبكي وأصرخ، وتوسلت للجنود أن يطلقوا سراحهم، ثم قلت لهم: أرجو أن
يحرق الله قلوبكم كما حرقتم قلبي”.. هبة، أم وأخت لشخصين ممن تم إعدامهم
أثناء هجوم الحكومة على سراقب.
في الوقت الذي كان فيه كوفي عنان، المبعوث الخاص للأمم المتحدة، يتفاوض
مع الحكومة السورية لوقف القتال في سوريا أواخر مارس آذار 2012، كانت
القوات الحكومية تشن سلسلة من الهجمات واسعة النطاق على مدن محافظة إدلب
الخاضعة لسيطرة المعارضة، شرق وشمال مدينة إدلب.
يوثق هذا التقرير هجمات القوات الحكومية على مدن السرمين، وسراقب،
وتفتناز، وحزانو، وكللي، وقرابة ست قرى صغيرة في الفترة الممتدة بين 22
مارس آذار و 6 أبريل نيسان 2012 . قامت القوات الحكومية ومليشيات مساندة
لها، أثناء هذه الهجمات، بقتل ما لا يقل عن 95 مدنيًا، وأحرقت ودمرت ونهبت
مئات المنازل والمتاجر، واعتقلت عشرات الأشخاص بشكل تعسفي، وأعدمت ما لا
يقل عن 35 مدنيًا إعدامًا جماعيًا.
وزارت هيومن رايتس ووتش بلدات السرمين وسراقب وتفتناز وحزانو وكللي في الفترة الممتدة من 25 إلى 29
أبريل نيسان، وقابلت 65 ضحية وشاهدًا على الهجمات. كما قامت هيومن رايتس
ووتش، خلال نفس الزيارة، بفحص أدلة مادية من قبيل المباني المدمرة
والمحروقة، وبقايا الذخيرة المستعملة، وآثار الرصاص والقذائف. كما شاهدت
هيومن رايتس ووتش والتقطت صورًا للعديد من المنازل والمتاجر والمساجد
والعيادات الميدانية المدمرة والمحروقة خلال زيارة البلدات المتضررة.
وبناء على أقوال الشهود، كانت الهجمات تتبع نفس النمط في جميع القرى،
وتبدأ بقصف الدبابات في الصباح الباكر، وأحيانًا يكون متزامنا مع قصف تنفذه
المروحيات. وبعد ذلك بساعات قليلة، تتقدم الدبابات وقوات المشاة إلى
البلدات، وتبقى هناك لمدة تتراوح بين يوم واحد وثلاثة أيام، ثم تنتقل إلى
البلدة التالية:
السرمين . 22 – 23 مارس آذار
سراقب . 24 – 27 مارس آذار
تفتناز . 3 – 4 أبريل نيسان
حزانو . 5 مارس آذار
كللي 6 أبريل نيسان
وتشير الكتابات الحائطية التي تركها الجنود في جميع المدن التي تمت
زيارتها إلى أن اللواء المدرّع 76 من الجيش السوري لعب دورًا محوريًا في
العملية العسكرية. كما قال شهود إن عملاء من أجهزة المخابرات السورية
شاركوا في الهجمات، وقاموا في بعض الحالات باعتقال وإعدام سكان محليين.
وربما شاركت قوات من وحدات أخرى في العملية العسكرية أيضًا.
وكانت البلدات التي هاجمتها قوات الأمن السورية خاضعة في معظمها لسيطرة
قوات المعارضة. وفي بعض الحالات، حاول مقاتلو المعارضة منع الجيش من دخول
البلدات، ولكنهم قالوا إنهم انسحبوا في أغلب الأحيان بشكل سريع لأنهم كانوا
يعلمون أن الجيش يفوقهم عددًا، وأنه لم تكن لديهم السبل اللازمة للتصدي
للدبابات والمدفعية. وقال مقاتلو المعارضة في بلدات أخرى إنهم غادروا
أماكنهم دون مقاومة للحفاظ على حياة المدنيين.
وفي 6 أبريل نيسان، قبل بلوغ اتفاق وقف إطلاق النار مع الأمم المتحدة،
ذكرت تقارير أن القوات التي نفذت الهجمات عادت إلى المخيم العسكري في
المسطومة، في أريحا، التي تبعد سبعة كيلومترات عن مدينة إدلب. وبينما تسببت
العمليات في مقتل مقاتلي المعارضة وجنود حكوميين، يُركز هذا التقرير على
الانتهاكات المرتكبة بحق السكان المدنيين. يبدو أن القتال في إدلب بلغ
مستوى النزاع المسلح حسب تعريف القانون الدولي، بالنظر إلى شدة القتال
والمستوى التنظيمي لكلا الجانبين، بما في ذلك المعارضة المسلحة التي أمرت
بعمليات انسحاب ونفذتها. ويعني ذلك أن ما حدث يمكن أن يُطبّق في شأنه
القانون الدولي الإنساني (قانون النزاعات المسلحة) وقانون حقوق الإنسان.
الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني مُصنفة بصفتها جرائم حرب.
وأثناء الهجوم على مناطق محافظة إدلب التي قامت هيومن رايتس ووتش
بزيارتها، قتلت القوات الحكومية وميليشيات مساندة للحكومة ما لا يقل عن 95
مدنيًا، والعديد منهم أُعدموا بشكل جماعي. كما وثقت هيومن رايتس ووتش إعدام
35 مدنيًا رهن الاحتجاز على يد القوات الحكومية، ومنهم ما لا يقل عن ثلاثة
أطفال.
وقعت أغلب عمليات الإعدام التي وثقتها هيومن رايتس ووتش في هذا التقرير،
بما في ذلك عمليات إعدام جماعي، أثناء هجوم الحكومة على تفتناز، وهي بلدة
يسكنها قرابة 15 ألف نسمة شمال شرقي مدينة إدلب، في 3 و 4 أبريل نيسان.
ويبدو أن القوات الحكومية استهدفت في هذه البلدة عائلة غزال، التي كان
العديد من أفرادها يساندون المعارضة.
وتحدث أحد الضحايا الناجين من هجوم قوات الأمن في 3 أبريل نيسان الذي
قُتل فيه 19 فردًا من عائلة غزال في تفتناز إلى هيومن رايتس ووتش حول
العثور على جثث أقاربه: في البداية عثرنا على خمس جثث في متجر صغير بجانب
المنزل، وكانت متفحمة بشكل شبه كامل، وتمكنا من التعرف على أصحابها فقط
ببعض ما تبقى من ملابس عليها. وبعد ذلك دخلنا المنزل، وعثرنا على تسع جثث
في إحدى الغرف، وجدنا الكثير من الدم على الأرض، وأثار للرصاص على الجدار.
وكانت جميع الجثث تحمل إصابات بالرصاص على مستوى الظهر، وأحيانًا على مستوى
الرأس أيضًا. ولم تكن الأيدي مغلولة، ولكنها كانت مشدودة إلى الخلف.
وتحدثت إحدى الأمهات من بلدة السرمين عن اعتقال أبنائها الثلاثة في
منزلهم صباح يوم 23 مارس آذار على يد سبعة جنود من اللواء الرابع في الجيش
السوري. وبعد ذلك بساعة، أعلمهم أحد الجيران أن قوات الأمن أشعلت النار في
مكان قريب من هناك: خرجت مع بناتي نحمل أوانٍ للماء، وبعد ذلك قالت أحداهن،
وكُن يركضن أمامي، إن أبنائي هناك أيضًا. وبعد أن تمكنا من إطفاء النار،
عثرنا على جثثهم. كان بلال مصابًا برصاصة في وسط جبينه، ويوسف خلف أذنه،
بينما أصيب طلال برصاصتين في الرأس والظهر. كانت أيديهم تبدو وكأنها شُدت
إلى الخلف، لقد احترق الحبل ولكن أيديهم بقيت خلفهم. أجبرنا على تركهم في
الشارع لمدة عشر ساعات، كان إطلاق النار كثيفاً جدًا ولم نتمكن من سحب
الجثث. كل ما تمكنا من فعله هو دفن الجثث بعد أن غادر الجيش المكان.
وأثناء الهجمات على محافظة إدلب، التي يوثقها هذا التقرير، قامت القوات
الحكومية بقتل بعض المدنيين عندما فتحت النار من أسلحة رشاشة ودبابات
ومروحيات، من مسافات بلغت مئات الأمتار عن الأهداف. وفي العديد من الحالات
التي قامت هيومن رايتس ووتش بتوثيقها، قامت القوات الحكومية بإطلاق النار،
فقتلت وأصابت مدنيين كانوا يحاولون الفرار من الهجمات. وتشير ملابسات هذه
الحوادث إلى أن القوات الحكومية لم تميز بين المدنيين والمقاتلين، ولم تتخذ
الإجراءات الاحترازية الضرورية لحماية المدنيين. على سبيل المثال، قُتل
علي ماعسوس، وعمره 76 سنة، وزوجته بدرة، وعمرها 66 سنة، بسلاح رشاش بُعيد
بداية هجوم الجيش على تفتناز صباح 3 أبريل نيسان بينما كانا يحاولان الفرار
من المدينة في شاحنة نقل صغيرة مع 15 شخصًا آخر من أصدقائهم وعائلتهم.
وعند دخول البلدة، قامت القوات الحكومية والشبيحة بإحراق وتدمير عدد
كبير من المنازل والمتاجر والسيارات وممتلكات أخرى. وقام نشطاء في المنطقة
بتسجيل عمليات تدمير وحرق كاملة أو جزئية لمئات المنازل والمتاجر. وفي
السرمين، على سبيل المثال، قام نشطاء محليون بتسجيل حرق أو تدمير 318
منزلاً و 87 متاجرًا بالإضافة إلى عدد من المستودعات والمساجد والصيدليات.
أما في تفتناز، قال نشطاء إنه تم حرق ما يقارب 500 منزل بشكل كامل أو جزئي،
وتدمير 150 منزلاً بشكل كامل أو جزئي باستعمال نيران الدبابات وأسلحة
أخرى.
ولأن السكان كانوا يفرون عندما يشن الجيش الهجوم، لم تكن هيومن رايتس
ووتش دائمًا قادرة على مقابلة شهود عيان بشأن عمليات التدمير. وفي أغلب
الحالات، كان الناس يكتشفون أنه تم إحراق أو تدمير منازلهم فقط عندما
يعودون إليها بعد انسحاب القوات الحكومية منها. وقال سكان محليون إنه يتم
أحيانًا استهداف منازل بعينها لأنها ضمن أملاك نشطاء أو أفراد من عائلات
مقاتلي المعارضة. وفي حالات أخرى، لم يكن السكان يعلمون لماذا تم استهداف
منازل بعينها. وقامت هيومن رايتس ووتش بفحص العديد من المنازل التي تم
حرقها أو تدميرها في البلدات المتضررة. وفي أغلب الحالات التي قامت هيومن
رايتس ووتش بتوثيقها، بدت عمليات الحرق والتدمير مُتعمدة. وكانت أغلب
المنازل المحروقة لا تحمل أي أضرار خارجية، وهو ما يدحض فرضية تعرضها للقصف
ثم اشتعال النيران فيها. إضافة إلى ذلك، كانت العديد من المنازل التي
شملها التدمير مدمرة بشكل كامل خلافًا للمنازل التي بدا أنها تعرضت
لقصف بقذائف مدفعية.
وأثناء العمليات العسكرية، قامت قوات الأمن أيضًا باعتقال عشرات الأشخاص
بشكل تعسفي. ومازال قرابة ثُلثي المعتقلين رهن الاحتجاز إلى الآن رغم
الوعود التي قدمتها حكومة الأسد بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين. وفي أغلب
الأحيان، يبقى مصير المعتقلين ومكان اعتقالهم مجهولين، وهو ما يثير مخاوف
حول تعرضهم للاختفاء القسري. وقال بعض الذين تم إطلاق سراحهم لـ هيومن
رايتس ووتش، وأغلبهم من المُسنين والمعاقين، إنهم تعرضوا أثناء الاحتجاز
للتعذيب وسوء المعاملة على يد العديد من فروع المخابرات في مدينة إدلب.
ومنذ بداية المظاهرات المناهضة للحكومة في فبراير شباط 2011، ارتكبت
قوات الأمن السورية انتهاكات جسيمة واسعة النطاق، ترقى أحيانًا إلى مستوى
الجرائم ضدّ الإنسانية. وقامت هيومن رايتس ووتش بتوثيق هذه الانتهاكات في
العديد من التقارير والبيانات الصحفية. كما قمنا بتوثيق انتهاكات خطيرة
ارتكبها مقاتلو المعارضة السورية ونددنا بها، بما في ذلك الانتهاكات التي
وقعت في تفتناز. ويجب التحقيق في هذه الانتهاكات وتقديم المسؤولين عن
ارتكابها
إلى العدالة. ولكن هذه الانتهاكات لا تبرر بأي شكل من الأشكال الانتهاكات
التي ترتكبها القوات الحكومية، بما في ذلك عمليات الإعدام الجماعية في حق
سكان القرى وعمليات التدمير الواسعة التي استهدفت القرى.
وفي بداية فبراير شباط 2012، بدأ الجيش السوري هجومًا عسكريًا موسعًا
على معاقل المعارضة، بما في ذلك حمص وحماة وإدلب، وتسبب في انتهاكات خطيرة
أخرى. وفي منتصف مارس آذار، اقترح كوفي عنان، مبعوث الأمم المتحدة وجامعة
الدول العربية، خطة سلام من ست نقاط لوقف إطلاق النار والشروع في حوار
سياسي. وفي الأسابيع التالية، قام كوفي عنان بمناقشة خطة السلام مع الحكومة
السورية، وأعلن في 4 أبريل نيسان أن الرئيس بشار الأسد قدم ضمانات بأنه
سوف يشرع “فورًا” في سحب قواته وإنهاء عملية الانسحاب من المدن والمناطق
الحضرية بحلول 10 أبريل نيسان. وفي 21 أبريل نيسان، شكل مجلس الأمن بعثة
مراقبة أممية خاصة بسوريا، تتكون من 300 مراقب، مكلفة بمراقبة وقف العنف
وتنفيذ خطة عنان. ولكن وكما يظهر من هذا التقرير، فبينما كان المسؤولون
السوريون يتفاوضون حول خطة السلام والرئيس الأسد يُعلن دعمه لجهود كوفي
عنان، واصل الجيش السوري هجومه على محافظة إدلب.
تدعو هيومن رايتس ووتش مجلس الأمن في الأمم المتحدة إلى أن تتضمن بعثة
المراقبة الأممية في سوريا ممثلين من ذوي الخبرة في مجال حقوق الإنسان
للقاء ضحايا الانتهاكات الموثقة في هذا التقرير بشكل مستقل، ولحماية
الضحايا من الانتقام. كما تدعو هيومن رايتس ووتش مجلس الأمن إلى ضمان
مساءلة مرتكبي هذه الجرائم عبر إحالة الملف السوري إلى المحكمة الجنائية
الدولية.