“يوجد بابان فقط لبابا عمرو: أحدهما يقود
إلى الموت والآخر إلى الحرية”، هذا آخر ما كتبه منار، تجده مخطوطاً بشكلٍ
مضطرب بقلم تخطيط أسود على قطعة ورق حمراء معلقة على الجدار المقابل لسريره
في المشفى.
لقد شجّعه الأطباء على كتابة الشعر لمساعدته في التغلّب على صدمته
النفسية، ولكن من الواضح أن السوري البالغ من العمر 17 عاماً أبعد ما يكون
عن التعايش مع ما حصل معه في الحيّ الذي كان يعيش فيه في حمص. “لا أستطيع
تخيل المستقبل” يقول الشاب اليافع وهو يحدّق في المساحة الخالية تحت أغطيته
حيث يجب أن تكون قدمه اليمنى.
الأربعون سريراً في الطابق الثالث من مشفى طرابس الحكومي في لبنان
ممتلئة حصراً بالسوريين المصابين جرّاء الصراع الدائر في بلادهم، فأصبحت
تُلقّب بالمشفى السوري الميداني. إلى هنا تأتي سيارات الإسعاف بالمصابين
الأكثر خطورة الذين يصلون إلى الحدود اللبنانية بعد المجازفة بحياتهم عبر
نقاط التهريب الشديدة الخطورة.
وقد قالت اللجنة الدولية للصليب الأحمر الأسبوع الماضي إنها كثّفت
عملياتها في لبنان بعد زيادة كبيرة لأعداد السوريين المصابين بجروح خطيرة
والذين دخلوا البلاد. وتم إجلاء أكثر من 300 ضحية حتى الآن هذا العام،
مقارنة مع 177 خلال عام 2011 . من مقاتلي الجيش السوري الحر إلى النساء
والأطفال، هناك حلقة مألوفة في قصص أولئك المرضى في طرابلس، إلا أن كل قصة
على حدا تفطر القلب.
أسرع منار لتخليص الجرحى بعد سقوط قذيفة هاون، ولكن جندياً سورياً أطلق
العنان لمدفعه الرشاش، لقد أصيبت قدمه اليمنى بإصاباتٍ بالغة بالرصاص
الكثيف مما أدّى إلى بترها من فوق الركبة.
في الغرفة المجاورة لمنار يقبع خالد البالغ من العمر 15 عاماً مشلولاً
بعد تلقّيه رصاصة في ظهره، لم يخبره جدّاه بعد أن إصابته دائمة، يقول خالد:
“آمل أن أستطيع المشي مجدداً، وأن يموت ذلك الكلب بشار”.
“سنقضي عليه من أجلك”، يجيب ضابط في الجيش السوري الحر في الرابعة
والعشرين من العمر يرقد في السرير المجاور، يخطّط هذا الضابط للعودة إلى
القتال بعد بضعة أسابيع عندما يلتئم الجرح الذي أحدثته رصاصة في يده
اليمنى.
على الرغم من أنهم يتلقون رعاية طبية عالية المستوى لدى وجودهم في
المشفى في طرابلس، يشعر الأطباء بالقلق على مستقبل مرضاهم بعد خروجهم من
المشفى. توجد تدابير قليلة من أجل إعادة التأهيل طويلة الأمد، فسينضم هؤلاء
المرضى إلى صفوف 24 ألف لاجئ سوري في لبنان يصارعون من أجل البقاء في ظل
مساعدات حكومية ودولية شحيحة. أقل من نصفهم مسجّل رسمياً لدى وكالة الأمم
المتحدة لشؤون اللاجئين، فيما يعتمد الأغلبية على كرم السكان المحليين
والجوامع والمؤسسات الإسلامية لتجنّب النوم في الشوارع.
بالنسبة إلى الدكتور أحمد أبو جواد هناك رابط عميق يجمعه مع مرضاه، لقد
عمل الطبيب السوري في هذا الجناح لمدة 40 يوماً بعد الفرار من مشفى بابا
عمرو الميداني خلال الحصار سيء الصيت لذلك الحي في حمص، والذي امتد شهراً.
وعندما سُئل عن أسوأ حالة شاهدها أشار برأسه إلى الغرفة رقم 316، “إن
قصتها… صعبة جداً” يقول الطبيب.
هناك تتجاهل “حسنه” جراحها تماماً، “لقد فقدت قدمي،
ولكن هذا الأمر لا يزعجني، هناك أشياء أخرى فقدتها تعني لي أكثر”. تصف
“حسنه” كيف هربوا، هي وعائلتها، من قريتهم في ريف حمص، عندما سمعوا بأن
الجيش السوري على وشك شنّ هجوم، بعد أيام كانوا في طريقهم عائدين إلى
منزلهم عندما أصابت قذيفة دبابة دراجتهم النارية.
“لقد كان زوجي يقود الدراجة وفي حضنه جلس ابني ذي الثلاثة أعوام، بينما
جلست أنا في الخلف أحضن ابنتي ذات السنة الواحدة”، تقول حسنه، “لقد كان
هناك معدن وغبار يتطاير، ورأيت رأس ابنتي مفتوحاً أمام عيني، لقد أحسست
بدقة قلبها الأخيرة، لن أنسى تلك اللحظة طالما حييت”.
لقد نُسفت قدما ابنها ومات في مكان الحادث، بينما قضى زوجها جراء
إصاباته خلال الرحلة إلى لبنان، تقول حسنه “لقد كنت مستعدّة لأن أخسر أحد
أفراد أسرتي خلال الثورة، تجهّز نفسك لأمرٍ كهذا، ولكنني لم أكن مستعدّة
لأن أخسرهم جميعاً”.