في
بدايات كل هذا الذي يجري في سوريا، وقبل أن يصل إلى ما وصل إليه، كان هناك
اعتقاد – حتى لدى بعض أجنحة نظام بشار الأسد – بأن بعض الضباط الغيورين
ومن الطائفة العلوية نفسها، التي لا يجوز وضع كل أبنائها في سلة واحدة، سوف
يسارعون إلى القيام بانقلاب عسكري إنقاذي للحؤول دون تمزق البلاد، وقطع
الطريق على حرب أهلية بدأ هذا النظام يدفع الأمور في اتجاهها دفعا لتحويل
الصراع من صراع وطني وصراع انعتاق وحريات عامة إلى صراع طائفي يجد فيه
ملاذا للحكم الذي ورثه عن والده والذي تكرس على أساس الركائز المذهبية
والطائفية المعروفة.
لكن عاما وأكثر قد مضى، والانتظار قد طال ولم يقع هذا «الانقلاب
الإنقاذي» وكأن الأرحام قد جفت وكأن «الجيش العربي السوري»، الذي هو مدرسة
انقلابية معروفة بقيت تدفع بضباطها إلى الحكم والسلطة منذ نهايات أربعينات
القرن الماضي وحتى انقلاب حافظ الأسد الأخير على رفاقه في نوفمبر (تشرين
الثاني) عام 1970، قد تم تحويله من مؤسسة وطنية إلى مجرد «جندرمة» لحماية
هذا النظام الذي بقي يستخدمه لقمع السوريين وإطفاء جذوة النزعة التحررية
عندهم، وأكبر دليل على هذا مذبحة حماه الشهيرة في عام 1982، وهذه المجازر
المتنقلة في كل المناطق والمدن السورية.
كان الاعتقاد بأن «الجيش العربي السوري» سيبادر – بعد تلك الجريمة التي
ارتكبت ضد أطفال درعا في تلك الحادثة المعروفة التي فجرت هذه الثورة التي
بقيت متصاعدة على مدى أكثر من ثلاثة عشر شهرا – إلى ما كان بادر إليه الجيش
التونسي أولا والجيش المصري ثانيا، وأن ينحاز إلى شعبه كما انحاز هذان
الجيشان إلى شعبيهما، وأن يرجح خيار الاصطفاف إلى جانب الشعب على خيار
حماية نظام أوصل بلدا عربيا رئيسيا إلى هذه الحالة المزرية التي لا تليق
بسوريا التي من المفترض أنها الآن في مقدمة الدول العربية سياسيا واقتصاديا
وتجربة ديمقراطية ونهوضا حضاريا، وفي كافة الحقول والمجالات.
في تونس ما كان لانتفاضة الشعب التونسي أن تنتصر وأن يتم حسم الأمور
هناك بسرعة وإزاحة زين العابدين بن علي من قصر قرطاج وإجباره على الفرار
إلى الخارج لو لم يتحرك الجيش في اللحظة المناسبة ولو لم يبادر إلى حماية
حركة شعبه من بطش الأجهزة الأمنية، ويقينا لو أن هذا لم يحدث لما كان
الانتصار خلال أيام ولتضاعفت أعداد الضحايا عشرات، وربما مئات المرات،
ولكان هذا البلد الجميل يغرق الآن في خراب يتطلب إصلاحه جهد سنوات طويلة.
وفي مصر، فإن المعروف أن الدور الذي قامت به القوات المسلحة هو الذي حمى
ثورة ميدان التحرير، وهو الذي عزز هذه الثورة التي كانت معرضة لبطش
الأجهزة بلا حدود، وهو الذي أجبر حسني مبارك على تقديم استقالته وعلى
الرحيل، وهو الذي بقي يرافق انتفاضة الشعب المصري، وجنبها كل احتمالات
السقوط والفشل، والتي لولا سهر المجلس العسكري ومتابعته المتواصلة لدقائق
الأمور لما كان بالإمكان أن تصل الثورة إلى ما وصلت إليه في ظل ضعف قوى
المعارضة، وبسبب خلافاتها المستفحلة، وعدم قدرتها على الالتفاف حول برنامج
وطني يجمع الجميع.
وحقيقة، حتى لا يظلم «الجيش العربي السوري» أكثر من اللزوم، أن التجربة
في سوريا تختلف كثيرا على هذا الصعيد عن التجربتين التونسية والمصرية،
وأيضا عن أي تجارب عربية أخرى، إذ باسم «الحزب القائد»، أي حزب البعث، جرت
غربلة هذا الجيش، وبخاصة بعد وصول حافظ الأسد إلى الحكم والسلطة في عام
1970، على أساس الولاء له ولتحالفه العائلي، وتم إقصاء الضباط المشكوك في
ولائهم حتى من أبناء الطائفة العلوية، كما تم تحويل هذا الجيش من جيش موحد
يقف على أرضية وطنية واحدة إلى جيشين: الأول جيش النخبة التي ولاؤها للنظام
فقط والتي تقوم عقيدتها العسكرية على أساس أن هذا النظام مقدم على الشعب
وعلى الوطن، وبالطبع أيضا على الحزب، وجيش الكثرة المهملة الذي جرى حجزه في
المعسكرات النائية، وتم سحب حتى الأسلحة الفردية منه وتعطيل كل آلياته منذ
أن بدأت هذه التطورات العاصفة قبل سنة وأكثر.
لقد خلق حافظ الأسد، الذي لجأ إلى تصفية كل مجموعات محمد عمران وكل
مجموعات صلاح جديد وكل المجموعات المشكوك في ولائها ليس للوطن والشعب وإنما
له شخصيا ولعائلته وأبنائه، ما يسمى بـ«الدائرة المغلقة» في هذا الجيش،
بحيث أصبح كل ضابط ومنذ لحظة التحاقه بإحدى الكليات العسكرية تحت الرقابة
الأمنية الحثيثة وعلى مدار الساعة، وكل الوقت، ولذلك ومن أجل هذه المهمة
أصبح هناك نحو عشرين جهازا استخباريا، من بينها جهاز استخبارات القوات
الجوية الذي هو صاحب الباع الطويل الآن، كما يقال، في قمع الثورة السورية.
لكن ورغم كل هذا، فإن ما يعرفه المتابعون للوضع السوري منذ انقلاب حافظ
الأسد على رفاقه في عام 1970 ووضعهم في السجون لسنوات طويلة أنه كانت هناك
محاولات انقلابية عدة تم إحباطها بقسوة لا حدود لها، من بينها ما قام به
ضباط من الموالين لوزير الدفاع السابق رئيس اللجنة العسكرية التي كانت
تشكلت في مصر في أيام الوحدة المصرية – السورية محمد عمران الذي تم اغتياله
في طرابلس في الشمال اللبناني في بدايات سبعينات القرن الماضي، ومن بينها
ما قام به ضابط من الموالين للواء صلاح جديد الذي وضع بعد «الحركة
التصحيحية» في سجن المزة المعروف إلى أن مات وقضى نحبه مثله مثل رئيس
الجمهورية السابق نور الدين الأتاسي وآخرين من القيادات الحزبية والحكومية.
هذا في زمن حافظ الأسد، الذي واجه محاولة شقيقه رفعت الانقلابية في عام
1984 بأقسى مما واجه به المحاولات السابقة، أما في زمن ابنه الرئيس الحالي
بشار الأسد فإن أخطر ما تعرض له هو المحاولة التي قام بها غازي كنعان بعد
سحبه من لبنان على أثر اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري التي
يقال: إنها كانت محاولة جدية لكنها سحقت بعنف وقوة وجرى إعدام صاحبها، أي
غازي كنعان، رميا بالرصاص في مكتبه، وصدر بلاغ عن أنه انتحر لأسباب شخصية،
وهذا ما كان حدث مع رئيس مكتب الأمن القومي الأسبق عبد الكريم الجندي في
عام 1968، وكان يومها الأسد الأب وزيرا للدفاع، وكانت قد تمت له السيطرة
على كل شيء في الدولة بعد انقلابه الصامت في هذا العام نفسه.
والآن، وفي ضوء هذا كله، فهل لا يزال هناك أمل في أن يأتي الانقلاب
الإنقاذي، الذي كان متوقعا منذ لحظة انفجار هذه الأحداث قبل عام ونيف، وإن
متأخرا وفي اللحظة الأخيرة؟!
يتحدث بعض كبار المسؤولين السابقين من مرحلة ما قبل حافظ الأسد عن أنه
رغم اعتقال المئات من الضباط خلال كل شهور العام الماضي، ورغم عمليات
«التفكيك» التي بقيت تواصلها الأجهزة الأمنية المتعددة في كل الوحدات
العسكرية على مدى الثلاثة عشر شهرا الأخيرة، فإن هناك عمليات استقطاب تتم
بصورة سرية حتى في «القطاعات» التي تعتبر مطلقة الولاء، مثل الفرقة الرابعة
والحرس الجمهوري، وخاصة بين أبناء الطائفة العلوية الذين باتوا يشعرون بأن
الأوضاع لم تعد تطاق، وأن طائفتهم ستكون هي الضحية إذا بقي هذا النظام
مستمرا في مواجهة الشعب السوري بكل هذه المذابح التي غدت تشمل البلاد كلها،
وبالتالي فإنه لا بد من التحرك ووضع حد لكل هذا الذي يجري، وإن كان في
اللحظة الأخيرة.
صالح القلاب
بدايات كل هذا الذي يجري في سوريا، وقبل أن يصل إلى ما وصل إليه، كان هناك
اعتقاد – حتى لدى بعض أجنحة نظام بشار الأسد – بأن بعض الضباط الغيورين
ومن الطائفة العلوية نفسها، التي لا يجوز وضع كل أبنائها في سلة واحدة، سوف
يسارعون إلى القيام بانقلاب عسكري إنقاذي للحؤول دون تمزق البلاد، وقطع
الطريق على حرب أهلية بدأ هذا النظام يدفع الأمور في اتجاهها دفعا لتحويل
الصراع من صراع وطني وصراع انعتاق وحريات عامة إلى صراع طائفي يجد فيه
ملاذا للحكم الذي ورثه عن والده والذي تكرس على أساس الركائز المذهبية
والطائفية المعروفة.
لكن عاما وأكثر قد مضى، والانتظار قد طال ولم يقع هذا «الانقلاب
الإنقاذي» وكأن الأرحام قد جفت وكأن «الجيش العربي السوري»، الذي هو مدرسة
انقلابية معروفة بقيت تدفع بضباطها إلى الحكم والسلطة منذ نهايات أربعينات
القرن الماضي وحتى انقلاب حافظ الأسد الأخير على رفاقه في نوفمبر (تشرين
الثاني) عام 1970، قد تم تحويله من مؤسسة وطنية إلى مجرد «جندرمة» لحماية
هذا النظام الذي بقي يستخدمه لقمع السوريين وإطفاء جذوة النزعة التحررية
عندهم، وأكبر دليل على هذا مذبحة حماه الشهيرة في عام 1982، وهذه المجازر
المتنقلة في كل المناطق والمدن السورية.
كان الاعتقاد بأن «الجيش العربي السوري» سيبادر – بعد تلك الجريمة التي
ارتكبت ضد أطفال درعا في تلك الحادثة المعروفة التي فجرت هذه الثورة التي
بقيت متصاعدة على مدى أكثر من ثلاثة عشر شهرا – إلى ما كان بادر إليه الجيش
التونسي أولا والجيش المصري ثانيا، وأن ينحاز إلى شعبه كما انحاز هذان
الجيشان إلى شعبيهما، وأن يرجح خيار الاصطفاف إلى جانب الشعب على خيار
حماية نظام أوصل بلدا عربيا رئيسيا إلى هذه الحالة المزرية التي لا تليق
بسوريا التي من المفترض أنها الآن في مقدمة الدول العربية سياسيا واقتصاديا
وتجربة ديمقراطية ونهوضا حضاريا، وفي كافة الحقول والمجالات.
في تونس ما كان لانتفاضة الشعب التونسي أن تنتصر وأن يتم حسم الأمور
هناك بسرعة وإزاحة زين العابدين بن علي من قصر قرطاج وإجباره على الفرار
إلى الخارج لو لم يتحرك الجيش في اللحظة المناسبة ولو لم يبادر إلى حماية
حركة شعبه من بطش الأجهزة الأمنية، ويقينا لو أن هذا لم يحدث لما كان
الانتصار خلال أيام ولتضاعفت أعداد الضحايا عشرات، وربما مئات المرات،
ولكان هذا البلد الجميل يغرق الآن في خراب يتطلب إصلاحه جهد سنوات طويلة.
وفي مصر، فإن المعروف أن الدور الذي قامت به القوات المسلحة هو الذي حمى
ثورة ميدان التحرير، وهو الذي عزز هذه الثورة التي كانت معرضة لبطش
الأجهزة بلا حدود، وهو الذي أجبر حسني مبارك على تقديم استقالته وعلى
الرحيل، وهو الذي بقي يرافق انتفاضة الشعب المصري، وجنبها كل احتمالات
السقوط والفشل، والتي لولا سهر المجلس العسكري ومتابعته المتواصلة لدقائق
الأمور لما كان بالإمكان أن تصل الثورة إلى ما وصلت إليه في ظل ضعف قوى
المعارضة، وبسبب خلافاتها المستفحلة، وعدم قدرتها على الالتفاف حول برنامج
وطني يجمع الجميع.
وحقيقة، حتى لا يظلم «الجيش العربي السوري» أكثر من اللزوم، أن التجربة
في سوريا تختلف كثيرا على هذا الصعيد عن التجربتين التونسية والمصرية،
وأيضا عن أي تجارب عربية أخرى، إذ باسم «الحزب القائد»، أي حزب البعث، جرت
غربلة هذا الجيش، وبخاصة بعد وصول حافظ الأسد إلى الحكم والسلطة في عام
1970، على أساس الولاء له ولتحالفه العائلي، وتم إقصاء الضباط المشكوك في
ولائهم حتى من أبناء الطائفة العلوية، كما تم تحويل هذا الجيش من جيش موحد
يقف على أرضية وطنية واحدة إلى جيشين: الأول جيش النخبة التي ولاؤها للنظام
فقط والتي تقوم عقيدتها العسكرية على أساس أن هذا النظام مقدم على الشعب
وعلى الوطن، وبالطبع أيضا على الحزب، وجيش الكثرة المهملة الذي جرى حجزه في
المعسكرات النائية، وتم سحب حتى الأسلحة الفردية منه وتعطيل كل آلياته منذ
أن بدأت هذه التطورات العاصفة قبل سنة وأكثر.
لقد خلق حافظ الأسد، الذي لجأ إلى تصفية كل مجموعات محمد عمران وكل
مجموعات صلاح جديد وكل المجموعات المشكوك في ولائها ليس للوطن والشعب وإنما
له شخصيا ولعائلته وأبنائه، ما يسمى بـ«الدائرة المغلقة» في هذا الجيش،
بحيث أصبح كل ضابط ومنذ لحظة التحاقه بإحدى الكليات العسكرية تحت الرقابة
الأمنية الحثيثة وعلى مدار الساعة، وكل الوقت، ولذلك ومن أجل هذه المهمة
أصبح هناك نحو عشرين جهازا استخباريا، من بينها جهاز استخبارات القوات
الجوية الذي هو صاحب الباع الطويل الآن، كما يقال، في قمع الثورة السورية.
لكن ورغم كل هذا، فإن ما يعرفه المتابعون للوضع السوري منذ انقلاب حافظ
الأسد على رفاقه في عام 1970 ووضعهم في السجون لسنوات طويلة أنه كانت هناك
محاولات انقلابية عدة تم إحباطها بقسوة لا حدود لها، من بينها ما قام به
ضباط من الموالين لوزير الدفاع السابق رئيس اللجنة العسكرية التي كانت
تشكلت في مصر في أيام الوحدة المصرية – السورية محمد عمران الذي تم اغتياله
في طرابلس في الشمال اللبناني في بدايات سبعينات القرن الماضي، ومن بينها
ما قام به ضابط من الموالين للواء صلاح جديد الذي وضع بعد «الحركة
التصحيحية» في سجن المزة المعروف إلى أن مات وقضى نحبه مثله مثل رئيس
الجمهورية السابق نور الدين الأتاسي وآخرين من القيادات الحزبية والحكومية.
هذا في زمن حافظ الأسد، الذي واجه محاولة شقيقه رفعت الانقلابية في عام
1984 بأقسى مما واجه به المحاولات السابقة، أما في زمن ابنه الرئيس الحالي
بشار الأسد فإن أخطر ما تعرض له هو المحاولة التي قام بها غازي كنعان بعد
سحبه من لبنان على أثر اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري التي
يقال: إنها كانت محاولة جدية لكنها سحقت بعنف وقوة وجرى إعدام صاحبها، أي
غازي كنعان، رميا بالرصاص في مكتبه، وصدر بلاغ عن أنه انتحر لأسباب شخصية،
وهذا ما كان حدث مع رئيس مكتب الأمن القومي الأسبق عبد الكريم الجندي في
عام 1968، وكان يومها الأسد الأب وزيرا للدفاع، وكانت قد تمت له السيطرة
على كل شيء في الدولة بعد انقلابه الصامت في هذا العام نفسه.
والآن، وفي ضوء هذا كله، فهل لا يزال هناك أمل في أن يأتي الانقلاب
الإنقاذي، الذي كان متوقعا منذ لحظة انفجار هذه الأحداث قبل عام ونيف، وإن
متأخرا وفي اللحظة الأخيرة؟!
يتحدث بعض كبار المسؤولين السابقين من مرحلة ما قبل حافظ الأسد عن أنه
رغم اعتقال المئات من الضباط خلال كل شهور العام الماضي، ورغم عمليات
«التفكيك» التي بقيت تواصلها الأجهزة الأمنية المتعددة في كل الوحدات
العسكرية على مدى الثلاثة عشر شهرا الأخيرة، فإن هناك عمليات استقطاب تتم
بصورة سرية حتى في «القطاعات» التي تعتبر مطلقة الولاء، مثل الفرقة الرابعة
والحرس الجمهوري، وخاصة بين أبناء الطائفة العلوية الذين باتوا يشعرون بأن
الأوضاع لم تعد تطاق، وأن طائفتهم ستكون هي الضحية إذا بقي هذا النظام
مستمرا في مواجهة الشعب السوري بكل هذه المذابح التي غدت تشمل البلاد كلها،
وبالتالي فإنه لا بد من التحرك ووضع حد لكل هذا الذي يجري، وإن كان في
اللحظة الأخيرة.
صالح القلاب