كالعادة.. كنا مستيقظين حتى الصباح في حالة استنفار كامل لرفع الأخبار
وتصوير مقاطع القصف والدمار والجرحى والشهداء. قبل أيام من قصف المكتب وصلت
المسنَّة ماري كولفن وباول الملقب بـ “أبو ماكس” وخافيير إلى حي بابا عمرو
بعد أن عبرا ليلاً النفق الذي يتجاوز طوله 3700 مترًا وارتفاعه 140 سم
تقريبًا.. إنه شاق جدًا لشاب، فكيف لماري المسنة؟
عاش هؤلاء الصحفيين معنا أيام القصف وما مرّ علينا من مرارة الأيام في
تلك الحقبة العصيبة، وزاروا الملاجئ والجرحى في المستشفيات الميدانية،
وكانوا يعزوننا بشهدائنا، وينقلون الأحداث لحظة بلحظة عند وقوعها عبر شبكة
الإنترنت. وبعد مرور يومين على دخولهم نصحناهم بأن يغادروا الحي، لأن الوضع
أصبح خطيرًا جدًا بسبب اشتداد وتيرة القصف، فلم يعد هناك أي مكان بمأمن من
الصواريخ وقذائف الهاون التي أصبحت تتساقط مثل المطر تنشر الدمار الرهيب
من حولنا.
وفعلاً، فقد غادر الصحفيون ماري ورفاقها الحي عن طريق النفق، وبعد مرور
أيام تفاجأنا أنهم عادوا وقالوا لنا: إننا لم ننهِ مهمتنا بعد، وعدنا
لنكملها. وفي الليلة الأخيرة لماري كولفن انضم إليهم فريق ثانٍ الساعة
الرابعة فجرًا، هم إيدت وريمي أوشليك ومخرج تلفزيوني من دمشق. ولم يكن هناك
إلا غرفتان: الأولى صغيرة، والثانية كبيرة نوعًا ما، وهي القريبة من باب
المنزل، وخلد جميع الصحفيين إلى النوم موزعين في الغرفتين، ما عدا بعض
أعضاء المكتب الإعلامي كي ينفذوا العمل اليومي المعتاد، من تفقُّد كاميرا
البث المباشر وغير ذلك من المهام.
جاء الصباح هادئًا نسبيًا، كانت وتيرة القصف هادئة نوعًا ما، ومع حلول
الساعة السابعة والنصف صباحًا جاءني شاب من شباب الحي وأعطاني عددًا من
الفيديوهات كان قد صورها، ومنها فيديو لشهيد الحقيقة رامي السيد في آخر
لحظاته عندما كان الدكتور محمد يقول له: “رامي لا تنام.. رامي.. رامي..
رامي”. وبدأ القصف يشتد في هذا الوقت، وطلبت من هذه الشاب ألا يغادر، خوفًا
على حياته فأجابني قائلاً: “ما بيصير غير يللي الله كاتبه”. ولم أكن أدري
أن مغادرته المكتب كانت نجاة له من صواريخ الغدر الأسدية وبداية عمر جديد.
وبعد خروجه بدقائق سقط صاروخان مدمران على سطح مبنى المكتب، فاستيقظ
جميع الصحفيين ينتابهم الخوف والهلع من شدة الانفجار، وفي هذه الأثناء كنت
أجري مكالمة عن طريق برنامج “السكايب” مع عمر شاكر، أحد أعضاء المكتب
الإعلامي، كان بمهمة خارج الحي وبدأ بدوره بتسجيل المكالمة. فتم الاتفاق
على إخلاء المكتب إلى الجهة المقابلة بشكل ثنائي بما أن مصدر الصواريخ كان
من الجهة المقابلة أي من جهة السكن الشبابي. وبدأ الصحفيون بجمع أغراضهم،
فقلنا لهم: هيا غادروا المكان واتركوا كل شيء، ولكنهم لم يستمعوا لنا
فتأخروا قليلاً بجمع أغراضهم ولبس خوذهم! وكانت الانفجارت مستمرة بالقرب من
المكتب.
كان أول الخارجين خافيير برفقة مدير المكتب إلى الجهة المقابلة، حيث
مروا بسلام ومن ثم تبعتهم ماري كولفن وريمي أوشليك، وما إن وصلوا إلى باب
المسكن الذي يفصله عن باب المبنى عدة أمتار لا تتجاوز 4 أمتار، سقط صاروخ
الإجرام بشكل غير متوقع على رصيف باب المبنى تمامًا! يرجح أن مصدره طائرة
مروحية أو حربية، حيث أن مدخل البناء مطل على شارع ضيق محاط بمبان ذات
الثلاث طوابق أو الأربع. إن سقوط الصاروخ على باب المبنى أدى إلى حفرة بعمق
المتر ونصف وقطر المترين، وأدى أيضًا إلى خلع الباب من جهة الصحفيين
مصطدمًا بهم مع شظايا الصاروخ وقِطَع الحجارة المتناثرة من الحائط والرصيف،
وأيضًا باب المسكن انخلع من مكانه والدرج ودخلت شظايا الصاروخ من باب
الغرفة ذي الحجم الكبير، الذي كان مكانه بالثلث البعيد عن باب المسكن، أي
مكان وقوف إيدت وأبو ماكس واثنين من أعضاء المكتب الإعلامي، وهو ما أدى إلى
إصابتهم جميعًا.
في هذه الأثناء غشيت عيناي. والمكان صار ضبابيًا، والغبار كان يملأ
المكان وحجبت عني الرؤية، وكان الخوف سيد الموقف وبقيت جالسًا مذهولاً مما
حدث، وكنت أسمع أصوات الصحفيين يتأوهون، وكان عمر شاكر يتابع تسجيل
المكالمة، وكان يقول لي: ماذا حدث؟ ثم نهضت وكان إلى جانبي زميلي أبو بكر
بعد أن بدأت الغشاوة تزول شيئًا فشيئًا، وحاولت الاتجاه إلى باب المسكن،
بداية لم أستطع من كثافة الغبار والأشياء التي اصطدمت بها من حطام الأبواب
والنوافذ وأشياء أخرى من أثاث المكتب التي توزعت في المكان، وانتظرت قليلاً
إلى أن زال الغبار بشكل جزئي سمح لي بالرؤية، وكنت أول من رأى جثتَي ماري
وريمي، وأكملت طريقي إلى الجهة المقابلة ولحق بي اثنان من أعضاء المكتب،
أحدهما كان مصابًا ولكن إصابته لم تمنعه من الحركة، وفي هذه اللحظة كان أبو
بكر يحاول نقل أبو ماكس المصاب مترددًا: أيخرجه أم يدخله إلى غرفة صغيرة
كانت في داخل المسكن أم ينجو بنفسه؟ وما كان من أبو ماكس إلا أن يريحه
بقوله: اتركني وانجُ بنفسك. حقيقة، هذا القول أراح أبا بكر.. ولكن بقتل
الخوف الذي كان يسيطر عليه، قام بحمله إلى الغرفة الصغيرة التي أُخليَ
إليها بقية الصحفيين.
كانت أصوات انطلاق قذائف الهاون تُسمَع بوضوح، اتصل أحد الشباب بأحد
أفراد الجيش الحر حيث كانت مهمتهم مقتصرة على إسعاف الجرحى في تلك الأثناء،
أبو بكر ساعد صديقتنا إيديت وحملها نحو سيارة الإسعاف التي كان يقودها أحد
أفراد الجيش الحر، وعند وصوله مع بقية المصابين للمشفى الميداني، لقيهم
الأبطال الدكتور محمد المحمد والدكتور علي الحزوري وأدخلوهم غرفة الإسعاف،
لم نكن نعرف كيف تم تحديد موقعنا، ومباشرة قمنا بإزالة بطاقات السيم كارد
من موبايلات الصحفيين، تفاديًا من قصف جديد لمكان المشفى.
ومن داخل المبنى مباشرة بادر أحد المصورين الأبطال بشجاعة مطلقة بتصوير
فيديو لجثتي ماري وريمي وحجم الدمار، وأيضًا من خلال البث المباشر عن طريق
برنامج السكايب إلى بعض القنوات. طبعًا الحمد لله أن جهاز الإنترنت الفضائي
لم يُصَب بأذى، سبحان الله! على الرغم من كلِّ الصواريخ التي سقطت على سطح
المبنى والأسطح الأخرى الملاصقة له، وقد ساعدني ذلك على رفع الفيديو من
الجهة المقابلة عن طريق جهاز “الوايرلس” الذي يوزع خدمة الإنترنت على مساحة
كبيرة.
كالعادة كان الناشط البطل خالد أبو صلاح مكان الحدث، ولا يمكنني أن أنسى
دموع خالد أبو صلاح عندما وَجَدَنا أحياء برحمة من الله تعالى. ثم قام
خالد أبو صلاح بإعداد تقرير مصور عن الحادثة المؤلمة بكاميرا أحد المصورين
الأبطال الملقب “تشي غيفارا”. لقد عادت ماري المسنة طويلة القامة من النفق
ذاته.. لن أنسى صعوبة المرور من ذلك النفق الذي خرجَتْ منه، وهو الذي
أرهقني أنا الشاب ذو الـ 29 عامًا.. لقد عادت كي تكمل مهمتها، ولكنها لم
تكن تتوقع أن يستهدف النظام الإجرامي المكتب الإعلامي، ويكون هو اّخر مكان
تزوره، كانت ماري تتميز بابتسامة حنونة كابتسامة الجدة لحفيدها الصغير.
مضى هذا اليوم مريرًا قاسيًا، خسرنا فيه أصدقاء جددًا من الصحفيين الذين
قَدِموا لنقل الحقيقة ونقل إجرام الأسد إلى العالم. لقد مضى دون أن يتحرك
العالم لفعل شيء ينقذنا أو ينقذ بقية الصحفيين الجرحى، ولم يستطيعوا حتى
فرض دخول الصليب الأحمر إلى الحي الذي كان مطلبًا للصحفيين الذين رفضوا أن
يخرجوا مع منظمة الهلال الأحمر التي يسيطر عليها النظام السوري منزوع
الشرعية من قِبَل الشعب السوري. وأخير تم إخلاء الجرحى من قِبَل أفراد
المكتب الإعلامي وعناصر من ثوار بابا عمرو الأبطال وكتيبة الفاروق إلى
لبنان، ومن ثم تم إجلاء إيدت إلى فرنسا ليكون من أوائل مستقبليها الرئيس
الفرنسي ساركوزي، ليظهر على الإعلام ويشكر روسيا على مساعدتها لفرنسا في
أجلاء الصحفيين.
ولكن السؤال المهم هنا هو: ماذا فعل ساركوزي للصحفيين حتى تفعل روسيا؟
لعل ما أثار دهشتي من هؤلاء الأصدقاء هي صدقهم وشهامتهم، فكان بالإمكان
لويليام دانييل وخافيير السفر دون الباقين المصابين، لكنهم أبوا ذلك
وأرادوا الخروج معًا جميعًا إما أحياء أو شهداء. والخوف كان غالبًا على
المخرج السينمائي الذي كان معنا وأصيب بجروح طفيفة، فخرج هاربًا تاركًا
وراء ظهره أصدقاء درب دخل معهم لبابا عمرو.
كان أبو بكر وحسين وأبو رائد من الشباب الذين خرجوا مع الصحفيين الأجانب
وساعدوا بنقلهم في النفق المظلم، وتمكن أبو بكر وحسين من إخراج باول
المصاب وظنًا منهم أن أبو رائد -مع المصابة إيديث بتلك الإصابة البالغة-
وراءهم. النفق كان قد أصيب بعدة إصابات وتضيق الفتحة أحيانًا إلى الثلاثين
سنتيمترًا فقط، فكانت عملية الإجلاء صعبة جدًا. خرج أبو بكر وحسين مع بقية
الشباب، منتظرين أبو رائد ومن معه والمصابة إيديث وويليام وخافيير..
واستطاعوا إجلاء عدد من المصابين والجرحى بالإضافة للصحفي باول في سيارة
لنقلهم حتى الحدود اللبنانية.
في هذه الأثناء كان علينا الخروج بشكل اضطراري، لوجود كمين قد نصبه
الجيش الأسدي عند آخر الفتحة، كان أولئك الشباب هم آخر من خرج من النفق
بسلام.. انتقل بعض من الشباب لمكان آخر، وتم تحصين الفتحة من قبل الجيش
الحر، وحصل اشتباك بينهم وبين الجيش الأسدي عند الفتحة، وذلك أثناء خروج
الصحفي خافيير الذي لم يستطع حمل أي شيء من أغراضه أو كاميراته. استطاع
خافيير أن يساعد رجلين من الجيش الحر كانا قد أصيبا بطلق ناري، كان ذلك
الموقف أنبل ما رأيت في حياتي. لم نستطع الحصول على أية معلومات عن خافيير
إلا بعد أربع وعشرين ساعة من البحث عنه، وأخيرًا وجدناه سالمًا كالأبطال
منقذًا لرجالنا. عندما دخل خافيير علينا ابتسم وقال إذا كان الإرهابيون
أنتم فأنا الإرهابي الأول في سوريا، وإن كان السلفيون أنتم أيها الأبطال
فأنا شيخ السلفيين، نعم ما رأيت بكم من شجاعة يا ثوار سوريا، هذه كانت
كلمات خافيير قبل أن يطمئن زوجته مونيكا عليه وعلى حالنا.
بعد تلك الليلة الدامية التي راح فيها شهداء وجرحى من الجيش الحر في
سبيل الحفاظ على حياة الصحفيين، أولئك الذين طالما أراد النظام السوري
قتلهم لإخفاء الحقيقة عن العالم، ونفخر بهم وبأننا أوصلناهم أحياء، قام
النظام السوري بنسف النفق بالكامل حتى لم يعد صالحًا بتاتًا للحركة فيه..
قصف المكتب الاعلامي لأول مرة
قصف المكتب الإعلامي بوجود الصحفيين