ينتظر مقاتلون سوريون من أمثال سعيد وأيمن في حديقة وارفة الظل لاشجار الصنوبر
على بعد دقائق فقط من قريتهم لكن مرت شهور دون أن يزور كل منهم أسرته.
انهم متمسكون بقضية هدمت كل شئ سوى اصرارهم على المضي في المعركة.
ويعمل مقاتلون على الجبهة في الانتفاضة المستمرة منذ عام ضد الرئيس
السوري بشار الاسد بهدوء على تأمين مواقعهم على الحدود بين سوريا وتركيا
حيث يمكن أن يقدموا امدادات وأيضا محاربة القوات السورية التي تقترب للغاية
من ديارهم.
ومع كونهم يعانون نقصا في الغذاء وفي السلاح في مواجهة جيش هائل فان
اكبر عزاء لهم وكذلك أكبر مصدر للمعاناة في الوقت ذاته هو أن ديارهم قريبة
للغاية.
قال سعيد وهو شاب يبلغ من العمر 27 عاما بلا عمل “في بعض الاحيان نعمل
قرب منزلي مباشرة لكن لا يمكنني دخوله. هل يمكنكم تخيل الوقوف خارج المنزل
مباشرة ولا يمكنني رؤية أسرتي.” وهو يحرس قاعدته الصغيرة وهي عبارة عن
خيمتين على منحدر جبلي موحل مرتديا حذاء أبيض به ثقوب كثيرة في النعل.
هؤلاء المقاتلون هم السر المفتوح لسكان المنطقة. اذ لا يرى بصورة أو
بأخرى فيما يبدو الدوريات الحدودية التركية على قمم التلال والمزارعون
الذين يحرثون الحقول المجاورة المقاتلين النحيلين المتسخين من أمثال سعيد
الذين يتسللون بامتداد الممرات الجبلية حاملين حقائب ضخمة.
وطلب المقاتلون عدم الكشف عن موقع قاعدتهم حرصا على سلامتهم وعلى السكان المحليين الذين يساعدونهم.
ويتظاهر سكان القرى السورية المجاورة بالجهل عندما يختفي أبناؤهم. وعمل
بعض المقاتلين من امثال أيمن وهو منشق عن الجيش السوري على تزييف وفاتهم
وهم الان يختبئون على بعد كيلومترات فقط وينصبون مواقع للمقاتلين بامتداد
الحدود.
انضم سرا الى مجموعة من المقاتلين على الحدود قبل عدة أشهر. وتمتلئ
خيامهم الهزيلة المصنوعة من نسيج التاربولين الازرق الواقي بحشايا ممزقة
وأوان قذرة. كما أن هناك دلاء متناثرة لجمع مياه الامطار للشرب.
قال أيمن قوي البنية البالغ من العمر 28 عاما وقد أطلق لحية خفيفة “يعلم
أبواي أنني على قيد الحياة.. هذا هو المهم. جيراني يعتقدون أن المقاتلين
قتلوني.”
ويقول خالد حمود وهو احد قادتهم وهو مقدم منشق عن الجيش ان الحدود
بالنسبة للمقاتلين عبارة عن حزام ممتد يسيطرون فيه على نقاط متغيرة.
وقال لفريق من رويترز يزور قاعدتهم “لدينا الكثير من النقاط مثل هذه
بامتداد الجانب السوري من الحدود.. من اللاذقية الى قرب حلب. الفكرة هي أن
يكون هناك دائما نقطة على الحدود يمكننا من خلالها الرد على هجمات اذا
احتجنا لذلك.”
وأضاف “هناك المزيد من المقاتلين الان وهم يختبئون في الاشجار على الجبل. يمكن أن يرونكم لكنكم لا يمكنكم أن تروهم.”
واختار المقاتلون مواقع تبعد دقائق عن الاراضي التركية في حالة نفاد الذخيرة واضطرارهم للفرار.
وهم يستخدمون أساليب التمويه اذ يشتبكون مع قوات سورية في جزء من الحدود
لاخراج القوات من منطقة مجاورة حتى يمكن للمقاتلين ان ينقلوا بحرية أشخاصا
أو امدادات. وتمثل النقاط الجبلية الوعرة على الحدود مثل تلك التي تكسوها
الاشجار أسهل مناطق يمكن الدفاع عنها.
لكن قاعدتهم التي تبعد كيلومترات محدودة فقط من نقطة تابعة للجيش ليست
بمنأى عن الاختراق. وقد تم شق خندق حول هذا المعسكر المتداعي كوسيلة دفاع
أخيرة في مواجهة أي هجوم.
وعندما وصل حمود الى القاعدة الجبلية الصغيرة تحدث أحد المقاتلين هامسا عن معركة ضارية دارت قبل أسبوع.
ويقول سعيد وقد غطى وجهه بوشاح أسود “أحد رجالنا استشهد هنا في هجوم قبل مدة.” وهو يقول انه رأى خمسة أشخاص يقتلون في قاعدته.
وتعرض كل المقاتلين تقريبا في هذه القاعدة للنيران. وما زال رجل يرتدي سروال الجينز ذاته الذي تمزق اثر اصابته بشظية كما يقول هو.
ويمسك مقاتل يقول ان اسمه محمد ببندقية بيده اليمنى ويستخدم منديلا كدعامة لذراعه التي تعلوها ندبات تدل على جرح حديث.
انشق عن الجيش قبل أربعة أشهر وجاء للقتال قرب أسرته وقرب منزل خطيبته
التي ما زالت موجودة في قريته على الجانب الاخر من الجبل. وشأنه شأن أغلب
المقاتلين فهو يخشى الاتصال بهم خشية اعتقالهم أو قتلهم.
وقال الشاب البالغ من العمر 23 عاما “لا أعلم شيئا عن أسرتي أو حالهم. أنا خائف جدا لدرجة تجعلني لا أتصل بهم.”
ومضى يقول “تصلني أخبار عن خطيبتي من حين لاخر. لم أرها منذ ثمانية أشهر.”
ويعني القتال المتقطع بين المقاتلين والجيش على الحدود أن التوترات
متصاعدة وكثيرا ما يعجز سكان القرى التركية المجاورة المتعاطفون عن توصيل
الطعام اليهم.
ويقول محمد “في تلك الايام بالطبع ليس لدينا الكثير لنأكله. لكننا نعيش.. يوما بيوم.”
بعد ذلك يحتمي المقاتلون داخل الخيام من الامطار وليس معهم من زاد سوى
البصل من قطعة أرض وحيدة زرعوها ودلو من البطاطا (البطاطس) الرطبة.
ومن بين كل المقاتلين في هذه القاعدة الحدودية فان سعيد فقط هو الذي لم
يصب بضرر من القتال. وهو يعلم جيدا المسارات الجبلية نظرا لعمله كمهرب
عندما لم يجد وظيفة.
وقال “هناك نقطة تفتيش تابعة للجيش بالقرب منا وفي بعض الاحيان يطلقون
النار علينا. أعتقد أن الهدف من ذلك أساسا هو استفزازنا… عندما يطلقون
النار نختبئ عادة. لا نتوجه في العادة الى تركيا لاننا لا يمكننا عبور
الحدود ببنادقنا ولا نريد أن نتركها هنا.”
لكنه يقول دون أن يبدو عليه أي علامات للتأثر انه عندما يشتد القتال وتنفد الذخيرة يتعين على الرجال الفرار في نهاية الامر.
ومن السهل معرفة المصير الذي ال اليه الكثير منهم.. اذ ان هناك شبانا
ملتحين يمسكون عكازات أو يضعون رقعا على العين أو تكسو أصابعهم غرز جراحية
يتجمعون كثيرا داخل خيام بيضاء في مخيمات اللاجئين التي يعج بها الجانب
التركي من الحدود.
ويقول سعيد انه يزور مخيمات اللاجئين مرتين في الشهر للاستراحة وللاكل بينما يزور أقاربه الذين فروا من القتال في سوريا.
وفي أحد المخيمات يقول المقاتل يوسف البالغ من العمر 22 عاما انه وخمسة
من أصدقائه كبروا معا منذ الطفولة وانضموا معا لصفوف الجيش السوري الحر
العام الماضي وهم يستريحون بينما ينتظرون اقتراض المال من أقاربهم أو
معارفهم في الخارج لشراء الرصاص اللازم للقتال.
وهو يصر قائلا “لسنا في حاجة الى الكثير من الاسلحة… هناك ما يكفي لكل
الوحدة تقريبا. وبمجرد استشهاد شخص واحد في القتال يمكن لشخص اخر أخذ
سلاحه.”
وداخل المخيم يخوض صبية صغار معاركهم اليومية مع الامن التركي لمحاولتهم
احداث فتحات في الاسيجة المحيطة بالمخيم لتهريب المقاتلين وامداداتهم
للداخل والخارج.
وفي نقطته الحدودية على بعد كيلومترات يقول المقاتل محمد انه لا يشعر
بعد بالاحباط. وهو يتمنى فقط أن تنتظره خطيبته القريبة مكانا لكنها بعيدة
المنال.
وضحك محمد قائلا وهو يلف الخاتم الفضي “أتمنى ألا تكون غاضبة. أعتقد أنها متفهمة… ان شاء الله سنتزوج بمجرد أن يسقط النظام.”