أبريل (نيسان) شهر الأكاذيب. لا نهاية لأكاذيب هذا النظام. فهو يتنفس
أكاذيب. تصريحاته وصحافته أكاذيب. وعوده والتزاماته أكاذيب. سلامه أكاذيب.
حروبه محاطة بحرس من الأكاذيب.
نظام بشار يعوم على بحر من الأكاذيب. ما أصعب أن تعيش العمر كله على
أوهام. وأضاليل. وأكاذيب. آخر الأكاذيب المتكررة نصر مزعوم بسحق الانتفاضة
في المدن الثائرة. رسم بشار علامة النصر بأصبعيه. صدق العالم أكذوبة أبريل.
حتى أوباما كفّ عن مطالبة بشار بالتنحي. بل حتى قادة الانتفاضة صدقوا أنهم
هُزموا!
الواقع أن النظام في غاية الإحراج: إن خالف عادته في الكذب. وصدق مع
السمسار الدولي أنان. فسحب دباباته وشبيحته من المدن، فستجتاحها مرة أخرى
مظاهرات الاحتجاج السلمية المطالبة برحيل بشار ونظامه الطائفي. إن كذب على
أنان. وواصل القصف، فسيواجه الفخاخ التي سينصبها الثوار المسلحون بمهارة
أكثر إتقانا.
بعد مأساة بابا عمرو، كنت أول المعترضين على اعتصام المسلحين بين
المدنيين في الأحياء والمدن. غباء كبير أن ينتظر مسلح ببندقية كلاشنيكوف
مجيء جيش مسلح بدبابة. ومدفع. وصاروخ. وبرغبة لا إنسانية في الانتقام.
والقتل. والتعذيب.
لعل المجازر التي ارتكبها جيش العائلة، وجيش الطائفة، كافية لإلهام
القادة والضباط المنشقين بتغيير تكتيك المواجهة. بإتقان حرب الكر والفر.
حرب الاستنزاف. حرب الأشباح. حرب المفاجآت السريعة والخفيفة لجيش مترهل
بطيء الحركة. وحواجز سهل صيدها.
العقيد رياض الأسعد الذي يقود مسلحيه من داخل تركيا ليس بالقائد الفعلي
للجيش السوري الحر. معظم مقاتليه من المتطوعين المدنيين في ريف ومدن محافظة
إدلب المجاورة. هذه المحافظة معقل تقليدي «للإخوان المسلمين»، منذ المذبحة
التي تعرضوا لها في حماه وإدلب، قبل ثلاثين سنة.
أما الجيش السوري الحر، فمعظمه ثُلَل مسلحة مؤلفة من مجندي الخدمة
العسكرية في الجيش النظامي. هؤلاء شهود على تصميم النظام على قتل مواطنيه.
وكان انشقاقهم نتيجة لتغلب الحافز الوطني والإنساني لديهم، على واجب
الانضباط العسكري.
ما زال الانشقاق فرديا. لم يأخذ، بعد، طابعا جماعيا، ليحدث فراغا وخللا
داخل فرق الجيش، وليؤدي في النهاية إلى شل قدرته على إسناد عسكر الكتائب
العلوية التي تتحمل عبء المواجهة المسلحة ضد الانتفاضة، والتعامل الوحشي مع
المدنيين المسالمين.
مع الأسف، لم تعرف القيادات السياسية للانتفاضة، والدول الشقيقة المانحة
والمستعدة للتمويل، إلى الآن، كيف تضع وتنظم مخططا موحدا، لتشجيع انشقاق
هؤلاء المجندين بالألوف وعشرات الألوف، بتأمينهم سلفا. وتقديم مرتبات شهرية
ثابتة لهم. وضمان علاجهم. وحياة كريمة لأهاليهم، إن كتبت لهم الشهادة.
أستغرب حقا هذه المتاهة العربية والدولية المحيرة حول تسليح الانتفاضة
السورية. نعم، لا حاجة لتسليح المتطوعين المدنيين المتحزبين والمسيسين
لصالح آيديولوجيات عنفية أو غير ديمقراطية. يكفي الرهان على تسليح عشرات
ألوف المجندين المنشقين. فهم مستعدون للقتال، إذا ما تهيأت لهم الضمانات
المذكورة. بالإضافة إلى كونهم في مقتبل العمر، ولم تتهيأ لهم الفرصة للتسيس
والتحزب. وقد تعلموا الانضباط في الجيش. والأرجح، أنهم مستعدون لتسليم
سلاحهم لجيش جديد، بعد سقوط النظام الحالي.
هل يمكن فتح حوار سياسي بين قوى الانتفاضة والنظام، كما تقترح روسيا
والوسيط الدولي أنان؟ من الصعب إجراء حوار بين معارضة وطنية ونظام أدمن قتل
مواطنيه. لكن إذا رجّحت الدول العربية والوساطة الدولية الحوار، بعدما
أجلست روسيا وإيران بشار على قدميه مرة أخرى، فيمكن الإقدام على تجربة
الحوار، مع إيماني بقول شكسبير في مسرحية «ماكبث» بأن كل مياه البحار لا
تكفي لغسل يدي حاكم طاغية.
الحوار حول ماذا؟ إذا كان الحوار حول إقامة حكومة وفاقية. وانتخابات
حرة. وأحزاب مستقلة. فهو حوار من قبيل إضاعة الوقت. لأن كل ذلك من المبادئ
البديهية لأي ديمقراطية. الحوار الحقيقي المطلوب يجب أن يبدأ مباشرة حول
فصل النظام عن الدولة، بإنهاء سيطرة الطائفة العلوية على الجيش العامل.
وتطهير الأجهزة الأمنية من ضباط العيلة الحاكمة. وإصلاح الإدارة الحكومية
بإقصاء الأطر الطائفية والحزبية الفاسدة. وإخضاع هذه الإدارة للمحاسبة.
ولرقابة صحافة حرة.
سوريا بحاجة إلى بناء جيش وطني جديد. لا بعث. لا إخوان. لا سوريين
قوميين. لا شيوعيين، فيه. جيش مُحيّد سياسيا. وحزبيا. وفكريا. وخاضع لسلطة
وزير مدني، في حكومة منبثقة من سلطة تشريعية منتخبة بحرية تامة.
سوريا بحاجة إلى أجهزة أمنية تسهر على الأمن الوطني. لا على أمن نظام
حاكم قادر على ملئها بأقارب العيلة، من أبناء الأخوال والأعمام، ضباطا
لإدارتها، وجلادين في أقبيتها.
الأجهزة الأمنية العربية ليست مزرعة لأنظمة البعث. الإخوان. فتح. حماس.
الأجهزة الأمنية في الدولة الديمقراطية يتعاقب على إدارتها ساسة اليمين
ووزراء اليسار، غير مخولين بفرض الولاء عليها لأحزابهم. ولاء الأجهزة أولا
وأخيرا للشعب. للوطن. للقانون. لا شبيحة رديفة لأجهزة الشرطة والأمن.
التحقيق والاعتقال محدد بأيام قليلة. فإما تسليم المتهم إلى القضاء. وإما
الإفراج عنه فورا. مع تسليم المسجون إلى قضاة ذوي ضمير. لا إلى ذئاب في
إهاب جلادين. فالبناء أولا للمدرسة وليس للسجون، كما في دولة بشارستان.
هل الساحر أنان قادر على إعادة السوريين إلى بيت الطاعة؟
فائدة الدبلوماسية تنصب عادة فوق الخريطة الميدانية والسياسية. مع تخوف
تركيا. وانشغال أميركا أوباما، وفرنسا ساركوزي بالانتخابات الرئاسية. ومع
عجز الشرطي الدولي (مجلس الأمن)، لم يبق «في الميدان غير حْديدان» كما يقول
المثل الشعبي السوري. لم يبق أمام أنان سوى الاتكاء على العصا الروسية/
الصينية، لتأديب السوريين.
الصين مدمنة إلى حد الثمالة على نفط إيران سمسارة بشار الإقليمية. روسيا
توبخ الأسد. لكن لا تستغني عنه. سلحت أجهزته الأمنية بأسلحة خاصة بقتال
المدن. في مقدمتها بنادق متطورة للقناصة قادرة على قنص المدنيين السوريين،
من ثقوب الأبواب والنوافذ، وعلى إطلاق رصاصتين على سمير جعجع من مسافة
أربعة كيلومترات. جعجع محظوظ. نجا من الاغتيال في باحة منزله في معقله
الجبلي (معراب) في مرتفعات لبنان.
ما أشبه تركيا أردوغان بالزوج الذي اختُطفت امرأته. ورسم الخاطفون له
خطا أحمر لا يتجاوزه. عندما عادت المرأة من الاغتصاب، وبخت الرجل على عدم
«التدخل» لإنقاذها. صرح الزوج أمام الصحافيين بأنه تجاوز الخط الأحمر مرات
ومرات، نكاية بالخاطفين.
أحرق الشبيحة أطنان الأدوية والغذاء التي سلمها الصليب الأحمر الدولي
للهلال الأحمر السوري، كإغاثة إنسانية لعشرات ألوف السوريين المهاجرين
والنازحين، فيما كان مدير الصليب الدولي يحظى بلقاء البليد الوليد بن
«المعلم». سوريا المحترقة. الجائعة. الجريحة. اللاجئة. النازحة. المنهوبة،
تنتظر مراقبي أنان الدوليين، للفصل بينها وبين قوات أتيلا وجنكيز خان.
ثم ماذا؟ آه. أنان مصمم على جمعها مع بشار، على مائدة المصالحة والسلام.
اليوم (الثلاثاء) العاشر من أكاذيب أبريل. انتهى العد التنازلي لساعة
الصفر. ساعة الفضيحة بالالتزام بشروط الوساطة: الانسحاب من المدن. تمرير
الطعام للمحتاجين. الإفراج عن المعتقلين… اليوم عاد وكأن شيئا لم يكن،
وبراءة الأولاد في عينيه.
غسان الإمام