هذا الرجل مسكون بالمشاكسة. فكلما لاح لنا أنه أدرك الهداية
ووضع قدمه على الطريق الصحيح المؤدي إلى التصالح مع جيران العراق، في
الخارج، ومع شركائه، في الداخل، ومع إخوته في الائتلاف، ومع حزبه ذاته،
وحتى مع نفسه، لا يتركنا ننعم طويلا بطعم هذا التفاؤل، فيطلق صاروخا جديدا
يهدم بلحظة طيش عابرة كل بادرة أمل وسلام.
وليس أدعى للاستهجان أكثر من موقفه الثابت من مأساة الشعب
السوري الشقيق، وميله الفطري إلى ترخيص القتل الهمجي المستمر من أكثر من
عام. فهو إضافة إلى انحيازه العجيب لحاكم أحمق وغير شرعي وغير طبيعي ومجرم
حقيقي كبشار الأسد، باعتراف ثلاثة أرباع العالم، يعترض وبإصرار، على أية
نجدة محتملة من أي نوع تأتي لهذا الشعب المظلوم من أي صاحب ضمير وشرف، من
العرب والأجانب، على حد سواء. ليس هذا فقط، بل إنه يروج ويتمنى استمرار
القتل والذبح والحرق والاقتحام والاغتصاب والاعتقال والتجويع والتهجير،
ويبشر ببقاء الديكتاتور وفناء الملايين الثائرة من السوريين التي حزمت
أمرها على استمرار ثورتها حتىا النصر أو الموت.
قبيل مؤتمر القمة العربية أطلق المالكي بالونات دخانية مضللة
أوحت لبعض دول الجوار بأنه تحرر قليلا من نذالة الموقف الإيراني العنصري
الطائفي المعادي لشعوب المنطقة وأمنها واستقرارها، وخاصة صفاقته المعيبة في
التهليل والتصفيق لحمامات الدم في حمص وحماة ودرعا واللاذقية وأدلب ودمشق
وحلب ودير الزور، وإصراره العلني على دعم النظام القاتل، بكل ما أوتي من
قوة غاشمة، مالية وعسكرية وجاسوسية، دون خوف ولا حياء.
ولأن “وِلـد القريَّة كلمن يعرف أخيَّه” فإن العراقيين
الأدرى بحقيقة هذا المالكي وعمق أصوله الطائفية المقيتة حذروا قادة الدول
العربية، قبيل القمة الفاشلة، من تقيته ونفاقه ومراوغاته التي لا تنتهي. لو
كان المالكي مواطنا عاديا لكان من حقه أن يتخذ الموقف الذي يرى، ويحمل
الرأي الذي يريد. ولكنه حين يكون رئيسا لسلطة الدولة العراقية كلها، شعبا
وحكومة، حاضرا ومستقبلا، وممثلا لإرادة الشعب العراقي كله، بعربه وكرده
وتركمانه، بمسلميه ومسيحييه، بشيعته وسنته، فليس من حقه أن يحتكر وحده
اتخاذ المواقف الاستراتيجية الحيوية التي تمس المصالح العليا لهذه الدولة،
وتحدد علاقاتها بدول وشعوب ليست مجاورة وحسب، بل هي داخلة مع الشعب العراقي
في تلاحم وتداخل وتفاعل من مئات السنين، وستبقى إلى ما شاء الله من سنين.
فهل إن موقفه الغريب العجيب الذي أعلنه مؤخرا من المذبحة
السورية يمثل موقف جميع العراقيين، أو على الأقل رأي أكثريتهم؟ وهل استمزج
آراء كتل وأحزاب وتجمعات ونقابات ومنظمات قبل أن يتذاكى ويتنبأ بالمقدر
والمكتوب؟
إليكم نص الخبر التالي:
“أكد المالكي خلال مؤتمر صحافي في بغداد اليوم رفض تسليح
طرفي الأزمة السورية، سواء المعارضة أو النظام، لأن ذلك سيكون بمثابة صبّ
الزيت على النار. مشدداً بالقول إن هذا النظام لن يسقط بالقوة، وقالوا إن
ذلك سيتحقق خلال اسبوعين وقلنا إنه لن يتم ولا بعد سنتين. واشار الى أن
موضوع سوريا كان حاضرًا بقوة في القمة العربية، وقد اكد العراق فيه رفضه
الشديد لتسليح طرفي الأزمة أو التدخل الخارجي في الأزمة، “لأننا نريد تجفيف
منابع الحريق، وهو ما تتضمنه خطة المبعوث الدولي العربي كوفي أنان من أجل
الوصول إلى حل سياسي وسلمي بين النظام والمعارضة، ولكننا نرفض إسقاط النظام
في سوريا بالقوة، لأن ذلك ستكون له تداعيات خطرة على المنطقة، لكننا ندعم
مطالب الشعب السوري في الحرية والديمقراطية والإصلاح”.
“وحول مؤتمر اصدقاء سوريا الذي بدأ اعماله في اسطنبول اليوم،
اشار المالكي الى أن العراق لم يكن يرغب في المشاركة، لكن رئاسته للقمة
حتمت عليه الحضور، حيث سيمثله وكيل وزير الخارجية الذي سيطرح رؤية العراق
هذه في ما يخص الأزمة، والتي تسعى الى تجنيب سوريا التمزق والتشتت”. انتهى
إذن فإن “عدالة” نوري المالكي السورية تقوم على فكرة الحياد
بين القاتل والمقتول، والدعوة إلى عدم تسليح الطرفين، والدعوة إلى حوار
سياسي بين النظام والمعارضة.
وهو يعلم قبل غيره، وأكثر من سواه، بأن النظام مسلح حتى أخمص
قدميه، بكل أنواع السلاح، ويتلقى كل يوم وكل ساعة أطنانا من السلاح من
روسيا وإيران، عبر العراق، وأعدادا متدفقة من المقاتلين والخبراء والشبيحة
الإيرانيين واللبنانيين والعراقيين. وبالتالي فدعوته إلى عدم تسليح النظام
ليست سوى نكتة، ولكن باردة ومخجلة، مقابل شعب أعزل لم يكن له عاصم من جنون
الأسد، لا أمس ولا اليوم مع الأسف الشديد. إلا إذا اعتبر المالكي بنادق
المنشقين من ضباط الجيش وجنوده سلاحا له قيمة في معارك الدمار.
وهو ويعلم، قبل غيره، وأكثر من سواه، أيضا، أن “تجفيف منابع
الحريق” على حد زعمه، حلم إبليس بالجنة. فالحريق مستمر، ولن توقفه سوى قوة
قادرة تلجم روسيا وإيران وتمنعهما من صب الزيت على نيرانه المحرقة، وهي غير
موجودة، ولن توجد في المدى المنظور.
أما فكرة الحوار السياسي بين النظام والمعارضة فهي أيضا نكتة
لا تضحك غير البلهاء. فحين كانت الثورة، في أولى ساعاتها، مجرد كتابات
طباشيرية ساذجة على الجدران دعا فيها صبية صغار إلى إسقاط الأسد، ربما
تأثرا بما شاهدوه على شاشات الفضائيات، لم يجنح النظام إلى سلم ولا إلى
حوار، بل انهمر الرصاص على قلة من متظاهرين من آباء أطفال درعا الذين
اعتقلتهم المخابرات. وطيلة عشرة شهور من سلمية المسيرات الشعبية التي اكتفت
بالأهازيج والدبكات الشعبية والزغاريد كان النظام يصب قنابله وصواريخه،
وينشر شبيحته وقناصته في كل مكان. حتى بلغت به الهمجية أن يستأصل الحناجر
ويقتلع العيون ويذبح الأطفال والنساء بالسكاكين. ومن عام مضى وإلى هذه
الساعة لم تتوقف ثلاثة أرباع العالم عن المناداة والتوسل والحث والإهابة
بالنظام، ولا يكف عن سلوكه الهمجي لايقبل بالحوار، ولا يجيب.
سؤال مشروع للسيد المالكي، هل سقط النظام في العراق وجلس هو على عرش الطاغوت بالحوار الديمقراطي مع صدام حسين؟
وأخيرا، لو جاءت الدعوة إلى “الحل السياسي والسلمي” للمأزق
السوري من مانديلا، مثلا، لكانت أخف وأقل أذية. ولكن حين تجيء من نوري
المالكي الغارق في نرجسيته وميله الفطري إلى الديكتاتورية والعنف والمشاكسة
والعشق الأبدي لخيمة الولي الفقيه فأمر لا يدعو إلى الضحك فقط بل إلى كثير
من البكاء على هذا الوطن وعلى أهله وجيرانه أجمعين.
ابراهيم الزبيدي