لا تزال روسيا تبدي موقفا يزداد تعنتا في الدفاع عن ماكينة القتل النظامية التي تجري في سوريا، ولا تزال تسير على ذات السياسة التي اتبعتها منذ بدء الأزمة؛ دعم غير محدود للأسد ونظامه سياسيا في كافة المحافل الدولية، مع دعم لوجيستي على الأرض، بما يشمله ذلك من تسليح وتدريب لعناصر النظام وكوادره العسكرية والأمنية.

الجديد في خطاب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف هو حديثه عن الطائفية في سوريا، وتبنيه لخطاب نظام الأسد، الذي لا يزال يسعى للتأكيد أنه الحصن الحصين تجاه تفجر العنف الطائفي بين شرائح الشعب السوري، بيد أن الذي يغفله لافروف في هذا السياق هو أن النظام الأسدي يقتل كل معارضيه من شتى الطوائف كل يوم وبالعشرات.

لقد دخلت المفردات الطائفية في المنطقة على خطاب لافروف السياسي، ويكفي التركيز على هذا المقطع من حديثه حول أنه إذا سقط نظام الأسد «فستنبثق رغبة قوية وتمارس ضغوط هائلة من جانب بعض بلدان المنطقة من أجل إقامة نظام سني في سوريا، ولا تراودني أي شكوك بهذا الصدد.. ويقلقنا في هذا الوضع مصير المسيحيين وهناك أقلية أخرى كالأكراد والعلويين وكذلك الدروز.. وفي لبنان.. ستكون الأمور سيئة جدا، لأن البلاد متعددة الطوائف والأقليات القومية.. ونظام الدولة هش جدا. كما أن العراق ستمسه هذه العمليات في أغلب الظن، حيث يهيمن في العراق الآن الشيعة في كافة المناصب القيادية»، «الشرق الأوسط»، الخميس الماضي.

حديث لافروف هنا يشي بأن مواقف روسيا التي يقود دبلوماسيتها تستحضر في مواقفها وقراراتها الأبعاد الطائفية في المنطقة، وهو وعي مطلوب لمن أراد التعامل مع المنطقة بكافة أبعادها، غير أن لافروف يتناقض حين ينحاز لطائفة ضد أخرى، ويفقد توازنه حين يخشى على أقلية هنا ولا يخشى عليها هناك، وكذلك حين يخشى من أكثرية هنا ولا يخشى منها هناك، وللتوضيح، فهو تحدث عن خشية من قيام نظام «سني» في سوريا ونسي أن السنة بالمنطق الطائفي هم الأكثرية من الشعب السوري، وأنهم محكومون من أقلية عائلية تسعى لاستجلاب دعم طائفة واحدة ضد بقية الطوائف.

وحين تحدث عن لبنان وطوائفه وأقلياته نسي أن النظام الأسدي الحالي والسابق هو أكبر من فتك بطوائف لبنان وأقلياته، إن بالتدخل العسكري المباشر وإن بالتفجيرات والاغتيالات وممارسة الضغوط حد الإذلال والتهديد تجاه رموز الطوائف اللبنانية بأكثريتها وأقلياتها، وأن نظام الدولة الهش جدا – حسب تعبيره – في لبنان تمت صياغته على يد النظام الأسدي الذي يدافع هو عنه الآن، كما أنه حين تحدث عن العراق «حيث يهيمن الشيعة في كافة المناصب القيادية» لم يبد قلقا مماثلا لما يجري في سوريا، ونسي الخشية من طغيان الأكثرية على الأقلية.

إن الحديث الطائفي مقيت دائما، والطائفية خطر محدق في المنطقة بأسرها، وهذا معطى واقعي يجب أخذه بالاعتبار عند النظر لكافة جوانب الأزمات الكبرى والصغرى في المنطقة لا للخضوع للمنطق الطائفي بل لتجنبه عبر الوعي به وإدراكه، غير أن إصرار لافروف على الحديث الطائفي يأتي تبعا لسياسة النظام الأسدي التي لا تزال تسعى منذ بدء الأزمة من أجل تحويلها لنزاعات طائفية تأكل الأخضر واليابس، ولافروف حين يتحدث عن دعم بعض دول المنطقة للسنة في سوريا ينسى الشعب السوري نفسه بكافة طوائفه الذي وعلى الرغم من كل ما يمارسه نظام الأسد ضده من جرائم لا يزال متشبثا بحريته واستقلاله، وأن الدم الجاري على تراب سوريا تختلط فيه جميع الطوائف.

والأغرب من هذا هو حديث لافروف عن أن «الأسرة العالمية يمكن أن تتدخل فقط في النزاعات بين الدول حين يكون المقصود وقوع عدوان وحين تهاجم بلاد بلادا أخرى»، ونسي أن مجلس الأمن سبق له التدخل في رواندا بعد جرائم الإبادة الجماعية هناك وأنشأ محكمة جنائية دولية خاصة برواندا، وقبل هذا أيضا تدخل مجلس الأمن في يوغوسلافيا السابقة بعد المجازر الكبرى التي ارتكبت هناك وأنشأ محكمة جنائية دولية خاصة بها، فلماذا يتناسى لافروف هذه المواقف والقرارات الدولية السابقة عندما جاء الحديث عن نظام الأسد؟ ألا يعتبر لافروف أن مقتل ما يزيد على أحد عشر ألفا من المواطنين السوريين جريمة جديرة بالتدخل الدولي عبر محكمة جنائية دولية خاصة بسوريا؟

في ظل هذا التعنت الروسي، فإن جميع المواقف والتصريحات الدولية تكتفي برفع نغمة لهجتها، فهي قد تعبر عن «بالغ القلق إزاء تدهور الأوضاع في سوريا مما أدى إلى أزمة خطيرة لحقوق الإنسان» وقد تعرب عن «الأسف العميق إزاء وفاة الآلاف من الناس في سوريا»، كما جاء في نص البيان الرئاسي لمجلس الأمن الداعم لبعثة كوفي أنان، وتفعل الشيء ذاته عدد من الدول الغربية، ولكن أحدا لا يضع يده على الجرح مباشرة، ولا يقول إن نظام الأسد مسؤول عن هذا التدهور والأزمة الخطيرة لحقوق الإنسان، كما الأسف على وفاة الآلاف في سوريا فيه مغالطة صريحة، فهؤلاء الآلاف لم يتوفوا جراء زلزال أو بركان أو مرض ولم يموتوا حتف أنوفهم دون تدخل من أحد، ولكنهم كما يعلم الجميع قد قتلوا قتلا مع سبق الإصرار في سلسلة من جرائم الإبادة المستمرة، ومن قبل جهة معروفة هي قوات الأسد النظامية وجيشه.

أما حين يتحدث لافروف عن وجود لـ«القاعدة» في سوريا فهو يتناسى أن من فتح أبواب البلاد لتنظيم القاعدة قبل سنوات كان نظام الأسد نفسه، حيث استخدمه بالتنسيق مع إيران لضرب استقرار العراق خلال الوجود الأميركي هناك، وبالتالي فإن كان ثمة وجود حقيقي لـ«القاعدة» في هذا الوقت فإن بذرته الأساسية تمت زراعتها ورعايتها على يد نظام الأسد نفسه، ولا يمنع هذا من إمكانية دخول «القاعدة» أو غيرها من التنظيمات الدينية المسلحة لسوريا في ظل اضطراب الأوضاع السياسية والأمنية، حيث تجد «القاعدة» دائما مكانا للتوالد والتكاثر.

أخيرا، لئن كان من الجيد لروسيا وغيرها ممن يريد الدخول في صراعات المنطقة أن يدرك الأبعاد الطائفية فإن من السيئ أن تتأثر هذه الدول بالبعد الطائفي لتنحاز لطرف دون غيره.



عبد الله بن بجاد العتيبي