هل بدأ التطهير العرقي في سوريا؟ - مجاهد مأمون ديرانية
الجواب: نعم، التطهير العرقي بدأ منذ عدة أسابيع، وهو ما يزال في مراحل مبكرة حتى الآن، لكنه يمكن أن يزداد ضراوة وانتشاراً مع ازدياد الضغط الداخلي على النظام وتسارع التهديدات الخارجية بضربه، فإن ذلك يزيده إغراقاً في سياسة التثوير الطائفي التي تجد صدى وقبولاً واسعاً في أوساط الطائفة العلوية. ليست هذه المقالة للشحن الطائفي الذي يضر ولا يفيد والذي تقاومه الثورة بذكاء واقتدار، وإنما هي للتحذير من خطر جسيم يحتاج إلى كثير من الانتباه وإلى عمل سريع وحاسم قبل فوات الأوان.
-1-
نستطيع حالياً تمييز ملامح بدائية لحملة تطهير عرقي في مدينة حمص وفي بعض قرى اللاذقية؛ فأما حمص فقد بدأت حملةٌ طائفية شرسة على بعض أحيائها السنّية بعد سقوط بابا عمرو مباشرة: كرم الزيتون والنازحين والرفاعي والعدوية والمريجة وجب الجندلي وباب السباع وباب تدمر وباب الدريب. الحملة تأتي من الأحياء العلوية المجاورة: حي الزهراء من الشمال والنزهة وعكرمة من الغرب والجنوب، وهي تشمل كل أدوات وأساليب التطهير العرقي القذرة المعروفة، من اقتحام للمنازل وقتل للمدنيين بالسلاح الأبيض، مع التعذيب والاغتصاب والتمثيل بالموتى، إلى القصف العشوائي بالصواريخ ومدافع الهاون ومدافع الدبابات.
وقد وصفَت الأخبار قصفَ الهاون على باب السباع بأنه مثل المطر، أما باب الدريب فاستقبل أكثر من ثلاثة آلاف قذيفة في أقل من أسبوع، وفي الحيّين تهدمت بيوت كثيرة أو اشتعلت فيها النيران. (بدأت بكتابة هذه المقالة منذ يومين، والآن وأنا أراجعها المراجعة النهائية وردت الأخبار المؤلمة عن مجازر جديدة في حي الرفاعي، وعن سقوط حي العدوية وحي المريجة واقتحامهما من قِبَل العصابات الطائفية، حسبنا الله ونعم الوكيل).
أما اللاذقية فإن الأخبار تتوارد منها منذ أسبوع متحدثةً عن هجمات بربرية تشنها مليشيات طائفية من القرى العلوية على القرى السنية المجاورة، وقد بلغت درجةَ التطهير العرقي الكامل في قريتين على الأقل حتى الآن.
إن منطقة الساحل منطقة مختلطة حالياً، حيث يشكل السنّة أكثرية في مدينتَي اللاذقية وجبلة تقترب من الثلثين في اللاذقية وتزيد قليلاً في جبلة، وهم أربعة أخماس سكان بانياس، أما مدينة طرطوس فيبلغون فيها النصف أو أقل بقليل. القرى المحيطة بجبلة وطرطوس تكاد تكون كلها علوية، وكذلك أكثر القرى المحيطة ببانياس، يتخللها عدد من القرى السنية كالمرقب والبيضا وبيت جناد والحميدية والبساتين. أما قرى اللاذقية فإنها مختلطة، بعضها علوية وبعضها سنية، ويتركز السنة بشكل خاص في قرى جبل الأكراد وقرى التركمان المحاذية للحدود التركية، كما يوجدون في عدد من قرى الساحل.
الهجمة الطائفية تتركز حالياً على القرى السنية في جبل الأكراد، الواقعة شرق طريق حلب اللاذقية القديم الذي يربط اللاذقية بجسر الشغور، ولا سيما في منطقة الحفّة (قرب قلعة صلاح الدين)، حيث تعرضت قريتا بابنّا والجنكيل السنيّتان قبل أسبوع إلى هجوم طائفي شرس نتج عنه تهجير سكانهما بالكامل، وهم نحو اثنَي عشر ألف نسمة. الهجوم الآثم شنّته مليشيات علوية من القرى المجاورة، شريفا وتلة وبيت شاكوحي ووطي الرامي وبعمرين، بمساعدة ودعم من قوات أمنية نظامية، واستُعمل فيه القصف العشوائي بالصواريخ وقذائف الهاون، مما تسبب في هدم عدد من المنازل وسقوط عدد من الضحايا قبل أن يتمكن الباقون من مغادرة القريتين إلى القرى السنّية القريبة. القريتان حالياً فارغتان من السكان الأصليين ويقيم فيهما سكان القرى العلوية المعتدية.
وقبل يومين تعرضت لهجوم مشابه قرى بكاس ودفيل والمشيرفة وشيرقاق، فحاصرتها مليشيات علوية من قرى القلعة والقموحية ورسيون والشردوب، وقد بلغ من عنف الهجمات البربرية وهمجيتها أن أصوات استغاثات الأهالي كانت تُسمَع في القرى القريبة، ولم يُعرف مصير أهالي تلك القرى حتى الآن. وفي الوقت نفسه يمضي النظام المجرم في تزويد القرى العلوية بأسلحة متطورة تضم صواريخ ومدافع وأسلحة خفيفة ومتوسطة، ومن تلك القرى عين الشرقية وبيت ياشور وبيت برغل والزعينية، والقرى المحيطة بالقرداحة.
بل إن الهجمة الطائفية القذرة قد وصلت إلى مدينة اللاذقية نفسها، حيث اجتاح علويّو الجبل قبل عدة أيام عدداً من أحيائها السنّية: الشيخ ضاهر والصليبة والعوينة والطابيات، وأطلقوا النار العشوائي بكثافة، وسُجّلت حالات اختطاف كثيرة للرجال والنساء على السواء، مع سقوط عدد كبير من الجرحى وبعض الشهداء.
-2-
قد يسأل سائل: ما هو التطهير العرقي؟ أليس ما يجري في حمص واللاذقية جزءاً من خطة القمع المنهجي التي يمارسها النظام منذ سنة للقضاء على ثورة الكرامة والحرية في سوريا؟ والجواب: لا، الأمر هنا مختلف. التطهير العرقي ليس احتلالَ بقعة من الأرض ولا قتلَ جماعة من البشر، إنه أسوأ من ذلك بكثير، فهو يهدف إلى تغيير التركيب السكاني (الديموغرافي) في منطقة جغرافية ما من خلال تغيير نسب الطوائف أو الأعراق المختلفة فيها.
التطهير العرقي (ethnic cleansing) -بحسب تعريف القانون الدولي- هو "فعلٌ عَمْدٌ تقوم به جماعة عرقية أو دينية في منطقة ما، مستخدِمةً العنف ووسائل الترويع، لتفريغ تلك المنطقة من مجموعة عرقية أو دينية أخرى". وهو مصطلح مكمّل لمصطلح الإبادة الجماعية (genocide) الذي يعني "القتل العَمْد والمنهجي الذي يهدف إلى إبادة جماعة عرقية أو دينية إبادةً كليةً أو جزئية، والذي تمارسه عادةً حكوماتٌ أو جماعات تدعمها حكومات".
غالباً يخلط الكتّاب بين المصطلحين لأن القتل الجماعي ممارسة مشترَكة بينهما، حيث يمكن تنفيذ التطهير العرقي بإحدى طريقتين: الإفناء والقتل المنهجي لعدد كبير من السكان، أو الاقتصار على ارتكاب مجازر مروّعة من شأنها أن تحمل السكان على هجر مساكنهم والانتقال إلى مناطق أخرى خوفاً من الفناء.
الأسلوب الأول طُبِّق على نطاق واسع في رواندا عام 1994، فخلال مئة يوم -وعلى مرأى ومسمع من العالم الذي لم يحرّك ساكناً- قتل الهوتو ثلاثة أرباع مليون نسمة من أقلية التوتسي، وقد حرصوا على قتل كل من تصل إليه أيديهم منهم بغض النظر عن السن أو الجنس، وغالباً كان القتل بالسلاح الأبيض، وعندما انتهت المجزرة أخيراً كان التوتسي قد فقدوا ثلاثة من كل أربعة؛ كانوا أكثر من مليون إنسان في الخامس من نيسان عام 1994، وفي الخامس عشر من تموز بقي منهم نحو ثلاثمئة ألف فقط.
الأسلوب الثاني استعملته العصابات الصهيونية المسلحة (الهاغانا والأرغون وشتيرن) في فلسطين قبل إعلان ولادة الدولة العبرية، حيث لجأت إلى ارتكاب مجازر مروّعة في بعض القرى الفلسطينية لبثّ الرعب ونشر الفزع بين الناس، مما حملهم على إخلاء القرى التي يقترب منها اليهود. من أشهر تلك المجازر مذبحة دير ياسين المعروفة التي ذهب ضحيّتَها مئتان وخمسون شهيداً من سكان القرية من الرجال والنساء والأطفال (وهو أقل من عدد الشهداء الذين نفقدهم في سوريا في ثلاثة أيام. ما أرحمَ اليهودَ مقارنة بالعصابة المحتلة التي تحكم سوريا!)
في البوسنة استعملت عصابات الصرب المجرمة الأسلوبين معاً، وكانت نتيجة التطهير العرقي الذي استمر ثلاث سنوات (1992-1995) أكثر من مئتَي ألف قتيل ونحو مليونَي مهجَّر أُجبروا على ترك مناطق سكنهم الأصلية والانتقال إلى مناطق أخرى، وقد عاد منهم إلى منازلهم -بعد عشر سنوات من انتهاء الحرب- نحو مئة وأربعين ألفاً فقط.
-3-
أكثر ما يُقلق في مسألة "التطهير العرقي" أنها غالباً غير قابلة للتصحيح، بل إن القوى الدولية التي تتدخل لفضّ النزاعات العرقية ووقف التطهير العرقي تساهم -هي نفسها- في تكريس نتائجه الكارثية، ربما لتُجنّبَ نفسها أي التزامات أخلاقية مستقبلية، أو لأنها قوى منحازةٌ أصلاً وغيرُ محايدة. ولو أننا قرأنا التاريخ فسوف نجد أن الأوضاع الميدانية تَثبُت على حالها منذ لحظة انتهاء الحرب ووقف إطلاق النار، كما رأينا في فلسطين غداة صدور قرار التقسيم المشؤوم قديماً وكما حصل في البوسنة منذ عهد قريب.
في البوسنة كان جيب سريبرنيتسا (وهو يقع اليوم في أقصى شرق جمهورية صرب البوسنة) كان مشكلة كامنة يصعب حلها لأنه كان منطقة صغيرة يسكنها البشناق المسلمون وسط بحر من الصرب الأرثوذكس ، ولا شك أن الفصل بين الفريقين وتأمين الحماية الدائمة للمسلمين كانت مهمة عسيرة وطويلة. وهكذا تواطأت قوات الأمم المتحدة -ممثَّلةً بالكتيبة الهولندية المكلفة بحماية المسلمين- وغضّت النظر عن مذبحة استمرت أحد عشر يوماً بلياليها على مرأى منها ومسمع، كانت نتيجتها قتل ثمانية آلاف وأربعمئة مسلم من الرجال والشبّان وتهجير الباقين، وهم العجزة والناس والأطفال، وعددهم نحو ثلاثين ألفاً. ولم تكتفِ قوات الحماية الدولية (الهولندية) بالامتناع عن الدفاع عن المسلمين الذين تعرضوا للمذبحة، بل إنها تواطأت مع المعتدين، فعندما التجأ إليها عدد من المسلمين قامت بتسليمهم إلى الصرب الذين أعدموهم بدم بارد!
بالنتيجة خَلَت المنطقة من المسلمين وصارت منطقة خاصة بالصرب، وتم تكريس هذا الواقع قانونياً بالاعتراف بجمهورية صرب البوسنة التي تشكّل مع اتحاد البوسنة والهرسك (ومعهما كيان ثالث صغير اسمه مقاطعة بريتشكو) تشكل هذه الأقسام الثلاثة معاً فدرالية شكلية تسمى جمهورية البوسنة والهرسك، وهي كيان عجيب يضم ثلاثة أعراق وثلاثة أديان وثلاث لغات وله مجلس رئاسي ثلاثي، وبرأيي المتواضع فإنه قنبلة موقوتة لا يُؤمَن انفجارها في حرب أهلية أخرى في المستقبل.
-4-
اعتماداً على التعريف القانوني للتطهير العرقي يمكننا القول بجزم وبلا تردد إن ما يجري في مدينة حمص منذ بداية آذار وما يجري في بعض قرى اللاذقية منذ أسبوع هو "تطهير عرقي" حقيقي، حتى وإن لم يعتمد على الإبادة الجماعية حسب تعريفها القانوني.
هل يسعى العلويون في حمص والساحل إلى تكريس واقع جديد تكون لهم فيه الغلبة السكانية؟ ربما، يجب أن نفكر في هذا الأمر وأن نَحمله على محمل الجد، وأن نتعامل معه بأسلوب وقائي لأن العلاج لن يكون سهلاً لو نُفّذ مخطط من هذا النوع لا قدّر الله.
ربما تسبب الرد الحاسم على الحملة الطائفية الهمجية الأخيرة في إطلاق شرارة الحرب الأهلية في سوريا. لقد كتب العقلاء وحذّروا من الحرب الأهلية لأنها حرب فتّاكة ضَروس، وكنت واحداً من الذين بذلوا ما يستطيعون من جهد لتحذير الناس من مخاطرها، وما كتبته في هذا الموضوع كثير. على أن من الإنصاف الاعتراف بأن أهلنا العقلاء العظماء في سوريا أثبتوا أنهم في غنىً عنّي وعن أمثالي، فصبروا وصابروا وثابروا على إحباط كل محاولات النظام اليائسة لجرّ سوريا إلى حرب أهلية سيكون هو -على التحقيق- أكبرَ المنتفعين من آثارها.
لكن هل معنى هذا أن نسكن ونستكين ونتوقف عن الرد على حملة منهجية هدفُها إخلاءُ مناطق السنّة من ساكنيها لتجنب الوقوع في الحرب الأهلية؟ لو فعلنا ذلك فسوف نقع في أسوأ مما نَحْذر، لأن خسائر الحرب الأهلية -على أهوالها- أهون من خسائر تعرّض مدننا وقرانا إلى تطهير عرقي تبقى آثارُه الدهرَ الأطول. لقد كانت مدن حمص واللاذقية وجبلة وبانياس مدناً سنّية صرفة قبل نصف قرن، فانظروا إليها الآن كيف صارت بسبب سياسة التوزيع السكاني التي اعتمدها حكم الأسد، ولو سكتّم عما يجري الآن فقد لا يجد أحفادكم لهم موطئ قدم فيها بعد نصف قرن آخر.
إن من الغفلة أن نتجاهل ما يحصل في هذه المناطق بحجة حسن النية وتجنب الطائفية والمحافظة على الوحدة الوطنية؛ إن الحرص على الوحدة الوطنية أَولى به أن يدفعنا إلى اليقظة وإلى اتخاذ التدبير الأنسب قبل الوقوع في الفخ الذي يكاد لا يخرج منه مَن وقع فيه.
-5-
التوصيات والنداءات
(1) التوصية الأولى والنداء الأول لشعبنا المصابر الذي يتعرض لتلك الحملة الآثمة: اصبروا واثبتوا يا أيها الأبطال ما استطعتم الصبر والثبات (أقول: ما استطعتم، أما إذا استُحِلّت الأعراض فلا أظنكم تستطيعون، ولو كنت مكانكم لما استطعت). إن الهدف من المجازر هو دفعكم إلى ترك مدنكم وأحيائكم ليسكنها آخرون من طائفة أخرى، وقد لا تسترجعونها إلى الأبد لو تم ذلك لا سمح الله. أعلم أنكم تعانون معاناة فظيعة وأن الكلام سهلٌ قولُه على شخص آمن بعيد مثلي، ولكني أعلم أيضاً -مما قرأته عن حالات مشابهة في بلدان أخرى- أن الطائفيين لا يكتفون بتهجير الآمنين وترويعهم، بل إنهم يتعقبونهم بالقتل حيثما ارتحلوا، فإن لم يكن من الموت بدّ فليكن موتاً كريماً ولنمت مُقْبلين غيرَ مُدْبرين.
(2) النداء الثاني لإخواننا الكرام في إعلام وصفحات الثورة: لا تساعدوا عدونا علينا. إنكم تنشرون أخبار المذابح وصورها فتنشرون معها الرعب في قلوب الناس، فمن لم تهجّره العصابات الطائفية من بيته هجّره منه الرعب، فاقتصدوا في نشر تفاصيل المجازر والمذابح وصورها المروعة يرحمكم الله. أعلم أنكم في موقف حرج وأنكم مضطرون إلى إجراء موازنة دقيقة بين ما يجب نشره لإثبات الجريمة على المجرم ولحفز المتخاذلين ودفعهم إلى النصرة، وبين ما يجب إخفاؤه لكيلا تصيبوا الناس بالهلع، فادرسوا كل حالة في وقتها وأحسنوا الموازنة واستخيروا الله وتوكلوا عليه، وقدموا دائماً التشجيع والتثبيت ورفع المعنويات على ما عداها.
(3) النداء الثالث لقيادة الثورة السياسية ممثّلةً بالمجلس الوطني: هذا واحد من أهم أعمالكم وهو من أوجب الواجبات. عليكم أن تناقشوا هذه الجرائم في اجتماعاتكم مع المسؤولين الغربيين ومع ممثلي المنظمات والهيئات الدولية وأن تضغطوا ضغطاً شديداً لوقفها وتجريم مرتكبيها، وأقترح أن تُنشئوا خليةَ أزمة متفرغةً لمتابعة الأحداث التي ينطبق عليها تعريف التطهير العرقي، وتبقى تلك الخلية على اتصال دائم بالهيئات والمنظمات الحقوقية الدولية، الرسمية وغير الرسمية، لموافاتها بالتطورات الميدانية أولاً بأول وحثّها على التحرك الفوري والحاسم والضغط على الدول والحكومات لوقف تلك الممارسات على الفور.
(4) النداء الرابع هو الأهم من بين الجميع، وأوجهه إلى قيادة الجيش الحر وإلى القيادات العسكرية الميدانية في حمص وإدلب: عليكم بالرد الحاسم والسريع لوقف المجازر ووقف أعمال التطهير العرقي. لا بدّ من التحرك الفوري لتعزيز القوات المدافعة عن المناطق الأشد خطورة، وهي المناطق المجاورة للتجمعات السكانية العلوية في مدينة ومحافظة حمص وفي محافظة اللاذقية، ولا سيما في منطقة الحفة (حالياً على الأقل). بما أن الجيش الحر ليس له وجود في الحفة فأقترح التحرك العاجل لنقل بعض الوحدات المقاتلة إليها من إدلب المجاورة، وبما أن الكتلة السكانية السنية هناك قد لا تكفي لتشكيل حاضنة بشرية لتلك الوحدات فربما وسعها أن تستفيد من طبيعة المنطقة الجبلية التي تشبه -إلى حد ما- طبيعة المناطق الوعرة التي اعتاد مقاتلو الجيش الحر عليها في جبل الزاوية القريب وفي منطقة اللجاة في حوران.
إن من واجب الجيش الحر ومن حقه أن يهاجم القرى التي تهاجم قرانا وأن يهاجم الأحياء التي تهاجم أحياءنا، فيقصفها بمدافع الهاون والمورتر والقذائف الصارخية المتاحة؛ هذا هو الأسلوب الوحيد لردّ المعتدين ووقف العدوان. أكرر حتى لا يفهمني أحدٌ خطأً وحتى لا يُنقَل عني ما لم أقله: من حقنا أن نرد على العدوان بمثله فنهاجم القرى التي تهاجم قرانا والأحياء التي تهاجم أحياءنا، فقط، ولا يجوز أن نهاجم عشوائياً أي قرية علوية طالما لم تهاجمنا، ولا يجوز أن نقصف عشوائياً أي حي علوي طالما لم يقصفنا، فنحن لا نحارب العلويين ولا نحارب غير العلويين، إنما نحارب النظام المجرم الذي يحتل سوريا ونحارب من يقف معه، ونحارب من يحاربنا ويقصفنا ويجتاح مناطقنا، كائناً من يكون ومن أي طائفة يكون.
نعم، من واجب الجيش الحر ومن حقه أن يهاجم القرى التي تهاجم قرانا وأن يهاجم الأحياء التي تهاجم أحياءنا. وأعلم أن في تلك القرى والأحياء من لم يشارك بالقتال ومن لا يَحِلّ دمه، ولو أنهم حاربونا واحداً لواحد لما حلّ تجاوز المعتدي إلى غيره، ولقد كتبت -منذ أيام- إلى إخوان كرام نشروا فتوى بجواز قتل أطفال من يقتل أطفالنا، فقلت إن ذلك لا يجوز لأن العقوبة لا تتجاوز القاتل إلى غيره، والطفل بريء لا يُؤاخَذ ولو كان ابن شبّيح مجرم قاتل، ونقلت في هذا المعنى كلاماً للقرطبي في تفسيره أعيد إثباته هنا للأهمية، قال: "من ظلمك فخذ حقك منه بقدر مظلمتك، لا تتعدّ إلى أبويه ولا إلى ابنه أو قريبه" (الجامع 2/360). وعقّب أخ كريم مؤيّداً فنقل إجماع العلماء على تحريم قتل المجاهدين لنساء وصبيان المحاربين ما لم يقاتلوا، قال: "حكى هذا الإجماعَ ابنُ حزم في مراتب الإجماع (ص201) والنووي في شرح صحيح مسلم (12/48) وابن حجر في فتح الباري (6/147)، وغيرهم".
الحكم السابق صحيح ما دام القتال فردياً، واحداً لواحد، أما إذا كان قتالاً عاماً تُقصَف فيه أحياؤنا من أحيائهم أو تَشنّ فيه الهجومَ على قرانا الجماعاتُ المعتدية من قراهم فلا يبقى لنا خيار إلا الرد رداً عاماً، وللإمام رشيد رضا كلام واضح مُحكَم في هذا؛ قال في تفسير قوله تعالى {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}: "القصد أن يكون الجزاء على قدر الاعتداء بلا حيف ولا ظلم، كقتل المجرمين بلا ضعف ولا تقصير (قلت: هذه الجملة تنطبق على الشبيحة حالياً)، وأزيد على هذا ما هو أولى بالمقام وهو المماثلة في قتال الأعداء، فالمقاتل بالمدافع والقذائف النارية أو الغازية السامة يجب أن يُقاتَل بها، وإلا فاتت الحكمةُ لشرعية القتال، وهي منعُ الظلم والعدوان والفتنة والاضطهاد، وتقريرُ الحرية والأمان والعدل والإحسان" (المنار 2/213).
(5) النداء الأخير أوجهه إلى الأمة الإسلامية. لقد حمّلتُ إخواننا المسلمين في كل مكان جزءاً من المسؤولية والعبء فيما مضى، واليوم أحمّلهم المسؤولية والعبء ضعفين أو أضعافاً مضاعفة. إخوانكم في سوريا يذبّحون ذبح الدجاج والنعاج وتهدّم بيوتهم فوق رؤوسهم؛ قد انقطع رجاؤهم من كل أحد إلا من الله ثم منكم، وأيِسوا من كل مُعين إلا من الله ثم منكم، وإنهم ليس لهم -بعد الله- غيركم، فإلا تمدّوهم بالمال اللازم للحياة والمال اللازم لشراء السلاح لا تبقى لهم باقية.
أيها المسلمون: أهل السنّة في سوريا أمانة في أعناقكم، فلا تخذلوهم ولا تُسْلموهم إلى عدوهم فتندموا يوم لا ينفع الندم. نعم، إنهم أمانة في أعناقكم، ولسوف يسألكم الله عن الأمانة يوم الحساب، فأعدّوا لذلك اليوم -منذ اليوم- الجواب.
الجواب: نعم، التطهير العرقي بدأ منذ عدة أسابيع، وهو ما يزال في مراحل مبكرة حتى الآن، لكنه يمكن أن يزداد ضراوة وانتشاراً مع ازدياد الضغط الداخلي على النظام وتسارع التهديدات الخارجية بضربه، فإن ذلك يزيده إغراقاً في سياسة التثوير الطائفي التي تجد صدى وقبولاً واسعاً في أوساط الطائفة العلوية. ليست هذه المقالة للشحن الطائفي الذي يضر ولا يفيد والذي تقاومه الثورة بذكاء واقتدار، وإنما هي للتحذير من خطر جسيم يحتاج إلى كثير من الانتباه وإلى عمل سريع وحاسم قبل فوات الأوان.
-1-
نستطيع حالياً تمييز ملامح بدائية لحملة تطهير عرقي في مدينة حمص وفي بعض قرى اللاذقية؛ فأما حمص فقد بدأت حملةٌ طائفية شرسة على بعض أحيائها السنّية بعد سقوط بابا عمرو مباشرة: كرم الزيتون والنازحين والرفاعي والعدوية والمريجة وجب الجندلي وباب السباع وباب تدمر وباب الدريب. الحملة تأتي من الأحياء العلوية المجاورة: حي الزهراء من الشمال والنزهة وعكرمة من الغرب والجنوب، وهي تشمل كل أدوات وأساليب التطهير العرقي القذرة المعروفة، من اقتحام للمنازل وقتل للمدنيين بالسلاح الأبيض، مع التعذيب والاغتصاب والتمثيل بالموتى، إلى القصف العشوائي بالصواريخ ومدافع الهاون ومدافع الدبابات.
وقد وصفَت الأخبار قصفَ الهاون على باب السباع بأنه مثل المطر، أما باب الدريب فاستقبل أكثر من ثلاثة آلاف قذيفة في أقل من أسبوع، وفي الحيّين تهدمت بيوت كثيرة أو اشتعلت فيها النيران. (بدأت بكتابة هذه المقالة منذ يومين، والآن وأنا أراجعها المراجعة النهائية وردت الأخبار المؤلمة عن مجازر جديدة في حي الرفاعي، وعن سقوط حي العدوية وحي المريجة واقتحامهما من قِبَل العصابات الطائفية، حسبنا الله ونعم الوكيل).
أما اللاذقية فإن الأخبار تتوارد منها منذ أسبوع متحدثةً عن هجمات بربرية تشنها مليشيات طائفية من القرى العلوية على القرى السنية المجاورة، وقد بلغت درجةَ التطهير العرقي الكامل في قريتين على الأقل حتى الآن.
إن منطقة الساحل منطقة مختلطة حالياً، حيث يشكل السنّة أكثرية في مدينتَي اللاذقية وجبلة تقترب من الثلثين في اللاذقية وتزيد قليلاً في جبلة، وهم أربعة أخماس سكان بانياس، أما مدينة طرطوس فيبلغون فيها النصف أو أقل بقليل. القرى المحيطة بجبلة وطرطوس تكاد تكون كلها علوية، وكذلك أكثر القرى المحيطة ببانياس، يتخللها عدد من القرى السنية كالمرقب والبيضا وبيت جناد والحميدية والبساتين. أما قرى اللاذقية فإنها مختلطة، بعضها علوية وبعضها سنية، ويتركز السنة بشكل خاص في قرى جبل الأكراد وقرى التركمان المحاذية للحدود التركية، كما يوجدون في عدد من قرى الساحل.
الهجمة الطائفية تتركز حالياً على القرى السنية في جبل الأكراد، الواقعة شرق طريق حلب اللاذقية القديم الذي يربط اللاذقية بجسر الشغور، ولا سيما في منطقة الحفّة (قرب قلعة صلاح الدين)، حيث تعرضت قريتا بابنّا والجنكيل السنيّتان قبل أسبوع إلى هجوم طائفي شرس نتج عنه تهجير سكانهما بالكامل، وهم نحو اثنَي عشر ألف نسمة. الهجوم الآثم شنّته مليشيات علوية من القرى المجاورة، شريفا وتلة وبيت شاكوحي ووطي الرامي وبعمرين، بمساعدة ودعم من قوات أمنية نظامية، واستُعمل فيه القصف العشوائي بالصواريخ وقذائف الهاون، مما تسبب في هدم عدد من المنازل وسقوط عدد من الضحايا قبل أن يتمكن الباقون من مغادرة القريتين إلى القرى السنّية القريبة. القريتان حالياً فارغتان من السكان الأصليين ويقيم فيهما سكان القرى العلوية المعتدية.
وقبل يومين تعرضت لهجوم مشابه قرى بكاس ودفيل والمشيرفة وشيرقاق، فحاصرتها مليشيات علوية من قرى القلعة والقموحية ورسيون والشردوب، وقد بلغ من عنف الهجمات البربرية وهمجيتها أن أصوات استغاثات الأهالي كانت تُسمَع في القرى القريبة، ولم يُعرف مصير أهالي تلك القرى حتى الآن. وفي الوقت نفسه يمضي النظام المجرم في تزويد القرى العلوية بأسلحة متطورة تضم صواريخ ومدافع وأسلحة خفيفة ومتوسطة، ومن تلك القرى عين الشرقية وبيت ياشور وبيت برغل والزعينية، والقرى المحيطة بالقرداحة.
بل إن الهجمة الطائفية القذرة قد وصلت إلى مدينة اللاذقية نفسها، حيث اجتاح علويّو الجبل قبل عدة أيام عدداً من أحيائها السنّية: الشيخ ضاهر والصليبة والعوينة والطابيات، وأطلقوا النار العشوائي بكثافة، وسُجّلت حالات اختطاف كثيرة للرجال والنساء على السواء، مع سقوط عدد كبير من الجرحى وبعض الشهداء.
-2-
قد يسأل سائل: ما هو التطهير العرقي؟ أليس ما يجري في حمص واللاذقية جزءاً من خطة القمع المنهجي التي يمارسها النظام منذ سنة للقضاء على ثورة الكرامة والحرية في سوريا؟ والجواب: لا، الأمر هنا مختلف. التطهير العرقي ليس احتلالَ بقعة من الأرض ولا قتلَ جماعة من البشر، إنه أسوأ من ذلك بكثير، فهو يهدف إلى تغيير التركيب السكاني (الديموغرافي) في منطقة جغرافية ما من خلال تغيير نسب الطوائف أو الأعراق المختلفة فيها.
التطهير العرقي (ethnic cleansing) -بحسب تعريف القانون الدولي- هو "فعلٌ عَمْدٌ تقوم به جماعة عرقية أو دينية في منطقة ما، مستخدِمةً العنف ووسائل الترويع، لتفريغ تلك المنطقة من مجموعة عرقية أو دينية أخرى". وهو مصطلح مكمّل لمصطلح الإبادة الجماعية (genocide) الذي يعني "القتل العَمْد والمنهجي الذي يهدف إلى إبادة جماعة عرقية أو دينية إبادةً كليةً أو جزئية، والذي تمارسه عادةً حكوماتٌ أو جماعات تدعمها حكومات".
غالباً يخلط الكتّاب بين المصطلحين لأن القتل الجماعي ممارسة مشترَكة بينهما، حيث يمكن تنفيذ التطهير العرقي بإحدى طريقتين: الإفناء والقتل المنهجي لعدد كبير من السكان، أو الاقتصار على ارتكاب مجازر مروّعة من شأنها أن تحمل السكان على هجر مساكنهم والانتقال إلى مناطق أخرى خوفاً من الفناء.
الأسلوب الأول طُبِّق على نطاق واسع في رواندا عام 1994، فخلال مئة يوم -وعلى مرأى ومسمع من العالم الذي لم يحرّك ساكناً- قتل الهوتو ثلاثة أرباع مليون نسمة من أقلية التوتسي، وقد حرصوا على قتل كل من تصل إليه أيديهم منهم بغض النظر عن السن أو الجنس، وغالباً كان القتل بالسلاح الأبيض، وعندما انتهت المجزرة أخيراً كان التوتسي قد فقدوا ثلاثة من كل أربعة؛ كانوا أكثر من مليون إنسان في الخامس من نيسان عام 1994، وفي الخامس عشر من تموز بقي منهم نحو ثلاثمئة ألف فقط.
الأسلوب الثاني استعملته العصابات الصهيونية المسلحة (الهاغانا والأرغون وشتيرن) في فلسطين قبل إعلان ولادة الدولة العبرية، حيث لجأت إلى ارتكاب مجازر مروّعة في بعض القرى الفلسطينية لبثّ الرعب ونشر الفزع بين الناس، مما حملهم على إخلاء القرى التي يقترب منها اليهود. من أشهر تلك المجازر مذبحة دير ياسين المعروفة التي ذهب ضحيّتَها مئتان وخمسون شهيداً من سكان القرية من الرجال والنساء والأطفال (وهو أقل من عدد الشهداء الذين نفقدهم في سوريا في ثلاثة أيام. ما أرحمَ اليهودَ مقارنة بالعصابة المحتلة التي تحكم سوريا!)
في البوسنة استعملت عصابات الصرب المجرمة الأسلوبين معاً، وكانت نتيجة التطهير العرقي الذي استمر ثلاث سنوات (1992-1995) أكثر من مئتَي ألف قتيل ونحو مليونَي مهجَّر أُجبروا على ترك مناطق سكنهم الأصلية والانتقال إلى مناطق أخرى، وقد عاد منهم إلى منازلهم -بعد عشر سنوات من انتهاء الحرب- نحو مئة وأربعين ألفاً فقط.
-3-
أكثر ما يُقلق في مسألة "التطهير العرقي" أنها غالباً غير قابلة للتصحيح، بل إن القوى الدولية التي تتدخل لفضّ النزاعات العرقية ووقف التطهير العرقي تساهم -هي نفسها- في تكريس نتائجه الكارثية، ربما لتُجنّبَ نفسها أي التزامات أخلاقية مستقبلية، أو لأنها قوى منحازةٌ أصلاً وغيرُ محايدة. ولو أننا قرأنا التاريخ فسوف نجد أن الأوضاع الميدانية تَثبُت على حالها منذ لحظة انتهاء الحرب ووقف إطلاق النار، كما رأينا في فلسطين غداة صدور قرار التقسيم المشؤوم قديماً وكما حصل في البوسنة منذ عهد قريب.
في البوسنة كان جيب سريبرنيتسا (وهو يقع اليوم في أقصى شرق جمهورية صرب البوسنة) كان مشكلة كامنة يصعب حلها لأنه كان منطقة صغيرة يسكنها البشناق المسلمون وسط بحر من الصرب الأرثوذكس ، ولا شك أن الفصل بين الفريقين وتأمين الحماية الدائمة للمسلمين كانت مهمة عسيرة وطويلة. وهكذا تواطأت قوات الأمم المتحدة -ممثَّلةً بالكتيبة الهولندية المكلفة بحماية المسلمين- وغضّت النظر عن مذبحة استمرت أحد عشر يوماً بلياليها على مرأى منها ومسمع، كانت نتيجتها قتل ثمانية آلاف وأربعمئة مسلم من الرجال والشبّان وتهجير الباقين، وهم العجزة والناس والأطفال، وعددهم نحو ثلاثين ألفاً. ولم تكتفِ قوات الحماية الدولية (الهولندية) بالامتناع عن الدفاع عن المسلمين الذين تعرضوا للمذبحة، بل إنها تواطأت مع المعتدين، فعندما التجأ إليها عدد من المسلمين قامت بتسليمهم إلى الصرب الذين أعدموهم بدم بارد!
بالنتيجة خَلَت المنطقة من المسلمين وصارت منطقة خاصة بالصرب، وتم تكريس هذا الواقع قانونياً بالاعتراف بجمهورية صرب البوسنة التي تشكّل مع اتحاد البوسنة والهرسك (ومعهما كيان ثالث صغير اسمه مقاطعة بريتشكو) تشكل هذه الأقسام الثلاثة معاً فدرالية شكلية تسمى جمهورية البوسنة والهرسك، وهي كيان عجيب يضم ثلاثة أعراق وثلاثة أديان وثلاث لغات وله مجلس رئاسي ثلاثي، وبرأيي المتواضع فإنه قنبلة موقوتة لا يُؤمَن انفجارها في حرب أهلية أخرى في المستقبل.
-4-
اعتماداً على التعريف القانوني للتطهير العرقي يمكننا القول بجزم وبلا تردد إن ما يجري في مدينة حمص منذ بداية آذار وما يجري في بعض قرى اللاذقية منذ أسبوع هو "تطهير عرقي" حقيقي، حتى وإن لم يعتمد على الإبادة الجماعية حسب تعريفها القانوني.
هل يسعى العلويون في حمص والساحل إلى تكريس واقع جديد تكون لهم فيه الغلبة السكانية؟ ربما، يجب أن نفكر في هذا الأمر وأن نَحمله على محمل الجد، وأن نتعامل معه بأسلوب وقائي لأن العلاج لن يكون سهلاً لو نُفّذ مخطط من هذا النوع لا قدّر الله.
ربما تسبب الرد الحاسم على الحملة الطائفية الهمجية الأخيرة في إطلاق شرارة الحرب الأهلية في سوريا. لقد كتب العقلاء وحذّروا من الحرب الأهلية لأنها حرب فتّاكة ضَروس، وكنت واحداً من الذين بذلوا ما يستطيعون من جهد لتحذير الناس من مخاطرها، وما كتبته في هذا الموضوع كثير. على أن من الإنصاف الاعتراف بأن أهلنا العقلاء العظماء في سوريا أثبتوا أنهم في غنىً عنّي وعن أمثالي، فصبروا وصابروا وثابروا على إحباط كل محاولات النظام اليائسة لجرّ سوريا إلى حرب أهلية سيكون هو -على التحقيق- أكبرَ المنتفعين من آثارها.
لكن هل معنى هذا أن نسكن ونستكين ونتوقف عن الرد على حملة منهجية هدفُها إخلاءُ مناطق السنّة من ساكنيها لتجنب الوقوع في الحرب الأهلية؟ لو فعلنا ذلك فسوف نقع في أسوأ مما نَحْذر، لأن خسائر الحرب الأهلية -على أهوالها- أهون من خسائر تعرّض مدننا وقرانا إلى تطهير عرقي تبقى آثارُه الدهرَ الأطول. لقد كانت مدن حمص واللاذقية وجبلة وبانياس مدناً سنّية صرفة قبل نصف قرن، فانظروا إليها الآن كيف صارت بسبب سياسة التوزيع السكاني التي اعتمدها حكم الأسد، ولو سكتّم عما يجري الآن فقد لا يجد أحفادكم لهم موطئ قدم فيها بعد نصف قرن آخر.
إن من الغفلة أن نتجاهل ما يحصل في هذه المناطق بحجة حسن النية وتجنب الطائفية والمحافظة على الوحدة الوطنية؛ إن الحرص على الوحدة الوطنية أَولى به أن يدفعنا إلى اليقظة وإلى اتخاذ التدبير الأنسب قبل الوقوع في الفخ الذي يكاد لا يخرج منه مَن وقع فيه.
-5-
التوصيات والنداءات
(1) التوصية الأولى والنداء الأول لشعبنا المصابر الذي يتعرض لتلك الحملة الآثمة: اصبروا واثبتوا يا أيها الأبطال ما استطعتم الصبر والثبات (أقول: ما استطعتم، أما إذا استُحِلّت الأعراض فلا أظنكم تستطيعون، ولو كنت مكانكم لما استطعت). إن الهدف من المجازر هو دفعكم إلى ترك مدنكم وأحيائكم ليسكنها آخرون من طائفة أخرى، وقد لا تسترجعونها إلى الأبد لو تم ذلك لا سمح الله. أعلم أنكم تعانون معاناة فظيعة وأن الكلام سهلٌ قولُه على شخص آمن بعيد مثلي، ولكني أعلم أيضاً -مما قرأته عن حالات مشابهة في بلدان أخرى- أن الطائفيين لا يكتفون بتهجير الآمنين وترويعهم، بل إنهم يتعقبونهم بالقتل حيثما ارتحلوا، فإن لم يكن من الموت بدّ فليكن موتاً كريماً ولنمت مُقْبلين غيرَ مُدْبرين.
(2) النداء الثاني لإخواننا الكرام في إعلام وصفحات الثورة: لا تساعدوا عدونا علينا. إنكم تنشرون أخبار المذابح وصورها فتنشرون معها الرعب في قلوب الناس، فمن لم تهجّره العصابات الطائفية من بيته هجّره منه الرعب، فاقتصدوا في نشر تفاصيل المجازر والمذابح وصورها المروعة يرحمكم الله. أعلم أنكم في موقف حرج وأنكم مضطرون إلى إجراء موازنة دقيقة بين ما يجب نشره لإثبات الجريمة على المجرم ولحفز المتخاذلين ودفعهم إلى النصرة، وبين ما يجب إخفاؤه لكيلا تصيبوا الناس بالهلع، فادرسوا كل حالة في وقتها وأحسنوا الموازنة واستخيروا الله وتوكلوا عليه، وقدموا دائماً التشجيع والتثبيت ورفع المعنويات على ما عداها.
(3) النداء الثالث لقيادة الثورة السياسية ممثّلةً بالمجلس الوطني: هذا واحد من أهم أعمالكم وهو من أوجب الواجبات. عليكم أن تناقشوا هذه الجرائم في اجتماعاتكم مع المسؤولين الغربيين ومع ممثلي المنظمات والهيئات الدولية وأن تضغطوا ضغطاً شديداً لوقفها وتجريم مرتكبيها، وأقترح أن تُنشئوا خليةَ أزمة متفرغةً لمتابعة الأحداث التي ينطبق عليها تعريف التطهير العرقي، وتبقى تلك الخلية على اتصال دائم بالهيئات والمنظمات الحقوقية الدولية، الرسمية وغير الرسمية، لموافاتها بالتطورات الميدانية أولاً بأول وحثّها على التحرك الفوري والحاسم والضغط على الدول والحكومات لوقف تلك الممارسات على الفور.
(4) النداء الرابع هو الأهم من بين الجميع، وأوجهه إلى قيادة الجيش الحر وإلى القيادات العسكرية الميدانية في حمص وإدلب: عليكم بالرد الحاسم والسريع لوقف المجازر ووقف أعمال التطهير العرقي. لا بدّ من التحرك الفوري لتعزيز القوات المدافعة عن المناطق الأشد خطورة، وهي المناطق المجاورة للتجمعات السكانية العلوية في مدينة ومحافظة حمص وفي محافظة اللاذقية، ولا سيما في منطقة الحفة (حالياً على الأقل). بما أن الجيش الحر ليس له وجود في الحفة فأقترح التحرك العاجل لنقل بعض الوحدات المقاتلة إليها من إدلب المجاورة، وبما أن الكتلة السكانية السنية هناك قد لا تكفي لتشكيل حاضنة بشرية لتلك الوحدات فربما وسعها أن تستفيد من طبيعة المنطقة الجبلية التي تشبه -إلى حد ما- طبيعة المناطق الوعرة التي اعتاد مقاتلو الجيش الحر عليها في جبل الزاوية القريب وفي منطقة اللجاة في حوران.
إن من واجب الجيش الحر ومن حقه أن يهاجم القرى التي تهاجم قرانا وأن يهاجم الأحياء التي تهاجم أحياءنا، فيقصفها بمدافع الهاون والمورتر والقذائف الصارخية المتاحة؛ هذا هو الأسلوب الوحيد لردّ المعتدين ووقف العدوان. أكرر حتى لا يفهمني أحدٌ خطأً وحتى لا يُنقَل عني ما لم أقله: من حقنا أن نرد على العدوان بمثله فنهاجم القرى التي تهاجم قرانا والأحياء التي تهاجم أحياءنا، فقط، ولا يجوز أن نهاجم عشوائياً أي قرية علوية طالما لم تهاجمنا، ولا يجوز أن نقصف عشوائياً أي حي علوي طالما لم يقصفنا، فنحن لا نحارب العلويين ولا نحارب غير العلويين، إنما نحارب النظام المجرم الذي يحتل سوريا ونحارب من يقف معه، ونحارب من يحاربنا ويقصفنا ويجتاح مناطقنا، كائناً من يكون ومن أي طائفة يكون.
نعم، من واجب الجيش الحر ومن حقه أن يهاجم القرى التي تهاجم قرانا وأن يهاجم الأحياء التي تهاجم أحياءنا. وأعلم أن في تلك القرى والأحياء من لم يشارك بالقتال ومن لا يَحِلّ دمه، ولو أنهم حاربونا واحداً لواحد لما حلّ تجاوز المعتدي إلى غيره، ولقد كتبت -منذ أيام- إلى إخوان كرام نشروا فتوى بجواز قتل أطفال من يقتل أطفالنا، فقلت إن ذلك لا يجوز لأن العقوبة لا تتجاوز القاتل إلى غيره، والطفل بريء لا يُؤاخَذ ولو كان ابن شبّيح مجرم قاتل، ونقلت في هذا المعنى كلاماً للقرطبي في تفسيره أعيد إثباته هنا للأهمية، قال: "من ظلمك فخذ حقك منه بقدر مظلمتك، لا تتعدّ إلى أبويه ولا إلى ابنه أو قريبه" (الجامع 2/360). وعقّب أخ كريم مؤيّداً فنقل إجماع العلماء على تحريم قتل المجاهدين لنساء وصبيان المحاربين ما لم يقاتلوا، قال: "حكى هذا الإجماعَ ابنُ حزم في مراتب الإجماع (ص201) والنووي في شرح صحيح مسلم (12/48) وابن حجر في فتح الباري (6/147)، وغيرهم".
الحكم السابق صحيح ما دام القتال فردياً، واحداً لواحد، أما إذا كان قتالاً عاماً تُقصَف فيه أحياؤنا من أحيائهم أو تَشنّ فيه الهجومَ على قرانا الجماعاتُ المعتدية من قراهم فلا يبقى لنا خيار إلا الرد رداً عاماً، وللإمام رشيد رضا كلام واضح مُحكَم في هذا؛ قال في تفسير قوله تعالى {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}: "القصد أن يكون الجزاء على قدر الاعتداء بلا حيف ولا ظلم، كقتل المجرمين بلا ضعف ولا تقصير (قلت: هذه الجملة تنطبق على الشبيحة حالياً)، وأزيد على هذا ما هو أولى بالمقام وهو المماثلة في قتال الأعداء، فالمقاتل بالمدافع والقذائف النارية أو الغازية السامة يجب أن يُقاتَل بها، وإلا فاتت الحكمةُ لشرعية القتال، وهي منعُ الظلم والعدوان والفتنة والاضطهاد، وتقريرُ الحرية والأمان والعدل والإحسان" (المنار 2/213).
(5) النداء الأخير أوجهه إلى الأمة الإسلامية. لقد حمّلتُ إخواننا المسلمين في كل مكان جزءاً من المسؤولية والعبء فيما مضى، واليوم أحمّلهم المسؤولية والعبء ضعفين أو أضعافاً مضاعفة. إخوانكم في سوريا يذبّحون ذبح الدجاج والنعاج وتهدّم بيوتهم فوق رؤوسهم؛ قد انقطع رجاؤهم من كل أحد إلا من الله ثم منكم، وأيِسوا من كل مُعين إلا من الله ثم منكم، وإنهم ليس لهم -بعد الله- غيركم، فإلا تمدّوهم بالمال اللازم للحياة والمال اللازم لشراء السلاح لا تبقى لهم باقية.
أيها المسلمون: أهل السنّة في سوريا أمانة في أعناقكم، فلا تخذلوهم ولا تُسْلموهم إلى عدوهم فتندموا يوم لا ينفع الندم. نعم، إنهم أمانة في أعناقكم، ولسوف يسألكم الله عن الأمانة يوم الحساب، فأعدّوا لذلك اليوم -منذ اليوم- الجواب.