[center]بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الصراع بين السلطة البعثية النصيرية الحاكمة والإسلام في سورية
الصراع مع حزب البعث الحاكم
المشكلة الكبرى التي واجهها الإسلاميون ودفعوا ثمنها، هي أنهم لا يتصورون
أن الجيش الذي يُبنى ليحمي الوطن، يمكن أن يكون وسيلةً للقفز إلى السلطة،
وأنّ الدّبابة يمكن أن تحلّ محلّ صندوق الاقتراع!.. هذا التصوّر الذي عمل
به الآخرون، فتمكّنوا من السيطرة على مقاليد الجيش والآلة العسكرية التي
فرضوا من خلالها أنفسهم على الوطن والشعب، وأزاحوا عن الخارطة الوطنية كل
القوى السياسية التي يمكن أن تنافسهم!..
كان الوطن يموج بالحركة والحيوية والنشاط والأمن والأمان .. إلى أن جاءت
صبيحة الثامن من آذار عام 1963م، فوَأَدَ الانقلابُ العسكري البعثيّ كل ما
كان، وأُدخِلَت البلاد في نفقٍ مظلمٍ، ما تزال تعاني من وطأته حتى الآن!..
أولاً : نُذُر الصراع وأسبابه
إنّ خلاف الإسلاميين مع النظام السوري الحاكم، كان في الأصل جزءاً من
الخلاف بين الفكر العلماني والفكر الإسلامي، إلى أن استأثر حزب البعث
بالسلطة عام 1963م، واتبع أساليب القمع والإرهاب ضد خصومه السياسيين، وقام
بخطواتٍ استئصاليةٍ ضد الحركات الإسلامية عامةً في سورية، وذلك تنفيذاً
لمقرراتٍ حزبيةٍ بعثيةٍ اتخذت منذ عام 1965م وما بعده، إذ صُنّفت بموجبها
الحركات الإسلامية ضمن القوى الرجعية المضادة للثورة، فبدأت حملات التصفية،
وفُتحت المعتقلات لأبناء الحركات الإسلامية والإسلاميين، وقد كانت حالة
الطوارئ والأحكام العرفية المفروضة على البلاد منذ عام 1963م، وأساليب
القمع ومحاولات استئصال الآخر التي اتبعها النظام .. كانت الخطأ الأكبر
والأول الذي أسّس للصراع بين الطرفين، كما أنّ الحرب المعلنة على الحركات
الإسلامية وعلى الإسلاميين وتهديدات النظام لهم بالتصفية، والشروع في تنفيذ
تهديداته بحقهم، واتهامهم اتهاماتٍ باطلة، وتحميلهم مسؤولية أحداثٍ
واعتداءاتٍ لا علاقة لهم بها، واستمرار الاعتقالات والتصفيات في السجون،
والإعدامات الظالمة من غير محاكمات، وفرض القانون رقم (49) لعام 1980م،
الذي يحكم بالإعدام على كل مَن ينتسب إلى جماعة الإخوان المسلمين (مجرد
الانتماء)، واستمرار الملاحقات داخل الوطن وخارجه، وتنفيذ المجازر الجماعية
العديدة التي باتت معروفةً للجميع، كمجزرة سجن تدمر، ومجازر حماة، وحلب،
وجسر الشغور، و.. كل ذلك قاد إلى حالة الاحتقان القصوى، ثم إلى تفجّر
الصراع بين الطرفين!..
ثانياً : انقلاب البعث وبداية احتدام الصراع (في عام 1963م)
لقد كان انقلاب الثامن من آذار عام 1963م كارثةً حقيقيةً ما تزال سورية
تعاني منها حتى اليوم، إذ أدخِلَت البلاد في نفق حكم الحزب الواحد المنفرد
المتسلط القمعيّ، فقُمِعَ الإنسان السوريّ على نحوٍ لم يسبق له مثيل في
تاريخه، وأُدخِلَت سورية في مرحلة تدمير البنية التحتية الأساسية للمجتمع،
عبر صراعاتٍ طبقيةٍ اتخذت فيما بعد الصبغة الطائفية الواضحة، حين فتح حزب
البعث الباب على مصراعيه أمام الأقليات الطائفية، لتمسك بزمام الأمور
ومفاصل القوّة الحقيقية والسلطة في البلاد، وبدأت تظهر الحالة العدائية
الحزبية للإسلام، عبر تحدي قِيَمِه وعقيدته، وإكراه الناس على عقائد
وسلوكياتٍ معاديةٍ لعقيدة الإسلام، وعبر منهجٍ تدميريٍ ثابتٍ أصيلٍ تمتعت
به كل الحكومات المتعاقبة .
كان قفز حزب البعث إلى السلطة نقطة انعطافٍ خطيرةٍ في تاريخ سورية، فقد عمد
إلى مصادرة الحريات العامة، وحلّ الأحزاب السياسية، وإغلاق الصحف والمجلات
ومنابر الرأي، وفرض الأحكام العرفية، واحتكار وسائل الإعلام، وإلغاء كل
دورٍ للمعارضة السياسية!.. فقد بدأ في سورية حكمٌ فرديّ، عطّل الحياة
السياسية، ولاحق الأحرار وأصحاب الرأي المخالف وطاردهم، وأعلن قوائم طويلةً
للإقصاء المدنيّ، كان ضحاياه مئات رجال الفكر والدين والسياسة، وتشبّث
بالشعارات والأدبيّات الاستبدادية، وتبنّىعقيدة (العنف الثوري) لتصفية
خصومه المخالفين له في الرأي، ولم ينجُ من عواقب هذا السلوك حتى رجال البعث
أنفسهم، عبر التصفيات المصلحية التي جرت بينهم، والانقلابات العسكرية التي
وقعت من قِبَل بعضهم على بعضهم الآخر!..
أمام شدّة الهجمة القمعية، وتحت وطأة الاستبداد الدمويّ، التي بدأت بفرض
قانون الطوارئ الصادر بالأمر العسكري رقم (2) وتاريخ (8/3/1963م)، أمام ذلك
كله .. أخلى كثير من القوى السياسية الساحةَ، وتُرك المجتمع السوريّ وحده
يواجه البطش والتنكيل وعمليات التضليل الأيديولوجي والفكري!.. لكنّ الحركة
الإسلامية على الرغم من أنها كانت في رأس قائمة الاستئصال .. فقد وَعَتْ
أنها دخلت مرحلةً صعبةً قاسيةً من التحدي الفكري والعقدي والنفسي، فقرّرت
خوض الصراع الشامل المفروض : فكرياً ودعوياً وعقدياً وتربوياً، وذلك من
منطلق أنّ الدعوة فرض عينٍ على كل مسلم، وأنّ الدفاع عن عقيدة المجتمع
السوري وإسلامه واجب شرعيّ لا يمكن التخلي عنه، وهذا ما بدأ يطبع الفكر
الإسلاميّ وحركة الإسلاميين بطابعٍ مميّز، مختلفٍ عن سائر العهود الماضية
السابقة لهذه المرحلة، كما فرض على الحركة طابع التنظيم السرّي مع المحافظة
على علنية الدعوة، وذلك لتحفظ أبناءها من شرّ الاستبداد، وتحافظ في نفس
الوقت على مسيرة العمل الدعويّ الإسلاميّ .
ثالثاً : تسخين الصراع في المراحل الأولى من حكم البعث (حتى عام 1970م)
تميزت هذه الفترة من حكم البعث بثلاث ميزات رئيسية :
الأولى : بطش السلطة بالقوى المعارضة لاسيما الناصريين والإسلاميين .
الثانية : وقوع سلسلةٍ من التصفيات والانقلابات الانشقاقية داخل حزب البعث
نفسه، انتهت إلى إقصاء مؤسّسي الحزب الأصلاء وملاحقتهم، من مثل : (ميشيل
عفلق، وصلاح البيطار، وشبلي العيسمي، ..)!..
الثالثة : اشتداد زحف الأقليات الدينية (لاسيما النصيريين) باتجاه الحزب
والجيش، والسيطرة عليهما، وقد تُوِّج ذلك بحركة الضابط النصيري (صلاح جديد)
في 23 من شباط عام 1966م، ثم بحركة الضابط النصيري وزير الدفاع (حافظ
الأسد) .
إنّ السيطرة الطائفية على أهم مراكز القوة في الحزب والجيش السوري كان قد
دُبِّر بليل، فمنذ عام 1959م، تشكّلت اللجنة العسكرية للحزب (على الرغم من
قرار حلّه في عهد الوحدة) من خمسة ضباط، ثلاثة منهم نصيريون، هم (محمد
عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد)، واثنان إسماعيليان، هما : (عبد الكريم
الجندي وأحمد المير)!.. وبعد انقلاب آذار في عام 1963م، تم توسيع تلك
اللجنة العسكرية، ليصير عدد أعضائها خمسة عشر عضواً .
إن التصفيات التي وقعت في صفوف الحزب ومراكز القوى، آلت أخيراً باللجنة
العسكرية إلى ثلاثةٍ من الطائفيين النصيريين، هم : (محمد عمران، وصلاح
جديد، وحافظ الأسد)، وانتهت أخيراً في عام 1970م، إلى (حافظ الأسد)، الذي
كرّس نظاماً طائفياً، بعد أن تغلغل أبناء الطائفة النصيرية –فضلاً عن الحزب
والجيش- في كل مرافق الدولة السياسية والاقتصادية والأمنية .
من القضايا المهمة التي وقعت في هذه الفترة (1963-1970م)، وكان لها الأثر
الكبير في تحديد معالم الصراع بين الإسلاميين والبعث النصيري الحاكم، ما
يلي :
أولاً : تصعيد السلطة لدرجة الصراع مع الإسلاميين، بتعرّضها الاستفزازيّ
للمسلمين وعقيدة الإسلام، ومن الإجراءات والسلوكيات التي مارستها السلطة :
1- إلغاء كلمة (مسلم) من البطاقة الشخصية .
2- تحويل مالية وزارة الأوقاف (ذات الموارد الضخمة) إلى الموازنة العامة،
وبيع ممتلكاتها بأسعارٍ زهيدة، استغلها أعضاء السلطة المتنفذة، وأصبحوا من
كبار الأثرياء .
3- إلغاء علامة مادة التربية الإسلامية من مجموع علامات الشهادتين الإعدادية والثانوية .
4- تعديل مادتي التربية الإسلامية والتاريخ بشكلٍ ضارٍ سافر .
5- التحرك نحو إلغاء المدارس الشرعية .
6- الاعتداء على القرآن الكريم في بعض المحافظات، لاسيما في حماة ودمشق .
7- الاعتداء على بعض مدرّسي التربية الإسلامية، ونقل عددٍ منهم من مدارسهم نقلاً تعسّفياً .
8- طعن أحد مؤسّسي حزب البعث، هو (زكي الأرسوزي).. طعنه بالإسلام في مقالةٍ
كتبها في مجلة (جيش الشعب)، التي تحدث فيها عما سمّاها بـ (أسطورة آدم)!..
9- السخرية من الإسلام والمسلمين في مجلة (الفجر)، بنشر صورة حمارٍ على رأسه عمامة!..
10- نشر مقالةٍ استفزازيةٍ في مجلة (جيش الشعب) الصادرة عن إدارة التوجيه
المعنوي للجيش والقوات المسلحة، بقلم (إبراهيم خلاص) بتاريخ (25/4/1967م)،
وفيها دعا إلى (وضع الله -جل جلاله- والأديان .. في متاحف التاريخ)!..
11- اعتقال مجموعةٍ كبيرةٍ من رموز الحركة الإسلامية وقادتها في عام 1964م.
12- اعتقال مجموعةٍ كبيرةٍ أيضاً من رموز الحركة الإسلامية وقادتها في عام
1967م، وعدم الإفراج عنهم إلا بعد انتهاء حرب حزيران وهزيمتها.
13- وقوع كارثة هزيمة حرب حزيران في عام 1967م، التي ضاعت فيها الجولان
والجبهة المنيعة جداً، حين أمر وزير الدفاع النصيري (حافظ الأسد) الجيشَ
بالانسحاب الكيفي، بعد أن أعلن في الإذاعة ببلاغٍ عسكريٍ رسميٍ ممهورٍ
باسمه (وزيراً للدفاع) وبتوقيعه .. سقوط عاصمة الجولان : (القنيطرة)، بيد
الجيش الصهيوني، وذلك قبل سقوطها فعلياً بحوالي عشرين ساعة .
14- إسراع حكومة البعث النصيري بإعدام الجاسوس الصهيوني (إلياهو كوهين)، بعد افتضاح علاقته برموز السلطة، وذلك تغطيةً لمن وراءه .
15- تنظيم الحزب النصيري الحاكم ميليشياتٍ عماليةٍ وجمعياتٍ فلاحيةٍ
ومنظماتٍ طلابية، وشحنها بمبادئه وأهدافه المعادية للإسلام والمسلمين،
وبأحقاده ضد أبناء الوطن المخالفين له بالرأي .
16- صدور قراراتٍ عن المؤتمر القطري الثامن لحزب البعث المنعقد في عام
1965م، التي (تعتبر الحركات الإسلامية ظاهرةً خطيرة، وأنّ الموقف منها
ينبغي ألا يكون مقتصراً على الأسلوب العادي الذي يُتَّبَع مع الحركات
التقليدية)!..
17- تصريح الضابط النصيري (حافظ الأسد) من (ثكنة الشرفة) في حماة عام
1964م، بأن نية الحزب تتجه باتجاه تصفية المعارضين جسدياً، حين قال :
(سنصفّي خصومنا جسدياً)!..
ثانياً : وقوع بعض الصدامات بين الإسلاميين من جهة .. وبين السلطات البعثية الحاكمة من جهةٍ ثانية، ومن هذه الصدامات :
1- الاضطرابات والاحتجاجات الدامية، التي وقعت في عددٍ من المدن السورية
الكبرى، بسبب مقالة (إبراهيم خلاص) التي تطاول فيها على الذات الإلهية .
2- اندلاع ثورة حماة الأولى (ثورة جامع السلطان) في عام 1964م، التي استشهد
فيها أكثر من خمسين شخصاً من الإسلاميين، واعتقل عدد كبير منهم، وحُكِمَ
على بعضهم بالإعدام، من مثل : (مروان حديد، وعبد الجبار سعد الدين، و..)،
وهُدِمَ جامع السلطان بالسلاح فوق رؤوس المصلين!..
3- تصدي مجموعاتٍ من الإسلاميين (كتائب محمد) للسلطة في عام 1965م، بعد
اقتحام الحرس القومي البعثي الجامعَ الأمويَ في دمشق بالدبابات والسلاح،
وسقوط العشرات من القتلى والجرحى، واعتقال المئات من الشباب المسلم .
لقد أفرزت هذه الفترة من تاريخ سورية (1963-1970م) وضعاً سياسياً شاذاً،
فقد انتُهكَت الوحدة الوطنية بصورةٍ بشعة، وبدأ الطائفيون يتخندقون حول
الحكم البعثي الذي أصبح طائفياً، إلى أن انتهت مقاليد الأمر إلى اللجنة
العسكرية الطائفية النصيرية الثلاثية (عمران وجديد والأسد)، فاستأثر
أعضاؤها بحكم سورية –حقيقةً وواقعاً- من بابها إلى محرابها؟!.. ثم وقعت
التصفيات بين رؤوس مثلث الطائفيين النصيريين، فآلت الأمور أخيراً إلى (حافظ
الأسد)، الذي حوّل الحكم في سورية إلى حُكمٍ طائفيٍ نصيريٍ عائليٍ وراثيٍ
بشكلٍ مطلق!..
رابعاً : تبلور الصراع واشتداده في عهد حافظ الأسد (1970-2000م)
لقد بيّنا آنفاً، بأنّ حزب البعث قفز إلى السلطة عن طريق تغلغله في الجيش،
وأنّ الأقليات الطائفية تغلغلت في الحزب والجيش، ثم قفز النصيريون الذين لا
تتجاوز نسبتهم (8%) من عدد سكان سورية .. قفزوا إلى الحزب والجيش والسلطة،
ثم قفز وزير الدفاع النصيري (حافظ الأسد) لاستلام الحكم، بعد أن قام
بمجموعة تصفياتٍ ضد منافسيه وشركائه، منها :
1- قام بتاريخ (16/11/1970م) بانقلابٍ عسكريٍ داخل السلطة الحاكمة، اعتقل
بموجبها (بالتعاون مع مؤيديه وأشدهم تأييداً كان رئيس الأركان مصطفى طلاس)
العناصر المناوئة له من كبار رجال السلطة، على رأسهم : رئيس الجمهورية (نور
الدين الأتاسي)، واللواء (صلاح جديد)، ورئيس الوزراء (يوسف زعيّن)، ثم دعا
الشعب (أي حافظ الأسد)، لانتخابه مرشحاً وحيداً لرئاسة الجمهورية!..
2- احتل الانقلابيون بقيادة (حافظ الأسد) مكاتب الحزب والمنظمات الشعبية .
3- أمر الأسد باعتقال قادة الحزب، خاصةً أعضاء المؤتمر القومي الاستثنائي،
الذين كانوا قد أعفوه مع زميله رئيس الأركان (مصطفى طلاس) من منصبيهما، وقد
هرب أعضاء المؤتمر المذكور إلى لبنان .
4- تخلّص من رئيس مخابرات الأمن القومي (عبد الكريم الجندي)، وادعى انتحاره .
5- دبّر بتاريخ (4/3/1972م)، اغتيال شريكه في اللجنة العسكرية الثلاثية (محمد عمران)، في (طرابلس - لبنان) .
منذ سيطرته على رأس هرم السلطة، بدأ (حافظ الأسد) بصياغة المجتمع السوري
صياغةً مخالفةً لدين الشعب وعقيدته وتوجّهاته الفطرية الإسلامية، باتجاه
التغريب والضلال والفساد والانحراف عن الإسلام، فكرياً وثقافياً وعقدياً
وتعليمياً وإعلامياً وتربوياً واجتماعياً وأخلاقياً، وسخّر أجهزة الدولة
وأجهزة الحزب كلها لسلخ الأمة عن قِيَمِها وإسلامها!.. ولفهم حقائق الصراع
مع النظام الحاكم في هذا العهد (منذ عام 1970م)، وتسهيلاً للتقصي والبحث ..
فإننا سنجزّئ هذه المرحلة من الصراع ما بين الإسلام والنظام الحاكم، إلى
ثلاث مراحل :
1- المرحلة الأولى (1970-1979م) : تكامل عوامل الصراع .
2- المرحلة الثانية (1979-1982م) : الانفجار الشامل .
3- المرحلة الثالثة (1983-2000م) : الصراع السياسي والإعلامي والأمني .
1- المرحلة الأولى (1970-1979م) : تكامل عوامل الصراع
على الرغم من أن الحركة الإسلامية في هذه المرحلة لم تقم بأية معارضةٍ
عنيفة، فإنّ سجون النظام لم تخلُ من المعتقلين الإسلاميين، الذين كانوا
يتعرضون لأسوأ الظروف والتعذيب الجسدي والنفسي والإذلال والقهر، وأحياناً
للتصفية الجسدية كما حصل في عام 1976م مع الشهداء : (حسن عصفور، ومروان
حديد)، والفتاة المسلمة الشهيدة (غفران أنيس)، وغيرهم .
كانت هذه المرحلة فترةً خصبةً بالنسبة للحركة وللعمل الإسلامي والدعوي
بشكلٍ عام، فقد توافرت للدعوة الإسلامية (في المجتمع السوري) بيئة مستجيبة
وحماس واضح للإسلام وللالتزام، ومن أبرز ما ميّز هذه المرحلة، على مستوى
العمل الإسلاميّ الدعويّ، ما يلي :
1- اتساع نشاط الإسلاميين اتساعاً كبيراً، إذ انتشرت المساجد والدروس
الدينية وخطب الجمعة التي يقوم بها العلماء والدعاة، واستُقطِبَت شرائح عدة
من المجتمع، وأعداد كبيرة من مرحلة الشباب (ذكوراً وإناثاً)، خاصةً من
المرحلتين الثانوية والجامعية .
2- اتخاذ المناسبات الدينية أشكالاً تظاهريةً شديدة الزخم، وكانت تبدو كأنها مهرجانات ضخمة تعمّ سائر أرجاء البلاد والمجتمع .
3- اتساع ظاهرة احتفالات الأعراس الإسلامية في المساجد، إذ تحولت إلى
مناسباتٍ دعويةٍ علنية، زادت من استقطاب شباب الأمة وشاباتها باتجاه
الإسلام .
4- اتساع ظاهرة انتشار الكتب الإسلامية بشكلٍ كبير، على الرغم من الرقابة
وسياسة منع تداولها التي كانت تُفرَض عليها من قبل السلطات الحزبية والنظام
الحاكم، وكذلك انتشار ظاهرة (الأناشيد الإسلامية) عبر أشرطة الكاسيت،
انتشاراً واسعاً (أشرطة أبي الجود وأبي مازن وأبي عبد الله البربور)، إذ
أصبحت سمةً بارزةً للنشاط الدعوي الإسلامي، وقد لعبت هذه الأشرطة والأناشيد
دوراً كبيراً، في تعويض الشباب المسلم عن الأغاني الماجنة، وفي تزكية
نفوسهم وتحفيزها ضد الظلم والظالمين .
5- ازدياد نشاط الحركة الإسلامية في عقد الندوات والمحاضرات الأدبية
والعلمية، خاصةً في المراكز الثقافية التي تديرها الدولة، بالتعاون مع
أصدقاء الإسلاميين في هذه المراكز .
6- المشاركة في جزءٍ كبيرٍ من الأنشطة الخيرية للمجتمع السوري، ودعمها بالمال والمتطوعين من الإسلاميين .
7- اتساع حركة تداول المجلات الإسلامية، السورية (مثل مجلة حضارة الإسلام)
أو غير السورية التي كانت تدخل سراً إلى البلاد، من مثل : (مجلة الدعوة
المصرية، ومجلة المجتمع الكويتية) .
8- الاتساع الكبير لشريحة المدرّسين الإسلاميين في المدارس والجامعات،
الذين كان لهم دور كبير في الدعوة الإسلامية والتنظيمية والتوسع الأفقي .
9- بروز ظاهرة ازدياد أعداد الإسلاميين من الأطباء والمهندسين والصيادلة
والمحامين، وكان لبعضهم دور بارز في النقابات المهنية، التي كان لها -في
المراحل اللاحقة- دور مهم في التصدي لظلم السلطة ونهجها القمعيّ
الاستئصاليّ .
10- كان الانتشار الواسع للإسلام ودعاته ومؤيديه والمتعاطفين معه، يرافقه
-بدرجاتٍ متفاوتة- سعي جاد للضبط التنظيمي، ولترشيد العمل والحركة.
11- شاركت الحركة -بشكلٍ غير مباشرٍ- في بعض الانتخابات النيابية، ونجح بعض
مرشّحيها في هذه الانتخابات، ودخلوا (مجلس الشعب)، ومن هؤلاء : الدكتور
(زين العابدين خير الله) نقيب أطباء سورية، والشيخ الدكتور (إبراهيم
سلقيني) عميد كلية الشريعة في جامعة دمشق .
كانت الحركة الإسلامية في هذه المرحلة تسعى لبناء قاعدةٍ نخبويةٍ حيوية،
لقيادة عملية تنوير المجتمع المسلم أصلاً.. على أسسٍ إسلامية، وبناء
المجتمع المدنيّ القادر على صيانة حقوق المواطن السوريّ، مهما كان دينه أو
جنسه أو عِرْقه أو مذهبه أو اتجاهه السياسيّ، فالوطن لكل أبنائه، يشتركون
كلهم في بنائه ونهضته وتطويره!.. وكان الإسلاميون وأصحاب الرأي والفكر
منهم، يعملون دائبين على دحض مفتريات ما كان يُعرَف بالاشتراكية العلمية،
ومرتكزاتها المادّية الإلحادية الغريبة عن المجتمع السوريّ المسلم،
وإفرازاتها الاستبدادية والشمولية، ويبشّرون بالمنهج الإسلامي منهجاً
وسطياً بديلاً، يحمل كفاءته وروح أمّتنا وحضارتها على كل صعيد!.. واستمرت
الحركة الإسلامية في تأدية رسالتها العقدية والحضارية والوطنية، دعوةً إلى
الخير والبرّ والإحسان، وتنديداً بالفساد والاستبداد والانحراف، بالحكمة
والموعظة الحسنة، وقد نجحت فعلاً في استقطاب النُخَبِ المتقدّمة في
المجتمع، العلمية والثقافية، التي تركت بصماتها وآثارها العميقة على
النقابات والمؤسّسات العلمية والثقافية، على الرغم من رقابة النظام
الصارمة، وقمعه واستبداده!..
أمام هذا التقدم الذي أحرزته الحركة، واتساع رقعة جماهيرها العريضة، ازداد
حنق النظام عليها وعلى أبنائها، وبدأ بالتضييق على الإسلاميين من أبناء
الشعب، وفق خطةٍ منهجيةٍ استفزازية، كان هدفها الأساس : تفجير الوضع
الداخلي للمجتمع، لإجهاض أي نشاطٍ أو نجاحٍ يمكن أن تحققه الحركة الإسلامية
في سورية، وكان قرار الحركة السياسي واضحاً، هو : ألا تنجرّ وراء هذه
الاستفزازات مهما بلغت شدة المحنة، وأن تبذل كل الجهد لاحتوائها .. لكن
النظام كان له رأي آخر، بل هدف آخر، هو: تفجير المجتمع السوريّ من داخله،
لتسهيل السيطرة عليه، وكبح جماح سيره المطّرد باتجاه الحرية الحقيقية
وإزاحة كابوس البطش والقمع والتسلّط وأحادية الحكم والسلطة .. عن كاهله!..
فكيف كان نهج النظام وتخطيطه وتنفيذه .. تجاه كل ذلك في هذه المرحلة
(1970-1979م)؟!..
1- تنفيذ منهجٍ استئصاليٍ ثابتٍ في الجيش السوري، الذي حوّله النظام إلى
ساحةٍ متخمةٍ بالصراع الحزبيّ والطائفيّ والفئويّ، فتم إبعاد كل الخصوم
السياسيين عن الجيش، كالضباط الذين عارضوا سياسة فك الاشتباك في الجولان،
ومناوئي التدخل العسكري في لبنان ضد الفلسطينيين والمسلمين، (تمت إحالة
مئتي ضابطٍ على التقاعد المسبق عام 1978م، ونقل أكثر من أربع مئةٍ وخمسين
ضابطاً إلى أماكن جديدةٍ في الجيش في عام 1979م) .. وكذلك تنفيذ عمليات
الاختطاف والاغتيال ضد الضباط الشرفاء والعسكريين الإسلاميين، من مثل :
(دريد المفتي، وخليل مصطفى بريز، وعلي الزير، وأحمد الحميّر، وغيرهم..)!..
يضاف إلى ذلك تنفيذ سياسةٍ ثابتةٍ داخل الجيش، في محاربة الشعائر
الإسلامية، والحض على الكفر، والمجاهرة بالمعاصي والكبائر، انطلاقاً من
مقرراتٍ بتنفيذ نهج (تبعيث) الجيش والتعليم والإعلام .
2- تنفيذ سياسة سلخ الأمة عن دينها وعقيدتها، وكان أبرز ما فعله النظام على
هذا الصعيد، إصدار دستورٍ علمانيٍ للبلاد (في عام 1973م)، يحتوي على عيوبٍ
كثيرةٍ لم يسبق لها مثيل في أي دستورٍ سابقٍ لسورية، وكان أهم تلك العيوب :
تجاهل دين الدولة، ودين رئيس الدولة (الإسلام)!.. ما أدى إلى نشاطٍ
إسلاميٍ واسعٍ في طول البلاد وعرضها، لمعارضة الدستور الجديد الذي سمي
بالدستور (الدائم)، ووقعت الاضطرابات لاسيما في الجامعات، وقاد العلماء
والمشايخ والمثقفون ورجال الفكر والقانون حركةَ معارضةٍ نشطةٍ واسعةٍ في
المحافظات السورية الكبرى (دمشق وحمص وحماة و..)، فقابلها النظام بحملة
قمعٍ وحشيٍ عنيف، أدت إلى سقوط قتلى وجرحى، وإلى اعتقال أعدادٍ كبيرةٍ من
الإسلاميين والعلماء والمشايخ، وقد استمر اعتقالهم من بضعة أسابيع لبعضهم،
إلى بضع سنواتٍ لبعضهم الآخر (الشيخ سعيد حوا، والشيخ محمد علي مشعل،
والشيخ فاروق بطل) .
3- دخول النظام في حرب تشرين (1973م) مع الكيان الصهيوني، بوضعٍ داخليٍ
متفجّر، وضاع نتيجتها عدد كبير من قرى الجولان (36 قرية) التي لم يحتلها
الصهاينة في حرب حزيران (1967م)، ثم دخل في مفاوضاتٍ مع العدو الصهيوني،
أعاد الأخير إليه مدينة (القنيطرة) مهدّمة ومنـزوعة السلاح، وأفرج النظام
عن الجواسيس اليهود في السجون السورية، بموجب المرسوم المؤرخ في
(25/2/1974م) المنشور في الجريدة الرسمية، فيما بقي بعض أبناء شعبنا
الوطنيين المخلصين رهن الاعتقال والتنكيل والسجن!.. ثم قام بالتوقيع على
اتفاقية فك الاشتباك مع العدو الصهيوني بتاريخ (30/5/1974م)، واستمر في
الموافقة على تمديد بقاء القوات الدولية في الجولان كل ستة أشهر حتى اليوم .
4- تمزيق الروابط الأسرية عبر منظمة (الاتحاد النسائي البعثية)، وباسم
(حرية المرأة)، وإطلاق العنان لزبانية النظام، لنهش أعراض النساء سراً
وعلانيةً، ولممارسة كل أنواع الفجور والفساد الخلقي، لدرجة اختطاف بعض
الحرائر من الشوارع .
5- تنفيذ خططٍ لبثّ مبادئ الكفر والإلحاد في المناهج الدراسية، وتشويه
مناهج التربية الإسلامية، وتمجيد الحركات الهدّامة كحركة (القرامطة)
وغيرها، ونقل المدرسين الأكفياء إلى دوائر لا تمتّ إلى اختصاصاتهم بِصِلة،
كدوائر التموين والبلدية والإسكان .. وتحريض الطلاب على أساتذتهم للتجسس
عليهم، ووضع خططٍ لإغلاق المعاهد الشرعية، والحؤول دون تعيين المدرّسين
المسلمين والمدرّسات المسلمات في سلك التعليم، وفرض نظام (طلائع البعث)
لأطفال المرحلة الابتدائية، ونظام (الشبيبة البعثية) للمرحلتين الإعدادية
والثانوية .. لإفساد عقيدة الأجيال وتدمير أخلاق أبناء المسلمين وبناتهم،
وإجبار التلاميذ على الانتساب إلى هذه المنظمات الفاسدة والالتحاق
بمعسكراتها السنوية، المختلطة في بعض الأحيان، وذلك بقوة القانون .. وإفساد
التعليم الجامعي بتسليط عناصر الحزب على اتحاد الطلاب وهيئات التدريس
الجامعي، وإقرار التعليم المختلط، وتسريح أكثر من خمس مئة مدرّسٍ ومدرّسةٍ
من مختلف المراحل الدراسية، بعملية إقصاءٍ واسعةٍ في قطاع التعليم طالت
معظم الإسلاميين، وتسريح عددٍ من أساتذة جامعة دمشق الإسلاميين (المرسوم
رقم 1249 بتاريخ 20/9/1979م)، وعددٍ آخر من أساتذة جامعة اللاذقية وموظفيها
(المرسوم رقم 1250 بتاريخ 20/9/1979م)، ونقل عددٍ من أساتذة جامعة حلب إلى
وظائف وأعمالٍ أخرى (المرسوم رقم 1256 بتاريخ 27/9/1979م) .
6- نهب ميزانية الدولة من قِبَلِ رجال السلطة والمتنفّذين من أقربائهم
وعائلاتهم وحاشيتهم، وبناء القصور الفارهة الكثيرة في سورية وخارجها،
وتسليم مؤسسات القطاع العام وشركاته للمرتزقة واللصوص من عصابة الحكم
النصيري البعثي، ما أدى إلى إفلاس معظم هذه المؤسسات، وطبع العملة بلا
رصيد، ونهب واردات النفط التي لم يسمح النظام بإدخالها في حسابات ميزانية
الدولة، بل في حسابات رئيس النظام وعائلته وزبانيته، ونشر الفساد والرشاوى
بشكلٍ مذهلٍ في كل قطاعات الدولة الاقتصادية، وعلى كل المستويات الوظيفية
العليا والدنيا .
7- انتشار مؤسسات الأمن المتعددة الفروع والسجون ومراكز الاستجواب (وصل
عددها إلى أربعة عشر جهازاً أمنياً ومخابراتياً)، لقمع المواطن ومراقبته
والبطش به حين الضرورة، وتأسيس ما سمي بسرايا الدفاع التي يرأسها شقيق رئيس
النظام (رفعت الأسد)، وعددها تجاوز عشرات الألوف من الموالين، لحماية رئيس
النظام والنظام النصيري القائم، وتحويل مهمة المخابرات والمؤسسات الأمنية
عن مهامها الرئيسية في حماية الوطن والشعب من العدو الخارجي وجواسيسه داخل
الوطن .. إلى مهمة حماية النظام الحاكم ورئيسه وحزبه من الشعب والمواطن
السوري .
8- إقصاء القضاة الأكفياء، وتعيين دفعاتٍ جديدة من القضاة ممن ينتمون إلى
حزب النظام، وتعديل قانون الأحوال الشخصية للمسلمين (دون غيرهم)، وانتشار
التوقيف والاعتقال التعسفي دون الرجوع إلى القضاء الذي حوّله النظام إلى
لعبةٍ في أيدي المتنفّذين، فلم يعد المواطن آمناً على روحه أو ماله أو
عِرضه بعد فقدان القضاء العادل، واستمرار العمل بأحكام قانون الطوارئ
المفروض في عام (1963م) .
9- تعطيل الحريات الفكرية والسياسية، وصدور قراراتٍ تمنع تداول الكتب
والمجلات الإسلامية، وتسلّط الحزب على الشعب، وتسلّط الطائفة على الحزب،
وتسلّط عائلة رئيس النظام (حافظ الأسد) على الحزب والدولة والجيش والشعب،
وتأسيس جبهةٍ وطنيةٍ من النفعيين والوصوليين الذين ارتضوا أن يكونوا غطاءً
لممارسات النظام المختلفة بحق الوطن والشعب، تحت اسم (الجبهة الوطنية
التقدمية)، وبروز انتخابات ما يسمى بمجلس الشعب الشكلية، الذي يسيطر عليه
حزب البعث الحاكم .
10- ضرب المقاومة الفلسطينية أكثر من مرة، والتواطؤ على ارتكاب مجازر مخيم (تل الزعتر) الفلسطيني في لبنان .
لقد فعل النظام النصيري البعثي كل ما من شأنه أن يرفع من درجة سخونة الصراع
مع الإسلاميين، للوصول بسياساته الاستفزازية إلى نقطة التفجّر واندلاع
المواجهة معهم ومع الشعب السوري، بهدف ضربهم وتصفيتهم، وتصفية الوجود
الإسلامي في الوطن كله!.. وقد غدت السيطرة على مِرجل الغضب الشعبي المكبوت،
أكبر من طاقة الحركة الإسلامية، بسبب البُعد الطائفيّ الذي كان يزيد من
مشاعر الغضب والإهانة لدى المواطن، فقد كان النظام ينهج نهج تمييزٍ طائفيٍ
حادٍّ في الاستئثار بجميع الفرص أو المواقع ومراكز القوة، بدءاً من مؤسّسة
الجيش التي أصبحت حكراً على أبناء الطائفة النصيرية أولاً، وأعضاء الحزب
ثانياً، وكذلك الحال بالنسبة للمواقع الحكومية الهامة، بدءاً من الوزارات
وانتهاءً بإدارات المدارس، وأصبح أعضاء السلك الدبلوماسي والمسؤولون في
الوزارات والمؤسسات العامة مثلاً، من أبناء الطائفة وبعض البعثيين حصراً،
وكذلك رجال الصحافة والإعلام والبعثات العلمية التي تقتصر عادةً على الطلبة
المتفوّقين، فقد حُصرِت هي الأخرى في أبناء الطائفة النصيرية والبعثيين،
بتجاوز الشروط التأهيلية الحقيقية!..
في هذه المرحلة ونتيجةً للسياسات الشاذة المذكورة آنفاً، بدأ النظام يحصد
ثمار ما زرعه من قمعٍ واستبدادٍ وإذلال، فبدأت عمليات اغتيالٍ مسلّحةٍ ضد
بعض رموزه الأمنية والمخابراتية والسياسية والطائفية والحزبية، التي كان
لها الدور الأكبر في استفزاز المواطن وانتهاك كرامته، وذلك على أيدي عناصر
إسلاميةٍ مستقلة، لكنّ النظام الذي كان يعرف حقيقة الأمر بشكلٍ جليّ،
وبدلاً من تطويق الأزمة التي أسّس لها بنهجه الاستئصاليّ الشاذ .. عمد إلى
شنّ حملاتٍ واسعةٍ من الاعتقال والتنكيل والانتهاكات، بحق الإسلاميين ورموز
الحركة الإسلامية وقواعدهم، فكان لهذه الحملات الشعواء الطائشة، الدور
الأكبر في تسريع الأحداث إلى درجة الانفجار، ثم إلى درجة الانفجار
الشامل!..
:
2- المرحلة الثانية (1979-1982م) : الانفجار الشامل :
لقد نجح النظام فعلاً في تفجير المجتمع السوريّ، وحمّل الإسلاميين مسؤولية
هذا التفجير، الذي كان وقوده شرائح مختلفةً من أبناء الشعب، الذين اتّبع
هذا النظام معهم سياسة الأرض المحروقة، فوجد المجتمع نفسه أمام حرب إبادةٍ
طاحنة، تدور رحاها تحت سمع القوى الدولية الفاعلة وبصرها، وبغطاء الصمت
الذي مارسه المجتمع الدولي، وقد أدّت سياسة القمع والإرهاب والحقد التي
كانت تتم في أقبية السجون، وتصفية بعض المعتقلين من علماء ومثقّفين .. إلى
أن يرى المسلم السوري نفسه بين خيارين اثنين : إما أن يموت تحت سياط
الجلادين فيما لو وقع في قبضة أجهزة الأمن القمعية، أو أن يدافع عن نفسه
بما يصل إلى يديه من وسائل الدفاع!.. وبذلك اختار الشعب خيار الدفاع عن
النفس ومواجهة سياسات البطش، واختارت الحركة الإسلامية لنفسها موقف الثبات
على المبدأ، والإصرار على نَيل حقوق الشعب الإنسانية والمدنية والسياسية!..
علماً بأنّ القمع لم يقتصر على الإسلاميين أو الحركة الإسلامية وحدها، بل
شمل أطراف المعارضة كلها، من إسلاميةٍ وقوميةٍ ويسارية، لكنّ حظ الإسلاميين
من القمع كان الأضخم والأشدّ قسوة!..
وللتدليل على عمق الكارثة التي أخذت تنذر بالانفجار الشامل، وسعي بعض
الشرفاء في الوطن السوريّ -عبثاً- لاستدراك ما يمكن استدراكه، نعيد إلى
الأذهان الحقائق التاريخية التالية :
1- ما سطّره نقيب المحامين السوريين، في مذكّرةٍ خاصةٍ إلى المسؤولين في
النظام الحاكم بتاريخ (17/8/1978م)، التي تضمنت مطالب عدة، أهمها : (..
توفير مناخ الحرية وسيادة القانون، وإطلاق سراح الموقوفين دون مذكّراتٍ
قضائية، أو إحالتهم إلى القضاء ..) .
2- صدور القرار رقم (2) بتاريخ (1/12/1978م) عن المؤتمر العام للمحامين في
سورية، الذي (يكلِف بموجبه مجلسَ النقابة، بمقابلة رئيس الجمهورية،
للمطالبة بإنهاء حالة الطوارئ في البلاد، وللتأكيد على مبادئ الحرية وسيادة
القانون ..) .
3- صدور بيان مجلس نقابة المحامين في سورية بتاريخ (29/9/1979م) جاء فيه :
(إنّ ممارسات النظام نشرت جوّ الهلع والخوف والقلق، وأخلّت بميزان الأمن،
وانتهكت حريات الأفراد والجماعات، واستباحت حُرُمات المنازل، فأصبحت أرواح
المواطنين عرضةً للإزهاق على يد سلطات الأمن، وباتت شرعة الرهائن وتهديم
البيوت وسيلة تأديبٍ جماعية، حتى امتلأت السجون بالرجال والنساء والأطفال،
وبالأعداد الضخمة من صفوف المثقّفين، كالأطباء والمحامين والمهندسين
والمدرّسين..)!..
4- صدور قرار الهيئة العامة لمحامي حلب، الذي يدعو إلى الإضراب العام في يوم (2/3/1980م) .
5- صدور قرار نقابة المحامين في سورية، الذي يدعو إلى الإضراب العام في يوم
الإثنين بتاريخ (31/3/1980م)، بعد فشل كل وسائل المراجعة للمسؤولين في
النظام الحاكم، لتنفيذ مبدأ سيادة القانون، واحترام الحقوق المدنية
والإنسانية للمواطن السوري .
6- اجتماع العلماء والمشايخ في بعض المحافظات (حلب، حماة، حمص، ..) للتداول
في شؤون المسلمين، إذ قرروا في حلب اللقاء مع المحافظ، ليطلبوا منه بعض
المطالب، على رأسها الإفراج عن النساء المسلمات المعتقلات، اللواتي يتعرّضن
في سجون النظام للإهانة والاعتداء والتعذيب والاضطهاد، فرفض المحافظ
مقابلتهم، ما أدى إلى سخط أهل الرأي في المدينة .
7- اندلاع تظاهراتٍ نسائيةٍ في حلب بتاريخ (6/11/1979م)، وفي حمص بتاريخ
(15/7/1981م) وبتاريخ (14/11/1981م) .. وذلك للمطالبة بالإفراج عن أزواجهن
وإخوانهن وأبنائهن وبناتهن!.. وكانت هذه التظاهرات النسائية للنساء
المسلمات المحجّبات .. من ردود الأفعال غير المعهودة في تاريخ سورية!..
8- تنفيذ إضرابٍ عامٍ دعت إليه نقابة المحامين، بتاريخ (31/3/1980م)،
واستجابت له النقابات المهنية الأخرى، وكل فئات الشعب السوري في معظم
المحافظات، وقد كان الإضراب تتويجاً لشهرٍ من الأحداث الهامة، منها انعقاد
المؤتمرات العامة للنقابات العلمية المهنية (الأطباء والصيادلة والمهندسين
والمحامين)، وإصدارها بياناتٍ وقراراتٍ مندّدةٍ بسياسات النظام الحاكم
وممارساته القمعية، ومطالبتها له بإطلاق الحريات العامة، وإلغاء حالة
الطوارئ، والإفراج عن المعتقلين، وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص!.. وقد سبق هذا
الإضراب العام .. إضراب عام في (حماة) بدأ بتاريخ (23/2/1980م)، وفي (حلب)
بدأ بتاريخ (1/3/1980م) .
نعيد إلى الأذهان أيضاً، أنّ الحركة الإسلامية والإخوان المسلمين (الذين
شنّ النظام الحرب على الإسلام تحت غطاء شنّ الحرب عليهم) .. ليسوا تنظيماً
مسلّحاً، والمواجهة المسلّحة مع خصومهم ليست من منهجهم، فهم حركة مسلمة ترى
أنّ الحوار هو الوسيلة الأساس لتحقيق الأهداف، التي تنشد من تحقيقها خير
الفرد والمجتمع والوطن والدولة .. لكنّ النظام أوصد كل منافذ الحوار، وقبل
ذلك بأكثر من عقدٍ من الزمن (كما ذكرنا آنفاً) قام بخطواتٍ منهجيةٍ
استئصالية ضد أبناء الحركة، وضد كل مَن يخالفه الرأي من الإسلاميين أو
غيرهم من الوطنيين، مستخدماً في ذلك أساليب القمع والسحق والإقصاء والتمييز
الطائفيّ العنصريّ، ووضَع الشعب -ومعهم الإخوان المسلمين والإسلاميين-
أمام خيارٍ صعب : إما الإذعان للظلم والخضوع للطغيان، أو الرفض وتحمّل
تبعاته، وقد كانت غطرسة النظام وولعه في إهدار الدماء والأرواح .. أضخم
عائقٍ في طريق حقن الدماء، ودَفْع عواقب الاضطهاد والكراهية والحقد
الطائفيّ الأعمى، وعندما اختار الشعب المقهور مقاومة الاستبداد والاضطهاد
بعد أكثر من عقدٍ من ممارسات النظام القمعية، كانت الحركة الإسلامية جزءاً
من الانتفاضة الشعبية العارمة التي وقفت في وجه الطغيان والتمييز الطائفيّ،
دفاعاً عن أبناء الشعب كلهم، ودفاعاً عن حقوق المواطن السوريّ بشكلٍ عام
!..
لقد قامت هذه الانتفاضة في وجه الطغاة دفاعاً عن النفس، ومقاومةً لإرهاب
النظام الذي مارس سياسة القتل البطيء والسريع ضد أبناء الشعب كلهم، وقد
مارس قمعه وسحقه قبل أن تُطلَقَ طلقة واحدة في وجهه بسنواتٍ طويلة، وكانت
مجازره العلنية التي اقترفها في الثمانينيات، كمجازر تدمر وحماة وجسر
الشغور وحلب وحمص ودمشق وسرمدا و.. كانت الصفحة الأخرى لمجازره السرّية
الصامتة التي ارتكبها في الستينيات والسبعينيات، إذ كان يصنّف خصومه
السياسيين، في خانة الثورة المضادة التي ينبغي استئصالها، وما خطاب الضابط
(حافظ الأسد) في الستينيات في ثكنة (الشرفة) في حماة، إلا الدليل الواضح
على ذلك، فقد قال وقتئذٍ: (سنصفّي خصومنا جسدياً)، وذلك قبل أن يقفز إلى
السلطة بسنوات!.. كل ذلك قاد إلى حالة الاحتقان القصوى، ثم إلى تفجّر
الصراع المسلّح الدمويّ الذي اكتوى بناره أبناء الوطن كلهم!..
مع ذلك، فقد دأبت الحركة الإسلامية في كل مرحلة، على أن تعثر على مخرجٍ
للأزمة بالحوار البنّاء المسؤول، الذي يضع مصلحة الوطن والشعب فوق كل
اعتبار، لكنّ صدى الكلمات كان يضيع أمام تعنّت النظام، الذي أغلق -وما
يزال- كل منفذٍ للحوار!..
هل بعد كل ذلك، يمكن لمنصفٍ أن يحمّل الإسلاميين تبعات ذلك التاريخ الأسود،
الذي كان النظام النصيري، وما يزال، وسيبقى .. مسؤولاً عنه وعن صناعته
وإنتاج مآسيه .. مسؤوليةً كاملة؟!.. فالحركة الإسلامية لم تكن في ذلك، إلا
الضحية التي ما تزال تعاني من طغيان النظام وجبروته واضطهاده المتعدد
الأشكال والألوان!..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الصراع بين السلطة البعثية النصيرية الحاكمة والإسلام في سورية
الصراع مع حزب البعث الحاكم
المشكلة الكبرى التي واجهها الإسلاميون ودفعوا ثمنها، هي أنهم لا يتصورون
أن الجيش الذي يُبنى ليحمي الوطن، يمكن أن يكون وسيلةً للقفز إلى السلطة،
وأنّ الدّبابة يمكن أن تحلّ محلّ صندوق الاقتراع!.. هذا التصوّر الذي عمل
به الآخرون، فتمكّنوا من السيطرة على مقاليد الجيش والآلة العسكرية التي
فرضوا من خلالها أنفسهم على الوطن والشعب، وأزاحوا عن الخارطة الوطنية كل
القوى السياسية التي يمكن أن تنافسهم!..
كان الوطن يموج بالحركة والحيوية والنشاط والأمن والأمان .. إلى أن جاءت
صبيحة الثامن من آذار عام 1963م، فوَأَدَ الانقلابُ العسكري البعثيّ كل ما
كان، وأُدخِلَت البلاد في نفقٍ مظلمٍ، ما تزال تعاني من وطأته حتى الآن!..
أولاً : نُذُر الصراع وأسبابه
إنّ خلاف الإسلاميين مع النظام السوري الحاكم، كان في الأصل جزءاً من
الخلاف بين الفكر العلماني والفكر الإسلامي، إلى أن استأثر حزب البعث
بالسلطة عام 1963م، واتبع أساليب القمع والإرهاب ضد خصومه السياسيين، وقام
بخطواتٍ استئصاليةٍ ضد الحركات الإسلامية عامةً في سورية، وذلك تنفيذاً
لمقرراتٍ حزبيةٍ بعثيةٍ اتخذت منذ عام 1965م وما بعده، إذ صُنّفت بموجبها
الحركات الإسلامية ضمن القوى الرجعية المضادة للثورة، فبدأت حملات التصفية،
وفُتحت المعتقلات لأبناء الحركات الإسلامية والإسلاميين، وقد كانت حالة
الطوارئ والأحكام العرفية المفروضة على البلاد منذ عام 1963م، وأساليب
القمع ومحاولات استئصال الآخر التي اتبعها النظام .. كانت الخطأ الأكبر
والأول الذي أسّس للصراع بين الطرفين، كما أنّ الحرب المعلنة على الحركات
الإسلامية وعلى الإسلاميين وتهديدات النظام لهم بالتصفية، والشروع في تنفيذ
تهديداته بحقهم، واتهامهم اتهاماتٍ باطلة، وتحميلهم مسؤولية أحداثٍ
واعتداءاتٍ لا علاقة لهم بها، واستمرار الاعتقالات والتصفيات في السجون،
والإعدامات الظالمة من غير محاكمات، وفرض القانون رقم (49) لعام 1980م،
الذي يحكم بالإعدام على كل مَن ينتسب إلى جماعة الإخوان المسلمين (مجرد
الانتماء)، واستمرار الملاحقات داخل الوطن وخارجه، وتنفيذ المجازر الجماعية
العديدة التي باتت معروفةً للجميع، كمجزرة سجن تدمر، ومجازر حماة، وحلب،
وجسر الشغور، و.. كل ذلك قاد إلى حالة الاحتقان القصوى، ثم إلى تفجّر
الصراع بين الطرفين!..
ثانياً : انقلاب البعث وبداية احتدام الصراع (في عام 1963م)
لقد كان انقلاب الثامن من آذار عام 1963م كارثةً حقيقيةً ما تزال سورية
تعاني منها حتى اليوم، إذ أدخِلَت البلاد في نفق حكم الحزب الواحد المنفرد
المتسلط القمعيّ، فقُمِعَ الإنسان السوريّ على نحوٍ لم يسبق له مثيل في
تاريخه، وأُدخِلَت سورية في مرحلة تدمير البنية التحتية الأساسية للمجتمع،
عبر صراعاتٍ طبقيةٍ اتخذت فيما بعد الصبغة الطائفية الواضحة، حين فتح حزب
البعث الباب على مصراعيه أمام الأقليات الطائفية، لتمسك بزمام الأمور
ومفاصل القوّة الحقيقية والسلطة في البلاد، وبدأت تظهر الحالة العدائية
الحزبية للإسلام، عبر تحدي قِيَمِه وعقيدته، وإكراه الناس على عقائد
وسلوكياتٍ معاديةٍ لعقيدة الإسلام، وعبر منهجٍ تدميريٍ ثابتٍ أصيلٍ تمتعت
به كل الحكومات المتعاقبة .
كان قفز حزب البعث إلى السلطة نقطة انعطافٍ خطيرةٍ في تاريخ سورية، فقد عمد
إلى مصادرة الحريات العامة، وحلّ الأحزاب السياسية، وإغلاق الصحف والمجلات
ومنابر الرأي، وفرض الأحكام العرفية، واحتكار وسائل الإعلام، وإلغاء كل
دورٍ للمعارضة السياسية!.. فقد بدأ في سورية حكمٌ فرديّ، عطّل الحياة
السياسية، ولاحق الأحرار وأصحاب الرأي المخالف وطاردهم، وأعلن قوائم طويلةً
للإقصاء المدنيّ، كان ضحاياه مئات رجال الفكر والدين والسياسة، وتشبّث
بالشعارات والأدبيّات الاستبدادية، وتبنّىعقيدة (العنف الثوري) لتصفية
خصومه المخالفين له في الرأي، ولم ينجُ من عواقب هذا السلوك حتى رجال البعث
أنفسهم، عبر التصفيات المصلحية التي جرت بينهم، والانقلابات العسكرية التي
وقعت من قِبَل بعضهم على بعضهم الآخر!..
أمام شدّة الهجمة القمعية، وتحت وطأة الاستبداد الدمويّ، التي بدأت بفرض
قانون الطوارئ الصادر بالأمر العسكري رقم (2) وتاريخ (8/3/1963م)، أمام ذلك
كله .. أخلى كثير من القوى السياسية الساحةَ، وتُرك المجتمع السوريّ وحده
يواجه البطش والتنكيل وعمليات التضليل الأيديولوجي والفكري!.. لكنّ الحركة
الإسلامية على الرغم من أنها كانت في رأس قائمة الاستئصال .. فقد وَعَتْ
أنها دخلت مرحلةً صعبةً قاسيةً من التحدي الفكري والعقدي والنفسي، فقرّرت
خوض الصراع الشامل المفروض : فكرياً ودعوياً وعقدياً وتربوياً، وذلك من
منطلق أنّ الدعوة فرض عينٍ على كل مسلم، وأنّ الدفاع عن عقيدة المجتمع
السوري وإسلامه واجب شرعيّ لا يمكن التخلي عنه، وهذا ما بدأ يطبع الفكر
الإسلاميّ وحركة الإسلاميين بطابعٍ مميّز، مختلفٍ عن سائر العهود الماضية
السابقة لهذه المرحلة، كما فرض على الحركة طابع التنظيم السرّي مع المحافظة
على علنية الدعوة، وذلك لتحفظ أبناءها من شرّ الاستبداد، وتحافظ في نفس
الوقت على مسيرة العمل الدعويّ الإسلاميّ .
ثالثاً : تسخين الصراع في المراحل الأولى من حكم البعث (حتى عام 1970م)
تميزت هذه الفترة من حكم البعث بثلاث ميزات رئيسية :
الأولى : بطش السلطة بالقوى المعارضة لاسيما الناصريين والإسلاميين .
الثانية : وقوع سلسلةٍ من التصفيات والانقلابات الانشقاقية داخل حزب البعث
نفسه، انتهت إلى إقصاء مؤسّسي الحزب الأصلاء وملاحقتهم، من مثل : (ميشيل
عفلق، وصلاح البيطار، وشبلي العيسمي، ..)!..
الثالثة : اشتداد زحف الأقليات الدينية (لاسيما النصيريين) باتجاه الحزب
والجيش، والسيطرة عليهما، وقد تُوِّج ذلك بحركة الضابط النصيري (صلاح جديد)
في 23 من شباط عام 1966م، ثم بحركة الضابط النصيري وزير الدفاع (حافظ
الأسد) .
إنّ السيطرة الطائفية على أهم مراكز القوة في الحزب والجيش السوري كان قد
دُبِّر بليل، فمنذ عام 1959م، تشكّلت اللجنة العسكرية للحزب (على الرغم من
قرار حلّه في عهد الوحدة) من خمسة ضباط، ثلاثة منهم نصيريون، هم (محمد
عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد)، واثنان إسماعيليان، هما : (عبد الكريم
الجندي وأحمد المير)!.. وبعد انقلاب آذار في عام 1963م، تم توسيع تلك
اللجنة العسكرية، ليصير عدد أعضائها خمسة عشر عضواً .
إن التصفيات التي وقعت في صفوف الحزب ومراكز القوى، آلت أخيراً باللجنة
العسكرية إلى ثلاثةٍ من الطائفيين النصيريين، هم : (محمد عمران، وصلاح
جديد، وحافظ الأسد)، وانتهت أخيراً في عام 1970م، إلى (حافظ الأسد)، الذي
كرّس نظاماً طائفياً، بعد أن تغلغل أبناء الطائفة النصيرية –فضلاً عن الحزب
والجيش- في كل مرافق الدولة السياسية والاقتصادية والأمنية .
من القضايا المهمة التي وقعت في هذه الفترة (1963-1970م)، وكان لها الأثر
الكبير في تحديد معالم الصراع بين الإسلاميين والبعث النصيري الحاكم، ما
يلي :
أولاً : تصعيد السلطة لدرجة الصراع مع الإسلاميين، بتعرّضها الاستفزازيّ
للمسلمين وعقيدة الإسلام، ومن الإجراءات والسلوكيات التي مارستها السلطة :
1- إلغاء كلمة (مسلم) من البطاقة الشخصية .
2- تحويل مالية وزارة الأوقاف (ذات الموارد الضخمة) إلى الموازنة العامة،
وبيع ممتلكاتها بأسعارٍ زهيدة، استغلها أعضاء السلطة المتنفذة، وأصبحوا من
كبار الأثرياء .
3- إلغاء علامة مادة التربية الإسلامية من مجموع علامات الشهادتين الإعدادية والثانوية .
4- تعديل مادتي التربية الإسلامية والتاريخ بشكلٍ ضارٍ سافر .
5- التحرك نحو إلغاء المدارس الشرعية .
6- الاعتداء على القرآن الكريم في بعض المحافظات، لاسيما في حماة ودمشق .
7- الاعتداء على بعض مدرّسي التربية الإسلامية، ونقل عددٍ منهم من مدارسهم نقلاً تعسّفياً .
8- طعن أحد مؤسّسي حزب البعث، هو (زكي الأرسوزي).. طعنه بالإسلام في مقالةٍ
كتبها في مجلة (جيش الشعب)، التي تحدث فيها عما سمّاها بـ (أسطورة آدم)!..
9- السخرية من الإسلام والمسلمين في مجلة (الفجر)، بنشر صورة حمارٍ على رأسه عمامة!..
10- نشر مقالةٍ استفزازيةٍ في مجلة (جيش الشعب) الصادرة عن إدارة التوجيه
المعنوي للجيش والقوات المسلحة، بقلم (إبراهيم خلاص) بتاريخ (25/4/1967م)،
وفيها دعا إلى (وضع الله -جل جلاله- والأديان .. في متاحف التاريخ)!..
11- اعتقال مجموعةٍ كبيرةٍ من رموز الحركة الإسلامية وقادتها في عام 1964م.
12- اعتقال مجموعةٍ كبيرةٍ أيضاً من رموز الحركة الإسلامية وقادتها في عام
1967م، وعدم الإفراج عنهم إلا بعد انتهاء حرب حزيران وهزيمتها.
13- وقوع كارثة هزيمة حرب حزيران في عام 1967م، التي ضاعت فيها الجولان
والجبهة المنيعة جداً، حين أمر وزير الدفاع النصيري (حافظ الأسد) الجيشَ
بالانسحاب الكيفي، بعد أن أعلن في الإذاعة ببلاغٍ عسكريٍ رسميٍ ممهورٍ
باسمه (وزيراً للدفاع) وبتوقيعه .. سقوط عاصمة الجولان : (القنيطرة)، بيد
الجيش الصهيوني، وذلك قبل سقوطها فعلياً بحوالي عشرين ساعة .
14- إسراع حكومة البعث النصيري بإعدام الجاسوس الصهيوني (إلياهو كوهين)، بعد افتضاح علاقته برموز السلطة، وذلك تغطيةً لمن وراءه .
15- تنظيم الحزب النصيري الحاكم ميليشياتٍ عماليةٍ وجمعياتٍ فلاحيةٍ
ومنظماتٍ طلابية، وشحنها بمبادئه وأهدافه المعادية للإسلام والمسلمين،
وبأحقاده ضد أبناء الوطن المخالفين له بالرأي .
16- صدور قراراتٍ عن المؤتمر القطري الثامن لحزب البعث المنعقد في عام
1965م، التي (تعتبر الحركات الإسلامية ظاهرةً خطيرة، وأنّ الموقف منها
ينبغي ألا يكون مقتصراً على الأسلوب العادي الذي يُتَّبَع مع الحركات
التقليدية)!..
17- تصريح الضابط النصيري (حافظ الأسد) من (ثكنة الشرفة) في حماة عام
1964م، بأن نية الحزب تتجه باتجاه تصفية المعارضين جسدياً، حين قال :
(سنصفّي خصومنا جسدياً)!..
ثانياً : وقوع بعض الصدامات بين الإسلاميين من جهة .. وبين السلطات البعثية الحاكمة من جهةٍ ثانية، ومن هذه الصدامات :
1- الاضطرابات والاحتجاجات الدامية، التي وقعت في عددٍ من المدن السورية
الكبرى، بسبب مقالة (إبراهيم خلاص) التي تطاول فيها على الذات الإلهية .
2- اندلاع ثورة حماة الأولى (ثورة جامع السلطان) في عام 1964م، التي استشهد
فيها أكثر من خمسين شخصاً من الإسلاميين، واعتقل عدد كبير منهم، وحُكِمَ
على بعضهم بالإعدام، من مثل : (مروان حديد، وعبد الجبار سعد الدين، و..)،
وهُدِمَ جامع السلطان بالسلاح فوق رؤوس المصلين!..
3- تصدي مجموعاتٍ من الإسلاميين (كتائب محمد) للسلطة في عام 1965م، بعد
اقتحام الحرس القومي البعثي الجامعَ الأمويَ في دمشق بالدبابات والسلاح،
وسقوط العشرات من القتلى والجرحى، واعتقال المئات من الشباب المسلم .
لقد أفرزت هذه الفترة من تاريخ سورية (1963-1970م) وضعاً سياسياً شاذاً،
فقد انتُهكَت الوحدة الوطنية بصورةٍ بشعة، وبدأ الطائفيون يتخندقون حول
الحكم البعثي الذي أصبح طائفياً، إلى أن انتهت مقاليد الأمر إلى اللجنة
العسكرية الطائفية النصيرية الثلاثية (عمران وجديد والأسد)، فاستأثر
أعضاؤها بحكم سورية –حقيقةً وواقعاً- من بابها إلى محرابها؟!.. ثم وقعت
التصفيات بين رؤوس مثلث الطائفيين النصيريين، فآلت الأمور أخيراً إلى (حافظ
الأسد)، الذي حوّل الحكم في سورية إلى حُكمٍ طائفيٍ نصيريٍ عائليٍ وراثيٍ
بشكلٍ مطلق!..
رابعاً : تبلور الصراع واشتداده في عهد حافظ الأسد (1970-2000م)
لقد بيّنا آنفاً، بأنّ حزب البعث قفز إلى السلطة عن طريق تغلغله في الجيش،
وأنّ الأقليات الطائفية تغلغلت في الحزب والجيش، ثم قفز النصيريون الذين لا
تتجاوز نسبتهم (8%) من عدد سكان سورية .. قفزوا إلى الحزب والجيش والسلطة،
ثم قفز وزير الدفاع النصيري (حافظ الأسد) لاستلام الحكم، بعد أن قام
بمجموعة تصفياتٍ ضد منافسيه وشركائه، منها :
1- قام بتاريخ (16/11/1970م) بانقلابٍ عسكريٍ داخل السلطة الحاكمة، اعتقل
بموجبها (بالتعاون مع مؤيديه وأشدهم تأييداً كان رئيس الأركان مصطفى طلاس)
العناصر المناوئة له من كبار رجال السلطة، على رأسهم : رئيس الجمهورية (نور
الدين الأتاسي)، واللواء (صلاح جديد)، ورئيس الوزراء (يوسف زعيّن)، ثم دعا
الشعب (أي حافظ الأسد)، لانتخابه مرشحاً وحيداً لرئاسة الجمهورية!..
2- احتل الانقلابيون بقيادة (حافظ الأسد) مكاتب الحزب والمنظمات الشعبية .
3- أمر الأسد باعتقال قادة الحزب، خاصةً أعضاء المؤتمر القومي الاستثنائي،
الذين كانوا قد أعفوه مع زميله رئيس الأركان (مصطفى طلاس) من منصبيهما، وقد
هرب أعضاء المؤتمر المذكور إلى لبنان .
4- تخلّص من رئيس مخابرات الأمن القومي (عبد الكريم الجندي)، وادعى انتحاره .
5- دبّر بتاريخ (4/3/1972م)، اغتيال شريكه في اللجنة العسكرية الثلاثية (محمد عمران)، في (طرابلس - لبنان) .
منذ سيطرته على رأس هرم السلطة، بدأ (حافظ الأسد) بصياغة المجتمع السوري
صياغةً مخالفةً لدين الشعب وعقيدته وتوجّهاته الفطرية الإسلامية، باتجاه
التغريب والضلال والفساد والانحراف عن الإسلام، فكرياً وثقافياً وعقدياً
وتعليمياً وإعلامياً وتربوياً واجتماعياً وأخلاقياً، وسخّر أجهزة الدولة
وأجهزة الحزب كلها لسلخ الأمة عن قِيَمِها وإسلامها!.. ولفهم حقائق الصراع
مع النظام الحاكم في هذا العهد (منذ عام 1970م)، وتسهيلاً للتقصي والبحث ..
فإننا سنجزّئ هذه المرحلة من الصراع ما بين الإسلام والنظام الحاكم، إلى
ثلاث مراحل :
1- المرحلة الأولى (1970-1979م) : تكامل عوامل الصراع .
2- المرحلة الثانية (1979-1982م) : الانفجار الشامل .
3- المرحلة الثالثة (1983-2000م) : الصراع السياسي والإعلامي والأمني .
1- المرحلة الأولى (1970-1979م) : تكامل عوامل الصراع
على الرغم من أن الحركة الإسلامية في هذه المرحلة لم تقم بأية معارضةٍ
عنيفة، فإنّ سجون النظام لم تخلُ من المعتقلين الإسلاميين، الذين كانوا
يتعرضون لأسوأ الظروف والتعذيب الجسدي والنفسي والإذلال والقهر، وأحياناً
للتصفية الجسدية كما حصل في عام 1976م مع الشهداء : (حسن عصفور، ومروان
حديد)، والفتاة المسلمة الشهيدة (غفران أنيس)، وغيرهم .
كانت هذه المرحلة فترةً خصبةً بالنسبة للحركة وللعمل الإسلامي والدعوي
بشكلٍ عام، فقد توافرت للدعوة الإسلامية (في المجتمع السوري) بيئة مستجيبة
وحماس واضح للإسلام وللالتزام، ومن أبرز ما ميّز هذه المرحلة، على مستوى
العمل الإسلاميّ الدعويّ، ما يلي :
1- اتساع نشاط الإسلاميين اتساعاً كبيراً، إذ انتشرت المساجد والدروس
الدينية وخطب الجمعة التي يقوم بها العلماء والدعاة، واستُقطِبَت شرائح عدة
من المجتمع، وأعداد كبيرة من مرحلة الشباب (ذكوراً وإناثاً)، خاصةً من
المرحلتين الثانوية والجامعية .
2- اتخاذ المناسبات الدينية أشكالاً تظاهريةً شديدة الزخم، وكانت تبدو كأنها مهرجانات ضخمة تعمّ سائر أرجاء البلاد والمجتمع .
3- اتساع ظاهرة احتفالات الأعراس الإسلامية في المساجد، إذ تحولت إلى
مناسباتٍ دعويةٍ علنية، زادت من استقطاب شباب الأمة وشاباتها باتجاه
الإسلام .
4- اتساع ظاهرة انتشار الكتب الإسلامية بشكلٍ كبير، على الرغم من الرقابة
وسياسة منع تداولها التي كانت تُفرَض عليها من قبل السلطات الحزبية والنظام
الحاكم، وكذلك انتشار ظاهرة (الأناشيد الإسلامية) عبر أشرطة الكاسيت،
انتشاراً واسعاً (أشرطة أبي الجود وأبي مازن وأبي عبد الله البربور)، إذ
أصبحت سمةً بارزةً للنشاط الدعوي الإسلامي، وقد لعبت هذه الأشرطة والأناشيد
دوراً كبيراً، في تعويض الشباب المسلم عن الأغاني الماجنة، وفي تزكية
نفوسهم وتحفيزها ضد الظلم والظالمين .
5- ازدياد نشاط الحركة الإسلامية في عقد الندوات والمحاضرات الأدبية
والعلمية، خاصةً في المراكز الثقافية التي تديرها الدولة، بالتعاون مع
أصدقاء الإسلاميين في هذه المراكز .
6- المشاركة في جزءٍ كبيرٍ من الأنشطة الخيرية للمجتمع السوري، ودعمها بالمال والمتطوعين من الإسلاميين .
7- اتساع حركة تداول المجلات الإسلامية، السورية (مثل مجلة حضارة الإسلام)
أو غير السورية التي كانت تدخل سراً إلى البلاد، من مثل : (مجلة الدعوة
المصرية، ومجلة المجتمع الكويتية) .
8- الاتساع الكبير لشريحة المدرّسين الإسلاميين في المدارس والجامعات،
الذين كان لهم دور كبير في الدعوة الإسلامية والتنظيمية والتوسع الأفقي .
9- بروز ظاهرة ازدياد أعداد الإسلاميين من الأطباء والمهندسين والصيادلة
والمحامين، وكان لبعضهم دور بارز في النقابات المهنية، التي كان لها -في
المراحل اللاحقة- دور مهم في التصدي لظلم السلطة ونهجها القمعيّ
الاستئصاليّ .
10- كان الانتشار الواسع للإسلام ودعاته ومؤيديه والمتعاطفين معه، يرافقه
-بدرجاتٍ متفاوتة- سعي جاد للضبط التنظيمي، ولترشيد العمل والحركة.
11- شاركت الحركة -بشكلٍ غير مباشرٍ- في بعض الانتخابات النيابية، ونجح بعض
مرشّحيها في هذه الانتخابات، ودخلوا (مجلس الشعب)، ومن هؤلاء : الدكتور
(زين العابدين خير الله) نقيب أطباء سورية، والشيخ الدكتور (إبراهيم
سلقيني) عميد كلية الشريعة في جامعة دمشق .
كانت الحركة الإسلامية في هذه المرحلة تسعى لبناء قاعدةٍ نخبويةٍ حيوية،
لقيادة عملية تنوير المجتمع المسلم أصلاً.. على أسسٍ إسلامية، وبناء
المجتمع المدنيّ القادر على صيانة حقوق المواطن السوريّ، مهما كان دينه أو
جنسه أو عِرْقه أو مذهبه أو اتجاهه السياسيّ، فالوطن لكل أبنائه، يشتركون
كلهم في بنائه ونهضته وتطويره!.. وكان الإسلاميون وأصحاب الرأي والفكر
منهم، يعملون دائبين على دحض مفتريات ما كان يُعرَف بالاشتراكية العلمية،
ومرتكزاتها المادّية الإلحادية الغريبة عن المجتمع السوريّ المسلم،
وإفرازاتها الاستبدادية والشمولية، ويبشّرون بالمنهج الإسلامي منهجاً
وسطياً بديلاً، يحمل كفاءته وروح أمّتنا وحضارتها على كل صعيد!.. واستمرت
الحركة الإسلامية في تأدية رسالتها العقدية والحضارية والوطنية، دعوةً إلى
الخير والبرّ والإحسان، وتنديداً بالفساد والاستبداد والانحراف، بالحكمة
والموعظة الحسنة، وقد نجحت فعلاً في استقطاب النُخَبِ المتقدّمة في
المجتمع، العلمية والثقافية، التي تركت بصماتها وآثارها العميقة على
النقابات والمؤسّسات العلمية والثقافية، على الرغم من رقابة النظام
الصارمة، وقمعه واستبداده!..
أمام هذا التقدم الذي أحرزته الحركة، واتساع رقعة جماهيرها العريضة، ازداد
حنق النظام عليها وعلى أبنائها، وبدأ بالتضييق على الإسلاميين من أبناء
الشعب، وفق خطةٍ منهجيةٍ استفزازية، كان هدفها الأساس : تفجير الوضع
الداخلي للمجتمع، لإجهاض أي نشاطٍ أو نجاحٍ يمكن أن تحققه الحركة الإسلامية
في سورية، وكان قرار الحركة السياسي واضحاً، هو : ألا تنجرّ وراء هذه
الاستفزازات مهما بلغت شدة المحنة، وأن تبذل كل الجهد لاحتوائها .. لكن
النظام كان له رأي آخر، بل هدف آخر، هو: تفجير المجتمع السوريّ من داخله،
لتسهيل السيطرة عليه، وكبح جماح سيره المطّرد باتجاه الحرية الحقيقية
وإزاحة كابوس البطش والقمع والتسلّط وأحادية الحكم والسلطة .. عن كاهله!..
فكيف كان نهج النظام وتخطيطه وتنفيذه .. تجاه كل ذلك في هذه المرحلة
(1970-1979م)؟!..
1- تنفيذ منهجٍ استئصاليٍ ثابتٍ في الجيش السوري، الذي حوّله النظام إلى
ساحةٍ متخمةٍ بالصراع الحزبيّ والطائفيّ والفئويّ، فتم إبعاد كل الخصوم
السياسيين عن الجيش، كالضباط الذين عارضوا سياسة فك الاشتباك في الجولان،
ومناوئي التدخل العسكري في لبنان ضد الفلسطينيين والمسلمين، (تمت إحالة
مئتي ضابطٍ على التقاعد المسبق عام 1978م، ونقل أكثر من أربع مئةٍ وخمسين
ضابطاً إلى أماكن جديدةٍ في الجيش في عام 1979م) .. وكذلك تنفيذ عمليات
الاختطاف والاغتيال ضد الضباط الشرفاء والعسكريين الإسلاميين، من مثل :
(دريد المفتي، وخليل مصطفى بريز، وعلي الزير، وأحمد الحميّر، وغيرهم..)!..
يضاف إلى ذلك تنفيذ سياسةٍ ثابتةٍ داخل الجيش، في محاربة الشعائر
الإسلامية، والحض على الكفر، والمجاهرة بالمعاصي والكبائر، انطلاقاً من
مقرراتٍ بتنفيذ نهج (تبعيث) الجيش والتعليم والإعلام .
2- تنفيذ سياسة سلخ الأمة عن دينها وعقيدتها، وكان أبرز ما فعله النظام على
هذا الصعيد، إصدار دستورٍ علمانيٍ للبلاد (في عام 1973م)، يحتوي على عيوبٍ
كثيرةٍ لم يسبق لها مثيل في أي دستورٍ سابقٍ لسورية، وكان أهم تلك العيوب :
تجاهل دين الدولة، ودين رئيس الدولة (الإسلام)!.. ما أدى إلى نشاطٍ
إسلاميٍ واسعٍ في طول البلاد وعرضها، لمعارضة الدستور الجديد الذي سمي
بالدستور (الدائم)، ووقعت الاضطرابات لاسيما في الجامعات، وقاد العلماء
والمشايخ والمثقفون ورجال الفكر والقانون حركةَ معارضةٍ نشطةٍ واسعةٍ في
المحافظات السورية الكبرى (دمشق وحمص وحماة و..)، فقابلها النظام بحملة
قمعٍ وحشيٍ عنيف، أدت إلى سقوط قتلى وجرحى، وإلى اعتقال أعدادٍ كبيرةٍ من
الإسلاميين والعلماء والمشايخ، وقد استمر اعتقالهم من بضعة أسابيع لبعضهم،
إلى بضع سنواتٍ لبعضهم الآخر (الشيخ سعيد حوا، والشيخ محمد علي مشعل،
والشيخ فاروق بطل) .
3- دخول النظام في حرب تشرين (1973م) مع الكيان الصهيوني، بوضعٍ داخليٍ
متفجّر، وضاع نتيجتها عدد كبير من قرى الجولان (36 قرية) التي لم يحتلها
الصهاينة في حرب حزيران (1967م)، ثم دخل في مفاوضاتٍ مع العدو الصهيوني،
أعاد الأخير إليه مدينة (القنيطرة) مهدّمة ومنـزوعة السلاح، وأفرج النظام
عن الجواسيس اليهود في السجون السورية، بموجب المرسوم المؤرخ في
(25/2/1974م) المنشور في الجريدة الرسمية، فيما بقي بعض أبناء شعبنا
الوطنيين المخلصين رهن الاعتقال والتنكيل والسجن!.. ثم قام بالتوقيع على
اتفاقية فك الاشتباك مع العدو الصهيوني بتاريخ (30/5/1974م)، واستمر في
الموافقة على تمديد بقاء القوات الدولية في الجولان كل ستة أشهر حتى اليوم .
4- تمزيق الروابط الأسرية عبر منظمة (الاتحاد النسائي البعثية)، وباسم
(حرية المرأة)، وإطلاق العنان لزبانية النظام، لنهش أعراض النساء سراً
وعلانيةً، ولممارسة كل أنواع الفجور والفساد الخلقي، لدرجة اختطاف بعض
الحرائر من الشوارع .
5- تنفيذ خططٍ لبثّ مبادئ الكفر والإلحاد في المناهج الدراسية، وتشويه
مناهج التربية الإسلامية، وتمجيد الحركات الهدّامة كحركة (القرامطة)
وغيرها، ونقل المدرسين الأكفياء إلى دوائر لا تمتّ إلى اختصاصاتهم بِصِلة،
كدوائر التموين والبلدية والإسكان .. وتحريض الطلاب على أساتذتهم للتجسس
عليهم، ووضع خططٍ لإغلاق المعاهد الشرعية، والحؤول دون تعيين المدرّسين
المسلمين والمدرّسات المسلمات في سلك التعليم، وفرض نظام (طلائع البعث)
لأطفال المرحلة الابتدائية، ونظام (الشبيبة البعثية) للمرحلتين الإعدادية
والثانوية .. لإفساد عقيدة الأجيال وتدمير أخلاق أبناء المسلمين وبناتهم،
وإجبار التلاميذ على الانتساب إلى هذه المنظمات الفاسدة والالتحاق
بمعسكراتها السنوية، المختلطة في بعض الأحيان، وذلك بقوة القانون .. وإفساد
التعليم الجامعي بتسليط عناصر الحزب على اتحاد الطلاب وهيئات التدريس
الجامعي، وإقرار التعليم المختلط، وتسريح أكثر من خمس مئة مدرّسٍ ومدرّسةٍ
من مختلف المراحل الدراسية، بعملية إقصاءٍ واسعةٍ في قطاع التعليم طالت
معظم الإسلاميين، وتسريح عددٍ من أساتذة جامعة دمشق الإسلاميين (المرسوم
رقم 1249 بتاريخ 20/9/1979م)، وعددٍ آخر من أساتذة جامعة اللاذقية وموظفيها
(المرسوم رقم 1250 بتاريخ 20/9/1979م)، ونقل عددٍ من أساتذة جامعة حلب إلى
وظائف وأعمالٍ أخرى (المرسوم رقم 1256 بتاريخ 27/9/1979م) .
6- نهب ميزانية الدولة من قِبَلِ رجال السلطة والمتنفّذين من أقربائهم
وعائلاتهم وحاشيتهم، وبناء القصور الفارهة الكثيرة في سورية وخارجها،
وتسليم مؤسسات القطاع العام وشركاته للمرتزقة واللصوص من عصابة الحكم
النصيري البعثي، ما أدى إلى إفلاس معظم هذه المؤسسات، وطبع العملة بلا
رصيد، ونهب واردات النفط التي لم يسمح النظام بإدخالها في حسابات ميزانية
الدولة، بل في حسابات رئيس النظام وعائلته وزبانيته، ونشر الفساد والرشاوى
بشكلٍ مذهلٍ في كل قطاعات الدولة الاقتصادية، وعلى كل المستويات الوظيفية
العليا والدنيا .
7- انتشار مؤسسات الأمن المتعددة الفروع والسجون ومراكز الاستجواب (وصل
عددها إلى أربعة عشر جهازاً أمنياً ومخابراتياً)، لقمع المواطن ومراقبته
والبطش به حين الضرورة، وتأسيس ما سمي بسرايا الدفاع التي يرأسها شقيق رئيس
النظام (رفعت الأسد)، وعددها تجاوز عشرات الألوف من الموالين، لحماية رئيس
النظام والنظام النصيري القائم، وتحويل مهمة المخابرات والمؤسسات الأمنية
عن مهامها الرئيسية في حماية الوطن والشعب من العدو الخارجي وجواسيسه داخل
الوطن .. إلى مهمة حماية النظام الحاكم ورئيسه وحزبه من الشعب والمواطن
السوري .
8- إقصاء القضاة الأكفياء، وتعيين دفعاتٍ جديدة من القضاة ممن ينتمون إلى
حزب النظام، وتعديل قانون الأحوال الشخصية للمسلمين (دون غيرهم)، وانتشار
التوقيف والاعتقال التعسفي دون الرجوع إلى القضاء الذي حوّله النظام إلى
لعبةٍ في أيدي المتنفّذين، فلم يعد المواطن آمناً على روحه أو ماله أو
عِرضه بعد فقدان القضاء العادل، واستمرار العمل بأحكام قانون الطوارئ
المفروض في عام (1963م) .
9- تعطيل الحريات الفكرية والسياسية، وصدور قراراتٍ تمنع تداول الكتب
والمجلات الإسلامية، وتسلّط الحزب على الشعب، وتسلّط الطائفة على الحزب،
وتسلّط عائلة رئيس النظام (حافظ الأسد) على الحزب والدولة والجيش والشعب،
وتأسيس جبهةٍ وطنيةٍ من النفعيين والوصوليين الذين ارتضوا أن يكونوا غطاءً
لممارسات النظام المختلفة بحق الوطن والشعب، تحت اسم (الجبهة الوطنية
التقدمية)، وبروز انتخابات ما يسمى بمجلس الشعب الشكلية، الذي يسيطر عليه
حزب البعث الحاكم .
10- ضرب المقاومة الفلسطينية أكثر من مرة، والتواطؤ على ارتكاب مجازر مخيم (تل الزعتر) الفلسطيني في لبنان .
لقد فعل النظام النصيري البعثي كل ما من شأنه أن يرفع من درجة سخونة الصراع
مع الإسلاميين، للوصول بسياساته الاستفزازية إلى نقطة التفجّر واندلاع
المواجهة معهم ومع الشعب السوري، بهدف ضربهم وتصفيتهم، وتصفية الوجود
الإسلامي في الوطن كله!.. وقد غدت السيطرة على مِرجل الغضب الشعبي المكبوت،
أكبر من طاقة الحركة الإسلامية، بسبب البُعد الطائفيّ الذي كان يزيد من
مشاعر الغضب والإهانة لدى المواطن، فقد كان النظام ينهج نهج تمييزٍ طائفيٍ
حادٍّ في الاستئثار بجميع الفرص أو المواقع ومراكز القوة، بدءاً من مؤسّسة
الجيش التي أصبحت حكراً على أبناء الطائفة النصيرية أولاً، وأعضاء الحزب
ثانياً، وكذلك الحال بالنسبة للمواقع الحكومية الهامة، بدءاً من الوزارات
وانتهاءً بإدارات المدارس، وأصبح أعضاء السلك الدبلوماسي والمسؤولون في
الوزارات والمؤسسات العامة مثلاً، من أبناء الطائفة وبعض البعثيين حصراً،
وكذلك رجال الصحافة والإعلام والبعثات العلمية التي تقتصر عادةً على الطلبة
المتفوّقين، فقد حُصرِت هي الأخرى في أبناء الطائفة النصيرية والبعثيين،
بتجاوز الشروط التأهيلية الحقيقية!..
في هذه المرحلة ونتيجةً للسياسات الشاذة المذكورة آنفاً، بدأ النظام يحصد
ثمار ما زرعه من قمعٍ واستبدادٍ وإذلال، فبدأت عمليات اغتيالٍ مسلّحةٍ ضد
بعض رموزه الأمنية والمخابراتية والسياسية والطائفية والحزبية، التي كان
لها الدور الأكبر في استفزاز المواطن وانتهاك كرامته، وذلك على أيدي عناصر
إسلاميةٍ مستقلة، لكنّ النظام الذي كان يعرف حقيقة الأمر بشكلٍ جليّ،
وبدلاً من تطويق الأزمة التي أسّس لها بنهجه الاستئصاليّ الشاذ .. عمد إلى
شنّ حملاتٍ واسعةٍ من الاعتقال والتنكيل والانتهاكات، بحق الإسلاميين ورموز
الحركة الإسلامية وقواعدهم، فكان لهذه الحملات الشعواء الطائشة، الدور
الأكبر في تسريع الأحداث إلى درجة الانفجار، ثم إلى درجة الانفجار
الشامل!..
:
2- المرحلة الثانية (1979-1982م) : الانفجار الشامل :
لقد نجح النظام فعلاً في تفجير المجتمع السوريّ، وحمّل الإسلاميين مسؤولية
هذا التفجير، الذي كان وقوده شرائح مختلفةً من أبناء الشعب، الذين اتّبع
هذا النظام معهم سياسة الأرض المحروقة، فوجد المجتمع نفسه أمام حرب إبادةٍ
طاحنة، تدور رحاها تحت سمع القوى الدولية الفاعلة وبصرها، وبغطاء الصمت
الذي مارسه المجتمع الدولي، وقد أدّت سياسة القمع والإرهاب والحقد التي
كانت تتم في أقبية السجون، وتصفية بعض المعتقلين من علماء ومثقّفين .. إلى
أن يرى المسلم السوري نفسه بين خيارين اثنين : إما أن يموت تحت سياط
الجلادين فيما لو وقع في قبضة أجهزة الأمن القمعية، أو أن يدافع عن نفسه
بما يصل إلى يديه من وسائل الدفاع!.. وبذلك اختار الشعب خيار الدفاع عن
النفس ومواجهة سياسات البطش، واختارت الحركة الإسلامية لنفسها موقف الثبات
على المبدأ، والإصرار على نَيل حقوق الشعب الإنسانية والمدنية والسياسية!..
علماً بأنّ القمع لم يقتصر على الإسلاميين أو الحركة الإسلامية وحدها، بل
شمل أطراف المعارضة كلها، من إسلاميةٍ وقوميةٍ ويسارية، لكنّ حظ الإسلاميين
من القمع كان الأضخم والأشدّ قسوة!..
وللتدليل على عمق الكارثة التي أخذت تنذر بالانفجار الشامل، وسعي بعض
الشرفاء في الوطن السوريّ -عبثاً- لاستدراك ما يمكن استدراكه، نعيد إلى
الأذهان الحقائق التاريخية التالية :
1- ما سطّره نقيب المحامين السوريين، في مذكّرةٍ خاصةٍ إلى المسؤولين في
النظام الحاكم بتاريخ (17/8/1978م)، التي تضمنت مطالب عدة، أهمها : (..
توفير مناخ الحرية وسيادة القانون، وإطلاق سراح الموقوفين دون مذكّراتٍ
قضائية، أو إحالتهم إلى القضاء ..) .
2- صدور القرار رقم (2) بتاريخ (1/12/1978م) عن المؤتمر العام للمحامين في
سورية، الذي (يكلِف بموجبه مجلسَ النقابة، بمقابلة رئيس الجمهورية،
للمطالبة بإنهاء حالة الطوارئ في البلاد، وللتأكيد على مبادئ الحرية وسيادة
القانون ..) .
3- صدور بيان مجلس نقابة المحامين في سورية بتاريخ (29/9/1979م) جاء فيه :
(إنّ ممارسات النظام نشرت جوّ الهلع والخوف والقلق، وأخلّت بميزان الأمن،
وانتهكت حريات الأفراد والجماعات، واستباحت حُرُمات المنازل، فأصبحت أرواح
المواطنين عرضةً للإزهاق على يد سلطات الأمن، وباتت شرعة الرهائن وتهديم
البيوت وسيلة تأديبٍ جماعية، حتى امتلأت السجون بالرجال والنساء والأطفال،
وبالأعداد الضخمة من صفوف المثقّفين، كالأطباء والمحامين والمهندسين
والمدرّسين..)!..
4- صدور قرار الهيئة العامة لمحامي حلب، الذي يدعو إلى الإضراب العام في يوم (2/3/1980م) .
5- صدور قرار نقابة المحامين في سورية، الذي يدعو إلى الإضراب العام في يوم
الإثنين بتاريخ (31/3/1980م)، بعد فشل كل وسائل المراجعة للمسؤولين في
النظام الحاكم، لتنفيذ مبدأ سيادة القانون، واحترام الحقوق المدنية
والإنسانية للمواطن السوري .
6- اجتماع العلماء والمشايخ في بعض المحافظات (حلب، حماة، حمص، ..) للتداول
في شؤون المسلمين، إذ قرروا في حلب اللقاء مع المحافظ، ليطلبوا منه بعض
المطالب، على رأسها الإفراج عن النساء المسلمات المعتقلات، اللواتي يتعرّضن
في سجون النظام للإهانة والاعتداء والتعذيب والاضطهاد، فرفض المحافظ
مقابلتهم، ما أدى إلى سخط أهل الرأي في المدينة .
7- اندلاع تظاهراتٍ نسائيةٍ في حلب بتاريخ (6/11/1979م)، وفي حمص بتاريخ
(15/7/1981م) وبتاريخ (14/11/1981م) .. وذلك للمطالبة بالإفراج عن أزواجهن
وإخوانهن وأبنائهن وبناتهن!.. وكانت هذه التظاهرات النسائية للنساء
المسلمات المحجّبات .. من ردود الأفعال غير المعهودة في تاريخ سورية!..
8- تنفيذ إضرابٍ عامٍ دعت إليه نقابة المحامين، بتاريخ (31/3/1980م)،
واستجابت له النقابات المهنية الأخرى، وكل فئات الشعب السوري في معظم
المحافظات، وقد كان الإضراب تتويجاً لشهرٍ من الأحداث الهامة، منها انعقاد
المؤتمرات العامة للنقابات العلمية المهنية (الأطباء والصيادلة والمهندسين
والمحامين)، وإصدارها بياناتٍ وقراراتٍ مندّدةٍ بسياسات النظام الحاكم
وممارساته القمعية، ومطالبتها له بإطلاق الحريات العامة، وإلغاء حالة
الطوارئ، والإفراج عن المعتقلين، وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص!.. وقد سبق هذا
الإضراب العام .. إضراب عام في (حماة) بدأ بتاريخ (23/2/1980م)، وفي (حلب)
بدأ بتاريخ (1/3/1980م) .
نعيد إلى الأذهان أيضاً، أنّ الحركة الإسلامية والإخوان المسلمين (الذين
شنّ النظام الحرب على الإسلام تحت غطاء شنّ الحرب عليهم) .. ليسوا تنظيماً
مسلّحاً، والمواجهة المسلّحة مع خصومهم ليست من منهجهم، فهم حركة مسلمة ترى
أنّ الحوار هو الوسيلة الأساس لتحقيق الأهداف، التي تنشد من تحقيقها خير
الفرد والمجتمع والوطن والدولة .. لكنّ النظام أوصد كل منافذ الحوار، وقبل
ذلك بأكثر من عقدٍ من الزمن (كما ذكرنا آنفاً) قام بخطواتٍ منهجيةٍ
استئصالية ضد أبناء الحركة، وضد كل مَن يخالفه الرأي من الإسلاميين أو
غيرهم من الوطنيين، مستخدماً في ذلك أساليب القمع والسحق والإقصاء والتمييز
الطائفيّ العنصريّ، ووضَع الشعب -ومعهم الإخوان المسلمين والإسلاميين-
أمام خيارٍ صعب : إما الإذعان للظلم والخضوع للطغيان، أو الرفض وتحمّل
تبعاته، وقد كانت غطرسة النظام وولعه في إهدار الدماء والأرواح .. أضخم
عائقٍ في طريق حقن الدماء، ودَفْع عواقب الاضطهاد والكراهية والحقد
الطائفيّ الأعمى، وعندما اختار الشعب المقهور مقاومة الاستبداد والاضطهاد
بعد أكثر من عقدٍ من ممارسات النظام القمعية، كانت الحركة الإسلامية جزءاً
من الانتفاضة الشعبية العارمة التي وقفت في وجه الطغيان والتمييز الطائفيّ،
دفاعاً عن أبناء الشعب كلهم، ودفاعاً عن حقوق المواطن السوريّ بشكلٍ عام
!..
لقد قامت هذه الانتفاضة في وجه الطغاة دفاعاً عن النفس، ومقاومةً لإرهاب
النظام الذي مارس سياسة القتل البطيء والسريع ضد أبناء الشعب كلهم، وقد
مارس قمعه وسحقه قبل أن تُطلَقَ طلقة واحدة في وجهه بسنواتٍ طويلة، وكانت
مجازره العلنية التي اقترفها في الثمانينيات، كمجازر تدمر وحماة وجسر
الشغور وحلب وحمص ودمشق وسرمدا و.. كانت الصفحة الأخرى لمجازره السرّية
الصامتة التي ارتكبها في الستينيات والسبعينيات، إذ كان يصنّف خصومه
السياسيين، في خانة الثورة المضادة التي ينبغي استئصالها، وما خطاب الضابط
(حافظ الأسد) في الستينيات في ثكنة (الشرفة) في حماة، إلا الدليل الواضح
على ذلك، فقد قال وقتئذٍ: (سنصفّي خصومنا جسدياً)، وذلك قبل أن يقفز إلى
السلطة بسنوات!.. كل ذلك قاد إلى حالة الاحتقان القصوى، ثم إلى تفجّر
الصراع المسلّح الدمويّ الذي اكتوى بناره أبناء الوطن كلهم!..
مع ذلك، فقد دأبت الحركة الإسلامية في كل مرحلة، على أن تعثر على مخرجٍ
للأزمة بالحوار البنّاء المسؤول، الذي يضع مصلحة الوطن والشعب فوق كل
اعتبار، لكنّ صدى الكلمات كان يضيع أمام تعنّت النظام، الذي أغلق -وما
يزال- كل منفذٍ للحوار!..
هل بعد كل ذلك، يمكن لمنصفٍ أن يحمّل الإسلاميين تبعات ذلك التاريخ الأسود،
الذي كان النظام النصيري، وما يزال، وسيبقى .. مسؤولاً عنه وعن صناعته
وإنتاج مآسيه .. مسؤوليةً كاملة؟!.. فالحركة الإسلامية لم تكن في ذلك، إلا
الضحية التي ما تزال تعاني من طغيان النظام وجبروته واضطهاده المتعدد
الأشكال والألوان!..