الوطن البديل وضفتان للأردن.. يسودان المشهد الصهيوني
نواف الزرو
- يهودية إسرائيل والترانسفير
- الليكود يستحضر جابوتنسكي
- الوحدة الفلسطينية الأردنية
تربط المؤسسة الأمنية العسكرية السياسية الإسرائيلية ربطا إستراتيجيا بين "يهودية إسرائيل" والديموغرافيا والترانسفير، وتربط هذه الثلاثية ربطا إستراتيجيا مع خيار ما يطلقون عليه "الوطن البديل"، كما تربط عمليا بين حروبها ومحارقها المفتوحة وبين أجنداتها السياسية.
ووفق المؤشرات الإسرائيلية فإنه ما من موضوع راهن في سياق السجال الإستراتيجي الإسرائيلي يحتشد حوله "إجماع سياسي إسرائيلي" أكثر من موضوع "الأرض" و"الديموغرافيا"، و"الدولة اليهودية النقية"، وكذلك "الترانسفير" نحو الشرق.. نحو "الوطن البديل".
وذهبت الشعارات الصهيونية التوسعية أبعد من ذلك في الآونة الأخيرة، إذ ظهرت أصوات قوية تنادي بالعودة إلى برنامج "ضفتان للأردن"، فغدا شعارا "الوطن البديل" و"ضفتان للأردن" يسودان المشهد السياسي الصهيوني.
والمسألة هنا ليست إعلامية استهلاكية ولا تهدف إلى إثارة الفزع الأردني مثلا، وتأجيج الفتنة الإقليمية بين الفلسطينيين والأردنيين فقط، وإنما هي حقيقية بمنتهى الجدية والخطورة.
"
لا غرابة في أن تترافق لدى الإسرائيليين دائما "يهودية الدولة" والديموغرافيا والترانسفير و"الوطن البديل" و"الحلم الصهيوني" الذي لا يمكن أن يتحقق ويستكمل من وجهة نظرهم إلا إذا "أصبحت بلادنا خالية من أهلها وأصحابها"
"
يهودية إسرائيل والترانسفير
فالأدبيات الصهيونية التي تتحدث عن "إسرائيل دولة الشعب اليهودي"، وعن الديموغرافيا العربية والتخلص من العرب، وعن ترحيل أكبر عدد منهم كي تصبح إسرائيل دولة نقية للشعب اليهودي على أوسع مساحة من الأرض، كثيرة جدا.
وقد تكاثر من يطلقون عليهم هناك "أنبياء الغضب الديموغرافي" الذين يحذرون من القنبلة الديموغرافية المؤقتة، ويحرضون على التخلص من أكبر عدد ممكن من العرب في أسرع وقت ممكن حتى لو كان ذلك عبر الحروب والمحارق.
وهناك من بين الإسرائيليين المنزعجين من ذلك كثير من السياسيين، وهناك ضباط ومسؤولون كبار، كلهم يتحدثون فيما بينهم بتفاؤل قائلين "قد تخلق الفوضى العالمية حولنا لحظة تاريخية، يمكن أن نقوم خلالها بطرد كثير من السكان العرب، وتنفيذ سياسة الترانسفير التي كثيرًا ما نتحدث عنها". عن داني روبنشتاين في مقدمة مقالة نشرتها صحيفة هآرتس حول تنامي أفكار وآمال ترحيل الفلسطينيين.
وحسب كم كبير من الأدبيات الموثقة فإن فئات واسعة في الرأي العام الإسرائيلي مهيأة لأفكار طرد العرب منذ وقت طويل، والواضح أن هذه الأجواء الإسرائيلية باتت علنية سافرة صريحة، وهي ليست ثمرة سنوات الصراع الطويلة فقط، وإنما هي نتيجة سياسات أمنية طويلة.
ويبدو أن ذهول ودهشة قادة إسرائيل من التكاثر السكاني العربي والخطر الديموغرافي يواصلان فعلهما ومفعولهما تراكميا في عهد حكم الليكود برئاسة نتنياهو، إلى أن أخذ ينعكس ذلك هاجسًا مقلقًا في التقارير الإستراتيجية للحكومة الإسرائيلية.
البروفسور الإسرائيلي أرنون سوفر كان في مقدمة المحرضين العنصريين منذ المرحلة الأولى لانتفاضة 2000، حين عرض في إطار يوم دراسي عقد في جامعة حيفا حول العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية، "صورة قاتمة" بالنسبة للتكاثر السكاني العربي توصل في ختامها إلى استنتاجات تحريضية مكثفة.
وعزز الكاتب الإسرائيلي المعروف يارون لندن تحذيرات سوفر الديموغرافية، فكتب في يديعوت أحرونوت أن "التكاثر الطبيعي للفلسطينيين قد يضع حدا للحلم الصهيوني".
وقد وصلت حملة التحريض العنصري ضد السكان العرب ذروتها بالتوصية التي أطلقها رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية سابقا جنرال الاحتياط شلومو غازيت بـ"إقامة نظام طوارئ ديموغرافي في إسرائيل".
وأكد أن "التهديدات الديمغرافية تشكل اليوم الخطر الأكبر على إسرائيل، وإذا لم ندرك هذا وتتخذ كافة السبل المناسبة وعلى الفور فإن دولة إسرائيل ستتوقف عن وجودها كدولة يهودية وصهيونية خلال جيل وكأقصى حد خلال جيلين".
وحسب كافة المعطيات والتطورات اللاحقة المتعلقة بالبعد الديموغرافي وتفريخاته الترحيلية، فقد أخذت المؤسسات السياسية الحكومية والحزبية والبرلمانية والأمنية والأكاديمية الإستراتيجية الإسرائيلية تولي اهتمامًا مركزيًّا أكثر من أي وقت مضى لـ"الخطر الديموغرافي العربي"، كما أخذت الأصوات الترانسفيرية الداعية إلى ترحيل الفلسطينيين ترحيلا جماعيا تتكاثر لتمتد شاملة معظم أطياف المجتمع السياسي الإسرائيلي.
فلا غرابة إذن في ضوء كل ذلك أن تترافق لديهم دائما "يهودية الدولة" والديموغرافيا والترانسفير و"الوطن البديل" و"الحلم الصهيوني" الذي لا يمكن أن يتحقق ويستكمل من وجهة نظرهم إلا إذا "أصبحت بلادنا خالية من أهلها وأصحابها".
"
يتبين في ضوء التصريحات التوراتية الموثقة أننا أمام أدبيات يهودية توراتية وسياسية صهيونية تتحدث عن أن "أرض إسرائيل الكاملة" من النيل إلى الفرات، لتتحول هذه الأحلام التوراتية في زمن الصهيونية السياسية إلى أهداف وخطط ومخططات ومؤامرات صهيونية صريحة
"
الليكود يستحضر جابوتنسكي
وفي الحلم الصهيوني، فإن أول وأبرز شعار احتل دائمًا قمة الأجندات والبرامج السياسية والأيديولوجية للأحزاب والحركات الإسرائيلية المختلفة كان شعار "أرض إسرائيل الكاملة".
فلم يكن حلم وشعار "أرض إسرائيل الكاملة" موضع جدل، فقد راود هذا الحلم ولا يزال، أقطاب الحركة الصهيونية والكيان الإسرائيلي.
و"إسرائيل الكاملة" دولة غير محدودة المعالم وتتغير حدودها وفقًا لموازين القوة والظروف القائمة ومجريات الأحداث المختلفة، فالأردن جزء من "أرض إسرائيل" في خرائط ومواثيق وبرامج عدد من الحركات الصهيونية والأحزاب الإسرائيلية، وكذلك جنوب لبنان وبقاع أخرى في العالم العربي.
لقد اعتبر أقطاب الصهيونية أن "أرض إسرائيل المعلنة" هي تلك الممتدة من مصادر الليطاني وحتى سيناء، ومن الجولان حتى البحر، وقد خططوا لاستيعاب الملايين من يهود أوروبا الشرقية متقدمين في ذلك بمقولات ونظريات تمثل جوهر الفكر الصهيوني والرؤية الصهيونية.
وفي هذا النطاق أكد يسرائيل كولت وهو أستاذ محاضر في الجامعة العبرية أن "أرض إسرائيل الصهيونية حسب النظرية الجغرافية والسياسية تلك الراسخة في الفكر أو الواقع، هي أرض إسرائيل الممتدة من مصادر الليطاني وحتى سيناء، ومن الجولان حتى البحر، وهي الوطن التاريخي لليهود الذي لا تؤثر فيه الحدود السياسية القابلة للتغير".
واضح تمام الوضوح من المضامين السابقة أن أهداف وأطماع الحركة الصهيونية لا تقف عند حدود فلسطين العربية، بل تتجاوزها، كما تؤكد كتابات كثيرة في الأدبيات الصهيونية، إلى المحيط العربي، وإلى شرقي الأردن تحديدا، إلى "الوطن البديل"، فشرقي الأردن عندهم هو الضفة الأخرى.
بل إن تلك الأهداف والأطماع لا تقف عند مسألة استكمال "الوطن الصهيوني الكبير" كما أراده بن غوريون، بل تتعداها إلى الهيمنة الشاملة على المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط بشكل عام.
ويتبين لنا في ضوء كل هذه التصريحات التوراتية الموثقة أننا أمام أدبيات يهودية توراتية وسياسية صهيونية تتحدث عن أن "أرض إسرائيل الكاملة" من النيل إلى الفرات، لتتحول هذه الأحلام التوراتية في زمن الصهيونية السياسية إلى أهداف وخطط ومخططات ومؤامرات صهيونية صريحة.
ثم تحولت هذه الشعارات إلى برامج سياسية ومخططات جاهزة لسحبها من "الجوارير" الحربية في اللحظة المناسبة من وجهة نظرهم، غير أنها أخذت تتفاعل وتتعزز وتنتشر في الآونة الأخيرة لتشمل أوسع مساحة من الخريطة السياسية الحزبية الإسرائيلية.
"
ما زلنا أمام مشروع صهيوني استعماري استيطاني اقتلاعي إحلالي كبير ومرعب، يستهدف فلسطين والأردن معا، ليصل إلى حدود الفرات، بل إن هذا المشروع لن يتوقف أبدا، وربما يشهد مستقبلا المزيد من التصعيد والترجمات الاحتلالية على الأرض
"
فأخذ الجدل يتأجج في أروقة الليكود الصهيوني حول "الأردن والوطن البديل" وحول "إسرائيل الكبرى" على نحو أشد تطرفا ووضوحا، وأخذت الأصوات تتعالى الجمعة 03/02/2012، مطالبة بالعودة إلى برنامج جابوتينسكي "ضفتان للأردن: هذه لنا وتلك أيضا" وهو يعتبر عمليا الأردن جزءا مما يسمونه بـ"أرض إسرائيل" التي تشمل فلسطين التاريخية والأردن.
وهذه الأصوات ليست يتيمة ولا منقطعة الجذور والامتدادات، بل هناك مطالب قوية بأن تتبنى قيادة الليكود هذا البرنامج كما قال إيتاي هارئيل، مؤسس البؤرة الاستيطانية "مجرون" لموقع "واينت"، موضحا أن طريق جابوتنسكي "ضفتان للأردن" هي الطريق المناسبة، ويجب الاهتمام بأن تسير قيادة الحزب في هذا الطريق.
وذكر وزير الحرب الإسرائيلي الأسبق موشيه أرنس في هآرتس بجابوتنسكي تحت عنوان "يوم التمرد" قائلا "في شهادة أمام لجنة بيل في لندن في الحادي عشر من شباط 1937، قال فلاديمير زئيف جابوتنسكي، إن هدف الصهيونية هو إنشاء دولة يهودية على جانبي نهر الأردن".
فحينما يصر الليكوديون المتشددون في الخريطة السياسية الإسرائيلية بين آونة وأخرى على استحضار شعارهم الجابوتنسكي "ضفتان للأردن"، فإن المسألة إذن ليست عفوية، وليست لمرة واحدة، وليست رد فعل أبدا، بل هي برنامج سياسي معزز بالأيديولوجيا الصهيونية السياسية والتوراتية.
لذلك لم تكن عملية "اقتحام الحدود الأردنية في الثاني والعشرين من ديسمبر/ كانون الأول 2011 على يد مجموعة من المستوطنين المتطرفين" عفوية وبدون مناخات أيديولوجية وسياسية ناضجة، ففي الخلفية كمّ هائل من الأدبيات السياسية والتوراتية التي تزعم أن "الأردن جزء من أرض إسرائيل"، و"أن الدولة اليهودية كان يجب أن تقام على ضفتي الأردن"، و"أن الوقت لم يفت على مثل هذه الدولة".
فرئيس الكنيست الإسرائيلي السابق روبي رفلين كان قد أعلن أن قيام "دولة إسرائيل على ضفتي نهر الأردن هدف قابل للتحقيق الآن أكثر من أي وقت مضى، ويصلح اليوم أكثر من أي وقت مضى في تاريخ إسرائيل"، مضيفا أن "جابوتنسكي لم يكن مخطئا".
والأدبيات الصهيونية الإسرائيلية التي تتحدث عن ذلك واسعة لا حصر لها، غير أن شارون كان قد شكل دائما خلاصتها المكثفة، فقد أعلن على سبيل المثال بتاريخ 30/8/1982 أن "الأردن هو الدولة الفلسطينية حيث إن 60% من السكان هناك فلسطينيون".
وأكد في مقالة له نشرت في يديعوت أحرونوت 26/2/1988موقفه من الدولة الفلسطينية قائلا "أنا شخصيا أومن ببرنامج الأوتونوميا كجسر سلام بيننا وبين الدولة الفلسطينية القائمة في الأردن".
ثم عاد شارون وصرح في أعقاب فوزه في الانتخابات عام 2001 للصحيفة الألمانية فوكس قائلا "أيضا شرقي الأردن جزء من أرض إسرائيل".
وهكذا نجد أننا ما زلنا أمام مشروع صهيوني استعماري استيطاني اقتلاعي إحلالي كبير ومرعب، يستهدف فلسطين والأردن معا، ليصل إلى حدود الفرات، بل إن هذا المشروع لن يتوقف أبدا، وربما يشهد مستقبلا المزيد من التصعيد والترجمات الاحتلالية على الأرض.
ونجد أنفسنا أمام خريطة سياسية إسرائيلية تمتد مساحتها الحزبية لتشمل الليكود وتفريخاته اليمينية، وأمام برامج سياسية مسعورة يجمعون عليها وتتطلع إلى ابتلاع فلسطين من بحرها إلى نهرها، وكذلك لابتلاع الضفة الشرقية برمتها أيضا.
"
الوحدة الوطنية الأردنية تبقى الحصن المنيع الذي تتحطم عليه البرامج والأجندات والأهداف الصهيونية السياسية والتوراتية
"
الوحدة الفلسطينية الأردنية
الواضح إذن، في ضوء هذا الكمّ من الأدبيات والبرامج والمواقف الإسرائيلية، هو أن استحضار "الوطن البديل" و"ضفتان للأردن"، بين آونة وأخرى، وفي قلب الكنيست، وفي قلب أكبر معسكر سياسي حزبي إسرائيلي هو الليكود اليميني المتشدد الجابوتنسكي، ليس مسألة إعلامية أو استهلاكية للرأي العام، وإنما هو مسألة حقيقية وحاضرة في البرامج والأيديولوجيات الصهيونية.
وتقف وراء هذه الدعوات لوبيات تنتمي وفق أحدث المعطيات إلى مجالس المستعمرات اليهودية في الضفة الغربية، التي تطالب على مدار الساعة مدعمة بفتاوى الحاخامات، بالتهويد الكامل الشامل للقدس والضفة، وبالانتقال في مشروع الاستيطان والتهويد إلى الضفة الأخرى.. الشرقية وفق البرنامج الجابوتنسكي.
وهذا يعني أن المطامع الصهيونية في الأردن لا تزال قائمة وتتجدد بقوة، وربما لا يكون ذلك اليوم الذي تصبح فيه هناك أغلبية صهيونية تطالب باجتياح الضفة الشرقية ببعيد، إذا لم يستيقظ الفلسطينيون والأردنيون والعرب.
وهذا يستدعي وحدة وطنية فلسطينية أردنية حقيقية على الأرض، وحدة واعية ناضجة في مواجهة الأطماع والمشاريع والتهديدات الصهيونية المتصاعدة، وفي مواجهة مشروع الوطن البديل، و"ضفتان للأردن"، وحدة تسقط تلك البرامج التي توظف "الوطن البديل" كفزاعة تعمق الهوة والتفكك بين الفلسطينيين والأردنيين.
والواضح من السياسات والأجندات الإسرائيلية التفاوضية على سبيل المثال، أن مطلب "الاعتراف الفلسطيني والعربي والدولي بإسرائيل، دولة للشعب اليهودي" أصبح يحتل الأجندات السياسية الإسرائيلية الحزبية والحكومية والإعلامية والأكاديمية.
كما أخذت المؤسسة الأمنية السياسية الإسرائيلية تربط مستقبل عملية المفاوضات والسلام المزعوم بهذا المطلب، بل إنها تربطه على نحو إستراتيجي بالأساطير المؤسسة للحركة الصهيونية ودولة إسرائيل من جهة، وكذلك بهواجس وجود ومستقبل تلك الدولة من جهة أخرى، استنادا إلى حسابات إستراتيجية كان منظروهم الأوائل قد تحدثوا عنها.
فهذا المطلب الذي أصبح شرطا إسرائيليا يحظى بالإجماع السياسي الإسرائيلي، يحملنا إلى بداياتهم وأساطيرهم وإلى خطابهم الإعلامي الوجودي ومرتكزاته الأيديولوجية والثقافية.
ويحملنا في الخلاصة المكثفة إلى أن نتعامل مع حكاية "الوطن البديل" وشعار "ضفتان للأردن" بمنتهى الجدية والمسؤولية.
ونعتقد باقتناع راسخ أن الوحدة الوطنية الأردنية تبقى الحصن المنيع الذي تتحطم عليه البرامج والأجندات والأهداف الصهيونية السياسية والتوراتية.
نواف الزرو
- يهودية إسرائيل والترانسفير
- الليكود يستحضر جابوتنسكي
- الوحدة الفلسطينية الأردنية
تربط المؤسسة الأمنية العسكرية السياسية الإسرائيلية ربطا إستراتيجيا بين "يهودية إسرائيل" والديموغرافيا والترانسفير، وتربط هذه الثلاثية ربطا إستراتيجيا مع خيار ما يطلقون عليه "الوطن البديل"، كما تربط عمليا بين حروبها ومحارقها المفتوحة وبين أجنداتها السياسية.
ووفق المؤشرات الإسرائيلية فإنه ما من موضوع راهن في سياق السجال الإستراتيجي الإسرائيلي يحتشد حوله "إجماع سياسي إسرائيلي" أكثر من موضوع "الأرض" و"الديموغرافيا"، و"الدولة اليهودية النقية"، وكذلك "الترانسفير" نحو الشرق.. نحو "الوطن البديل".
وذهبت الشعارات الصهيونية التوسعية أبعد من ذلك في الآونة الأخيرة، إذ ظهرت أصوات قوية تنادي بالعودة إلى برنامج "ضفتان للأردن"، فغدا شعارا "الوطن البديل" و"ضفتان للأردن" يسودان المشهد السياسي الصهيوني.
والمسألة هنا ليست إعلامية استهلاكية ولا تهدف إلى إثارة الفزع الأردني مثلا، وتأجيج الفتنة الإقليمية بين الفلسطينيين والأردنيين فقط، وإنما هي حقيقية بمنتهى الجدية والخطورة.
"
لا غرابة في أن تترافق لدى الإسرائيليين دائما "يهودية الدولة" والديموغرافيا والترانسفير و"الوطن البديل" و"الحلم الصهيوني" الذي لا يمكن أن يتحقق ويستكمل من وجهة نظرهم إلا إذا "أصبحت بلادنا خالية من أهلها وأصحابها"
"
يهودية إسرائيل والترانسفير
فالأدبيات الصهيونية التي تتحدث عن "إسرائيل دولة الشعب اليهودي"، وعن الديموغرافيا العربية والتخلص من العرب، وعن ترحيل أكبر عدد منهم كي تصبح إسرائيل دولة نقية للشعب اليهودي على أوسع مساحة من الأرض، كثيرة جدا.
وقد تكاثر من يطلقون عليهم هناك "أنبياء الغضب الديموغرافي" الذين يحذرون من القنبلة الديموغرافية المؤقتة، ويحرضون على التخلص من أكبر عدد ممكن من العرب في أسرع وقت ممكن حتى لو كان ذلك عبر الحروب والمحارق.
وهناك من بين الإسرائيليين المنزعجين من ذلك كثير من السياسيين، وهناك ضباط ومسؤولون كبار، كلهم يتحدثون فيما بينهم بتفاؤل قائلين "قد تخلق الفوضى العالمية حولنا لحظة تاريخية، يمكن أن نقوم خلالها بطرد كثير من السكان العرب، وتنفيذ سياسة الترانسفير التي كثيرًا ما نتحدث عنها". عن داني روبنشتاين في مقدمة مقالة نشرتها صحيفة هآرتس حول تنامي أفكار وآمال ترحيل الفلسطينيين.
وحسب كم كبير من الأدبيات الموثقة فإن فئات واسعة في الرأي العام الإسرائيلي مهيأة لأفكار طرد العرب منذ وقت طويل، والواضح أن هذه الأجواء الإسرائيلية باتت علنية سافرة صريحة، وهي ليست ثمرة سنوات الصراع الطويلة فقط، وإنما هي نتيجة سياسات أمنية طويلة.
ويبدو أن ذهول ودهشة قادة إسرائيل من التكاثر السكاني العربي والخطر الديموغرافي يواصلان فعلهما ومفعولهما تراكميا في عهد حكم الليكود برئاسة نتنياهو، إلى أن أخذ ينعكس ذلك هاجسًا مقلقًا في التقارير الإستراتيجية للحكومة الإسرائيلية.
البروفسور الإسرائيلي أرنون سوفر كان في مقدمة المحرضين العنصريين منذ المرحلة الأولى لانتفاضة 2000، حين عرض في إطار يوم دراسي عقد في جامعة حيفا حول العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية، "صورة قاتمة" بالنسبة للتكاثر السكاني العربي توصل في ختامها إلى استنتاجات تحريضية مكثفة.
وعزز الكاتب الإسرائيلي المعروف يارون لندن تحذيرات سوفر الديموغرافية، فكتب في يديعوت أحرونوت أن "التكاثر الطبيعي للفلسطينيين قد يضع حدا للحلم الصهيوني".
وقد وصلت حملة التحريض العنصري ضد السكان العرب ذروتها بالتوصية التي أطلقها رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية سابقا جنرال الاحتياط شلومو غازيت بـ"إقامة نظام طوارئ ديموغرافي في إسرائيل".
وأكد أن "التهديدات الديمغرافية تشكل اليوم الخطر الأكبر على إسرائيل، وإذا لم ندرك هذا وتتخذ كافة السبل المناسبة وعلى الفور فإن دولة إسرائيل ستتوقف عن وجودها كدولة يهودية وصهيونية خلال جيل وكأقصى حد خلال جيلين".
وحسب كافة المعطيات والتطورات اللاحقة المتعلقة بالبعد الديموغرافي وتفريخاته الترحيلية، فقد أخذت المؤسسات السياسية الحكومية والحزبية والبرلمانية والأمنية والأكاديمية الإستراتيجية الإسرائيلية تولي اهتمامًا مركزيًّا أكثر من أي وقت مضى لـ"الخطر الديموغرافي العربي"، كما أخذت الأصوات الترانسفيرية الداعية إلى ترحيل الفلسطينيين ترحيلا جماعيا تتكاثر لتمتد شاملة معظم أطياف المجتمع السياسي الإسرائيلي.
فلا غرابة إذن في ضوء كل ذلك أن تترافق لديهم دائما "يهودية الدولة" والديموغرافيا والترانسفير و"الوطن البديل" و"الحلم الصهيوني" الذي لا يمكن أن يتحقق ويستكمل من وجهة نظرهم إلا إذا "أصبحت بلادنا خالية من أهلها وأصحابها".
"
يتبين في ضوء التصريحات التوراتية الموثقة أننا أمام أدبيات يهودية توراتية وسياسية صهيونية تتحدث عن أن "أرض إسرائيل الكاملة" من النيل إلى الفرات، لتتحول هذه الأحلام التوراتية في زمن الصهيونية السياسية إلى أهداف وخطط ومخططات ومؤامرات صهيونية صريحة
"
الليكود يستحضر جابوتنسكي
وفي الحلم الصهيوني، فإن أول وأبرز شعار احتل دائمًا قمة الأجندات والبرامج السياسية والأيديولوجية للأحزاب والحركات الإسرائيلية المختلفة كان شعار "أرض إسرائيل الكاملة".
فلم يكن حلم وشعار "أرض إسرائيل الكاملة" موضع جدل، فقد راود هذا الحلم ولا يزال، أقطاب الحركة الصهيونية والكيان الإسرائيلي.
و"إسرائيل الكاملة" دولة غير محدودة المعالم وتتغير حدودها وفقًا لموازين القوة والظروف القائمة ومجريات الأحداث المختلفة، فالأردن جزء من "أرض إسرائيل" في خرائط ومواثيق وبرامج عدد من الحركات الصهيونية والأحزاب الإسرائيلية، وكذلك جنوب لبنان وبقاع أخرى في العالم العربي.
لقد اعتبر أقطاب الصهيونية أن "أرض إسرائيل المعلنة" هي تلك الممتدة من مصادر الليطاني وحتى سيناء، ومن الجولان حتى البحر، وقد خططوا لاستيعاب الملايين من يهود أوروبا الشرقية متقدمين في ذلك بمقولات ونظريات تمثل جوهر الفكر الصهيوني والرؤية الصهيونية.
وفي هذا النطاق أكد يسرائيل كولت وهو أستاذ محاضر في الجامعة العبرية أن "أرض إسرائيل الصهيونية حسب النظرية الجغرافية والسياسية تلك الراسخة في الفكر أو الواقع، هي أرض إسرائيل الممتدة من مصادر الليطاني وحتى سيناء، ومن الجولان حتى البحر، وهي الوطن التاريخي لليهود الذي لا تؤثر فيه الحدود السياسية القابلة للتغير".
واضح تمام الوضوح من المضامين السابقة أن أهداف وأطماع الحركة الصهيونية لا تقف عند حدود فلسطين العربية، بل تتجاوزها، كما تؤكد كتابات كثيرة في الأدبيات الصهيونية، إلى المحيط العربي، وإلى شرقي الأردن تحديدا، إلى "الوطن البديل"، فشرقي الأردن عندهم هو الضفة الأخرى.
بل إن تلك الأهداف والأطماع لا تقف عند مسألة استكمال "الوطن الصهيوني الكبير" كما أراده بن غوريون، بل تتعداها إلى الهيمنة الشاملة على المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط بشكل عام.
ويتبين لنا في ضوء كل هذه التصريحات التوراتية الموثقة أننا أمام أدبيات يهودية توراتية وسياسية صهيونية تتحدث عن أن "أرض إسرائيل الكاملة" من النيل إلى الفرات، لتتحول هذه الأحلام التوراتية في زمن الصهيونية السياسية إلى أهداف وخطط ومخططات ومؤامرات صهيونية صريحة.
ثم تحولت هذه الشعارات إلى برامج سياسية ومخططات جاهزة لسحبها من "الجوارير" الحربية في اللحظة المناسبة من وجهة نظرهم، غير أنها أخذت تتفاعل وتتعزز وتنتشر في الآونة الأخيرة لتشمل أوسع مساحة من الخريطة السياسية الحزبية الإسرائيلية.
"
ما زلنا أمام مشروع صهيوني استعماري استيطاني اقتلاعي إحلالي كبير ومرعب، يستهدف فلسطين والأردن معا، ليصل إلى حدود الفرات، بل إن هذا المشروع لن يتوقف أبدا، وربما يشهد مستقبلا المزيد من التصعيد والترجمات الاحتلالية على الأرض
"
فأخذ الجدل يتأجج في أروقة الليكود الصهيوني حول "الأردن والوطن البديل" وحول "إسرائيل الكبرى" على نحو أشد تطرفا ووضوحا، وأخذت الأصوات تتعالى الجمعة 03/02/2012، مطالبة بالعودة إلى برنامج جابوتينسكي "ضفتان للأردن: هذه لنا وتلك أيضا" وهو يعتبر عمليا الأردن جزءا مما يسمونه بـ"أرض إسرائيل" التي تشمل فلسطين التاريخية والأردن.
وهذه الأصوات ليست يتيمة ولا منقطعة الجذور والامتدادات، بل هناك مطالب قوية بأن تتبنى قيادة الليكود هذا البرنامج كما قال إيتاي هارئيل، مؤسس البؤرة الاستيطانية "مجرون" لموقع "واينت"، موضحا أن طريق جابوتنسكي "ضفتان للأردن" هي الطريق المناسبة، ويجب الاهتمام بأن تسير قيادة الحزب في هذا الطريق.
وذكر وزير الحرب الإسرائيلي الأسبق موشيه أرنس في هآرتس بجابوتنسكي تحت عنوان "يوم التمرد" قائلا "في شهادة أمام لجنة بيل في لندن في الحادي عشر من شباط 1937، قال فلاديمير زئيف جابوتنسكي، إن هدف الصهيونية هو إنشاء دولة يهودية على جانبي نهر الأردن".
فحينما يصر الليكوديون المتشددون في الخريطة السياسية الإسرائيلية بين آونة وأخرى على استحضار شعارهم الجابوتنسكي "ضفتان للأردن"، فإن المسألة إذن ليست عفوية، وليست لمرة واحدة، وليست رد فعل أبدا، بل هي برنامج سياسي معزز بالأيديولوجيا الصهيونية السياسية والتوراتية.
لذلك لم تكن عملية "اقتحام الحدود الأردنية في الثاني والعشرين من ديسمبر/ كانون الأول 2011 على يد مجموعة من المستوطنين المتطرفين" عفوية وبدون مناخات أيديولوجية وسياسية ناضجة، ففي الخلفية كمّ هائل من الأدبيات السياسية والتوراتية التي تزعم أن "الأردن جزء من أرض إسرائيل"، و"أن الدولة اليهودية كان يجب أن تقام على ضفتي الأردن"، و"أن الوقت لم يفت على مثل هذه الدولة".
فرئيس الكنيست الإسرائيلي السابق روبي رفلين كان قد أعلن أن قيام "دولة إسرائيل على ضفتي نهر الأردن هدف قابل للتحقيق الآن أكثر من أي وقت مضى، ويصلح اليوم أكثر من أي وقت مضى في تاريخ إسرائيل"، مضيفا أن "جابوتنسكي لم يكن مخطئا".
والأدبيات الصهيونية الإسرائيلية التي تتحدث عن ذلك واسعة لا حصر لها، غير أن شارون كان قد شكل دائما خلاصتها المكثفة، فقد أعلن على سبيل المثال بتاريخ 30/8/1982 أن "الأردن هو الدولة الفلسطينية حيث إن 60% من السكان هناك فلسطينيون".
وأكد في مقالة له نشرت في يديعوت أحرونوت 26/2/1988موقفه من الدولة الفلسطينية قائلا "أنا شخصيا أومن ببرنامج الأوتونوميا كجسر سلام بيننا وبين الدولة الفلسطينية القائمة في الأردن".
ثم عاد شارون وصرح في أعقاب فوزه في الانتخابات عام 2001 للصحيفة الألمانية فوكس قائلا "أيضا شرقي الأردن جزء من أرض إسرائيل".
وهكذا نجد أننا ما زلنا أمام مشروع صهيوني استعماري استيطاني اقتلاعي إحلالي كبير ومرعب، يستهدف فلسطين والأردن معا، ليصل إلى حدود الفرات، بل إن هذا المشروع لن يتوقف أبدا، وربما يشهد مستقبلا المزيد من التصعيد والترجمات الاحتلالية على الأرض.
ونجد أنفسنا أمام خريطة سياسية إسرائيلية تمتد مساحتها الحزبية لتشمل الليكود وتفريخاته اليمينية، وأمام برامج سياسية مسعورة يجمعون عليها وتتطلع إلى ابتلاع فلسطين من بحرها إلى نهرها، وكذلك لابتلاع الضفة الشرقية برمتها أيضا.
"
الوحدة الوطنية الأردنية تبقى الحصن المنيع الذي تتحطم عليه البرامج والأجندات والأهداف الصهيونية السياسية والتوراتية
"
الوحدة الفلسطينية الأردنية
الواضح إذن، في ضوء هذا الكمّ من الأدبيات والبرامج والمواقف الإسرائيلية، هو أن استحضار "الوطن البديل" و"ضفتان للأردن"، بين آونة وأخرى، وفي قلب الكنيست، وفي قلب أكبر معسكر سياسي حزبي إسرائيلي هو الليكود اليميني المتشدد الجابوتنسكي، ليس مسألة إعلامية أو استهلاكية للرأي العام، وإنما هو مسألة حقيقية وحاضرة في البرامج والأيديولوجيات الصهيونية.
وتقف وراء هذه الدعوات لوبيات تنتمي وفق أحدث المعطيات إلى مجالس المستعمرات اليهودية في الضفة الغربية، التي تطالب على مدار الساعة مدعمة بفتاوى الحاخامات، بالتهويد الكامل الشامل للقدس والضفة، وبالانتقال في مشروع الاستيطان والتهويد إلى الضفة الأخرى.. الشرقية وفق البرنامج الجابوتنسكي.
وهذا يعني أن المطامع الصهيونية في الأردن لا تزال قائمة وتتجدد بقوة، وربما لا يكون ذلك اليوم الذي تصبح فيه هناك أغلبية صهيونية تطالب باجتياح الضفة الشرقية ببعيد، إذا لم يستيقظ الفلسطينيون والأردنيون والعرب.
وهذا يستدعي وحدة وطنية فلسطينية أردنية حقيقية على الأرض، وحدة واعية ناضجة في مواجهة الأطماع والمشاريع والتهديدات الصهيونية المتصاعدة، وفي مواجهة مشروع الوطن البديل، و"ضفتان للأردن"، وحدة تسقط تلك البرامج التي توظف "الوطن البديل" كفزاعة تعمق الهوة والتفكك بين الفلسطينيين والأردنيين.
والواضح من السياسات والأجندات الإسرائيلية التفاوضية على سبيل المثال، أن مطلب "الاعتراف الفلسطيني والعربي والدولي بإسرائيل، دولة للشعب اليهودي" أصبح يحتل الأجندات السياسية الإسرائيلية الحزبية والحكومية والإعلامية والأكاديمية.
كما أخذت المؤسسة الأمنية السياسية الإسرائيلية تربط مستقبل عملية المفاوضات والسلام المزعوم بهذا المطلب، بل إنها تربطه على نحو إستراتيجي بالأساطير المؤسسة للحركة الصهيونية ودولة إسرائيل من جهة، وكذلك بهواجس وجود ومستقبل تلك الدولة من جهة أخرى، استنادا إلى حسابات إستراتيجية كان منظروهم الأوائل قد تحدثوا عنها.
فهذا المطلب الذي أصبح شرطا إسرائيليا يحظى بالإجماع السياسي الإسرائيلي، يحملنا إلى بداياتهم وأساطيرهم وإلى خطابهم الإعلامي الوجودي ومرتكزاته الأيديولوجية والثقافية.
ويحملنا في الخلاصة المكثفة إلى أن نتعامل مع حكاية "الوطن البديل" وشعار "ضفتان للأردن" بمنتهى الجدية والمسؤولية.
ونعتقد باقتناع راسخ أن الوحدة الوطنية الأردنية تبقى الحصن المنيع الذي تتحطم عليه البرامج والأجندات والأهداف الصهيونية السياسية والتوراتية.