مجاهد مأمون ديرانية :: لقد قطعت الثورة إلى اليوم عشرةَ أشهر ليس معها أحد، وحققت انتصارات كثيرة بلا أي عون من أحد، وأرجو أنه لم يبقَ أمامها الكثير حتى الوصول إلى النصر الكبير. لا تسألوني كم بقي، فإني قد تفاءلت من أول الثورة وتوقعت أن يسقط النظام في العدد القليل من الشهور، ثم أثبتت الأيام خطئي وسوء تقديري. لقد ظهر أني في السياسة فاشل جاهل، فلطالما توقعت أموراً ولم تحصل وقدّرت أزماناً ولم تتحقق، فلا تأخذوا مني تلك التفصيلات بعد اليوم.
لا أعلم كم بقي من الزمن قبل أن يسقط النظام ويتحقق للثورة نصرُها العظيم بأمر الله، وليس هذا مهماً لان أحداً من الناس لا يعرف، المهم كم مضى وماذا حصل فيما مضى. لقد مضت عشرة أشهر وقفَت فيها الثورةُ وحدَها في وجه النظام السفاح، ولم تنكسر لها رايةٌ حتى اليوم مع أنها لم تقف معها دولة ولا قوة من قُوى الأرض، ما وقفت معها غير قوة السماء، حتى عجز النظام الذي يملك القوة الجبارة أن يواجهها منفرداً واضطَرّه عجزُه إلى الاستعانة بحلفائه الذين أمدوه بالدعم السياسي وبالسلاح والمال والرجال.
نعم، سقط كثيرون منا بين شهيد وجريح وأسير وتهدمت لنا بيوت وتَلِفَت ممتلكات، ولكن ألسنا نخوض حرباً مع النظام؟ متى وقعت في التاريخ حربٌ لم يسقط فيها ضحايا وتتهدم فيها بيوت وتتلف ممتلكات؟ إذا استثنينا تلك الخسائر (التي لا تكون حرب إلا بمثلها) فإن الثورة هي المنتصرة والنظام هو الخاسر، خسر من أول الثورة وما يزال يخسر المزيد كل يوم، وقد قلت من قبل وأكرر هذه الحقيقة المهمة الآن: من يوم الجمعة الثامن عشر من آذار لم يسيطر نظام الأسد المحتل على كامل التراب السوري ولا ساعة واحدة، ففي كل لحظة مضت منذ ذلك اليوم كانت بقاعٌ كثيرة خارجةً عن سيطرته كلياً أو جزئياً، وهو أمر لم يعهده النظام في سوريا خلال ثمانية وأربعين عاماً من أعوام احتلاله للبلاد.
حينما كنت صغيراً لم يكونوا قد اخترعوا بعدُ تلك الأواني الزجاجيةَ التي تحتمل حرارة النار، وكانت الأواني القديمة إذا وُضعت على النار زمناً فلا بد أن تنشقّ وتنكسر إلى أجزاء، ذلك المصير كان حتمياً، إلا أن أحداً لم يعرف قط الجواب على سؤالين: كم من الزمن تحتمل الآنية قبل أن تنكسر، وما هو شكل الكسر. هذا المثال ينطبق على النظام اليوم؛ إنه يتلظى على نار الثورة الموقَدة وإنه سيتصدع ويتكسر لا محالة، سوف يسقط النظام بأمر الله، لا نعلم شكلَ الانهيار ولا زمانَه ولكن نعلم أنه أمرٌ آتٍ وأن الثورة منصورة بإذن الله ولو بعد حين.
* * *
عشرة أشهر مشيناها وحدنا وانتصرنا فيها انتصارات كثيرة كبيرة بلا مساعدة من أحد إلا من الله، فلماذا لا نكمل الطريق وحدنا؟ لماذا نستجدي الأمم ونضع أملنا في القوى الدولية، في تركيا مرة وأميركا وفرنسا مرة، وفي الجامعة العربية حيناً ومجلس الأمن حيناً آخر؟ لماذا لا نكمل وحدنا معتمدين على الله الذي اعتمدنا عليه وحده من أول يوم إلى اليوم؟
أدعوكم إلى التوجه إلى الله توجهاً صادقاً والاعتماد عليه وحده، ثم الصبر على الثورة حتى النصر. تقولون: إننا معتمدون على الله من يوم بدأنا. وهذا حق، ولكنه اعتماد شابته شوائب، فإن بعض الشعارات والهتافات وتسميات بعض الجُمع أوحت بأن الآمال معقودة على حلف الناتو ودول الغرب أو على تركيا أو جامعة العرب أكثر مما هي معقودة على الله رب العالمين.
لقد خرج الناس إلى الثورة أولَ ما خرجوا وما في بال أحد منهم أن يطلب عوناً من أحد من الخلق، ما اعتمدوا إلا على الله وعلى أنفسهم لا وثقوا إلا بالله وبأنفسهم، ثم اشتدت عليهم المحنة وأوغل النظام في الإجرام، فضاق الصدر وقلّ الصبر، فثَمّ مدّ بعض الناس أبصارهم إلى الخارج وراحوا يَسْتَجْدون النجدة من دول العرب ودول الغرب ولا من مُجيب، وحين تحركت الجامعة العربية أخيراً قلنا ليتها لم تتحرك. لقد فقد الناس ثقتهم في العرب وفي جامعة العرب لحسن الحظ، ولكنهم ما تزال طائفة منهم تعلّق آمالها بالغرب، فهل تظنون أن الغرب أشد شفقة وأكثر رحمة بنا من العرب؟ وهل يتحرك العرب -في دولهم وجامعتهم- اليومَ أو هل تحركوا من قبل أبداً إلا بأمر الغرب وتوجيه الغرب ورعاية الغرب؟ وهل كان الحكام الذين عانت منهم شعوبنا إلا صنائع الغرب وربائب الغرب؟ وهل أحبّنا الغرب من قبل قط حتى يحبنا اليوم، أو أراد لنا الخير أبداً حتى يريده لنا الآن؟
لا يا أيها السادة الكرام، ما أصبتم يوم صرفتم الأنظار تلقاء الغرب ولا أصبتم حين ظننتم الخير بدول العرب وجامعة العرب، وأصبتم الصواب كله حينما توجهتم إلى رب العالَم العربي ورب العالم الغربي ورب العالمين، فارجعوا إلى الله واتكلوا على الله، واثبتوا على الثقة بالله وداوموا على طلب النصر من الله، وأطلقوا “حملة يا الله”، ليس اسماً ليوم جمعة ولا عنواناً لمظاهرة، بل عنوان حملة لا تتوقف حتى النصر الكامل إن شاء الله.
أعلمُ أنه ليس كل من شارك في الثورة متديناً غاية التدين بالضرورة، لكن حتى أنصاف المتدينين يؤمنون بالله. وأعلم أنه ليس كل من شارك في الثورة مسلماً قطعاً، لكن حتى المسيحي يعرف الله ويعبد الله، وحتى الذي لا يؤمن بدين من الأديان يدرك أن للكون رباً خالقاً عظيماً مدبّراً ولو لم يَهْدِه قلبُه إلى الدين، فالتجئوا إلى الله جميعاً يا أيها الناس واطلبوا منه النجدة والنصر. أما القلّة الذين لا يؤمنون بالله أصلاً فأرجو أن يسايرونا وأن يجرّبوا التوجه بقلوبهم إلى أعظم قوة في الوجود. لا بد أن القُوى تتفاوت في أقدارها، فأنتم ترون أن أميركا أقوى من النظام فتعقدون عليها بعض الأمل، لكن أميركا ليست أقوى قوى الوجود، لو ضربها إعصار هائل أو زلزال عظيم لدمّرها، إن القوى الكامنة في الأرض أقوى منها. والأرض ليست أقوى قوى الوجود، لو صدمها نيزك بحجم القمر لفتّتَها، والنيزك تحرقه الشمس، والشمس لو مرت قرب ثقب أسود لبلعها وصارت خبراً بعد أثر… في تسلسل القوى تجدون قوياً وأقوى وأقوى، حتى تصلوا إلى القوة الأقوى والأعظم في الوجود، هذه القوة العظمى هي الله ولو لم تعرفوا اسمه، فتوجهوا إليها واطلبوا منها العون، فإنكم سوف تطلبونه إذن من الله.
* * *
لنتفق جميعاً على التوجه إلى الله، المتدين فينا وغير المتدين، المسلم وغير المسلم، المؤمن وغير المؤمن، ودعونا من التوسل إلى الغرباء واستجداء التدخل والنجدة من هذا الطرف وذاك، ولا تقولوا: كيف ينصرنا الله؟ هذا عمله، فأنتم لم تُمْلوا على الناتو خطة لينقذكم بها بل طالبتموه ووكلتموه.
تأملوا هذا المثال وسوف تدركون كيف تعمل أقدار الله إذا شاء الله أن ينصر عباده: لقد صار الجيش الحر واحداً من أهم مكونات الثورة وهو -كما دعوتُه في مقالة سابقة- “بوابة الأمل” وحارس الثورة الأمين، فمِن أين جاء هذا الجيش؟ مَن خطط له ومن سعى إلى تشكيله؟
بعد انفجار الثورة بأربعين يوماً اقتحم النظام المجرم درعا بالدبابات، وكانت تلك هي الحلقة الأولى من مسلسل طويل من استخدام الجيش في المعركة مع الشعب الثائر، فارتاع الناس وحبسوا أنفاسهم وقد غشيهم الخوف والقلق وراحوا يتساءلون: هل هي القاضية؟ لقد بلغ بالنظام اليأسُ وخوفُه من الثورة أن يحرك الجيش النظامي لقمعها، فهل سيُنهي الجيشُ الثورةَ ويقضي عليها وهي ما تزال مولوداً ضعيفاً ونبتة صغيرة طريّة العود؟
مَن خطر بباله يومئذ أن الأمل سوف يولَد من رحم اليأس، وأن تلك الحملة هي البداية ليست النهاية، وأن إخراج الجيش من ثكناته سحرٌ لن يلبث أن ينقلب على الساحر؟ لقد صنع ذلك العملُ الأهوجُ ما لم تصنعه عقول الثورة الكبار، فهو السبب في بداية تشقق الجيش وهو السبب في نشأة الجيش الحر. هل يزعم أحدٌ أنه توقع ذلك، فضلاً عن أن يكون قد خطط له وسعى في تدبيره؟ أنا متابع دقيق لأحداث الثورة وأقول لكم: ليست الحقيقة أن أحداً لم يخطط لهذه النتيجة فقط، بل إن أحداً لم يتوقع أصلاً أن ينشقّ عن الجيش جندي واحد، وكان كل ما يقوله الناس حتى الشهر الثالث من شهور الثورة: إنه جيش عقائدي شديد الولاء ولا يمكن أن يتمرد فيه ضابط واحد.
ما صنع الجيشَ الحر أحدٌ من البشر ولا خطط له أحد، إنه صُنع الله؛ ذلك فضل الله على الثورة، وفضل الله لا حدّ لأوله ولا حدّ لآخره، وإنّ من حق الله أن يُشكَر وأن لا يُدعى ولا يُرجى سواه. فتوكلوا على الله وارجوا نصره واتركوا له التدبير والتقدير؛ على أن لا تقعدوا قعود الكسالى المتواكلين، وأعلمُ أنكم لا تفعلون، فإن التوكل يقتضي إحكام التخطيط وبذل غاية الجهد ثم ترك الأمور بين يدي الله القويّ القدير الحكيم العليم.
إن الاتكال على الله لا ينفي الاستعانة بالوسائل والأدوات المادية، بل إن الأخذ بالأسباب مطلوب شرعاً ويؤاخَذ تاركُه، وقد يكون طلب الحظر الجوي من هذا الباب لو اتفق عليه أهل الرأي من العسكريين، ومنه السعي إلى توفير السلاح للجيش الحر، على أن لا يبلغ الأمل بتلك الوسائل أن يُظَنّ أن النصر منها، تماماً كما لا يبلغ الأمل بالطبيب أن يُظَنّ أن الشفاء بسببه، فكم من مريض عالجه الأطباء ولم يبرأ وكم من مريض برئ ولم يعالجوه، ذلك ليعلم الناس أن الأطباء يعالجون ويداوون وأن الشافي على التحقيق هو الله.
فإذا بلغ اليقين في قلوبنا هذا المبلغ فسوف ندعو الله دعاء الموقن بأنه هو الناصر، ونطرق كل باب من أبواب الدنيا ونطلب العون من البشر ونحن نعلم أنهم وسائل يسخّرها الله لنا إن شاء، فلا نيأس إن أُغلقت في وجهنا الأبواب لأننا نعلم أن باب الله لا يُغلَق، ولا نسمح لأحد أن يبتزّنا ويفرض علينا التضحية بشيء من كرامتنا وحريتنا في سبيل نجدتنا لأننا نعلم أن الله سيفتح لنا باباً خيراً منه طالما اعتصَمْنا به ورجوناه واتكلنا عليه حق التوكل.
* * *
أكرر في الختام السؤالَ الذي افتتحت به المقال: لماذا لا نكمل الطريق وحدنا؟