بابا عمرو قلب الثورة السورية النابض
محمد الملحم

هناك على مسافة بضعة كيلو مترات إلى الجنوب الغربي من مدينة حمص العدية وقريبًا من ضفاف نهر العاصي الشهير بين البساتين والسهول الخضراء يقع حي بابا عمرو، الذي تبلغ مساحته والأحياء المجاورة له قريبًا من 12 كم مربع ويبلغ عدد سكانه مع الأحياء المجاورة له أيضًا قرابة الـ 100.000 نسمة، وإبان هذه الثورة المباركة أصبح اسم بابا عمرو لا يقتصر على حي بابا عمرو فقط؛ بل بات يشمل إضافة إليه كلًا من حي جورة العرايس والسلطانية وجوبر والتوزيع الإجباري، كلها تحت مسمى (بابا عمرو)، وذلك نوع من التقسيم الإداري الجديد للأحياء فضَّله الثوار لتسهيل إدارة شؤون الثورة وتغطيتها إعلاميًا وإغاثيًا وغير ذلك، وحديثنا في هذا المقال سيكون عن بابا عمرو حسب هذا التقسيم الجديد.

يحد حي بابا عمرو من الشمال حي الإنشاءات، ومن الشرق المدينة الجامعية ومنطقة السكن الشبابي وبلدة كفرعايا، وفي الجنوب منطقة تل الشور، ومن الغرب تمتد بساتين وحقول الحي حتى تنتهي إلى نهر العاصي. هذا ومع اتساع العمران وتضخُّم المدينة أصبح حي بابا عمرو أحد أحيائها الكبرى الملاصقة لها.

يشكل التنوع العرقي في بابا عمر لوحةَ فسيفساء جميلة؛ حيث يعيش في أكناف هذا الحي المبارك -بإذن الله- العرب والتركمان والكرد، وبينهم جميعًا مصاهرات وقرابات وعلاقات وشيجة، لم يفرق بينهم لسان ولا عادة ولا قومية؛ صهرهم الإسلام في بوتقة واحدة، ولما انطلقت ثورتنا المباركة وقف الجميع يداً بيد في وجه نظام القمع الأسدي.

أما أهل بابا عمرو فيتصفون بما يتصف به أهل حمص عمومًا من الطيب والسماحة وروح الدعابة والكرم والشجاعة والإقدام، ولم يُعهَد عند أهل بابا عمرو أي توجهات سياسية سابقة بل الناس هناك يعيشون على سجيتهم وفطرتهم ويكثر ميلهم -بحمد الله- إلى العلم والتدين عمومًا.

من معالم بابا عمرو:
على الرغم من قِدَم حي بابا عمرو إلا أن المعالم الأثرية فيه قليلة، منها: مسجد بابا عمرو القديم وفيه مقام ينسب إلى الصحابي الجليل عمرو بن معد يكرب الزبيدي -رضي الله عنه- وفي الحي طاحونة قديمة كان الناس يقصدونها لطحن القمح، ومن أهم معالم بابا عمرو كذلك (تل بابا عمرو) وهو مرتفع من الأرض يتخذه الناس نقطة علاَّم، والبساتين والمزارع الخضراء الخلابة.


إرهاصات الثورة وانطلاقتها في بابا عمرو:

أولًا: الإرهاصات:
لقد شكل انتصار الثورة التونسية في 14 يناير 2011م نقطة تحوُّل في حياة المواطن العربي عموماً، وأخرجته من حالة الإحباط التي كانت تسيطر على تفكيره؛ وأنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، وأن حال الظلم والجور لا يمكن الحدُّ منه فضلاً عن تحطيمه والتخلص منه، وكذلك الثورة المصرية كانت رافعة لثقة المواطن العربي بقدرة على التغيير وإزالة تلك الأنظمة من جذورها. وكان الناس في بابا عمرو -كما في سائر سورية- يراقبون ما كان يجري في تونس أولًا وفي مصر ثانيًا بدقة وعناية فائقين، ويرصدون كل التفاصيل وخاصة شريحة الشاب منهم، فانبعث الأمل في نفوسهم وزادت ثقتهم بربهم وأنه ناصرهم، لقد كان الناس في بابا عمرو تتوق نفوسهم إلى الحرية والتخلص من حكم الطائفيين، ولكن في الوقت نفسه يمنعهم من الإقدام ما يختزنونه في ذاكرتهم -وخاصة بعض كبار السن- من صور القمع والقهر والتعذيب المعهودة عن نظام الإرهاب الطائفي. وبين طموح الشاب وحماستهم وتوقُّدهم من جهة، ووَجَل الشيوخ وكبار السن من جهة أخرى كانت تتردد النفوس.

لقد كانت كل المؤشرات تدل على أن شيئًا ما ربما يحدث في أي لحظة؛ وخاصة أن الشرارة كانت قد انقدحت في مركز المدينة في مسجد خالد بن الوليد -رضي الله عنه- والنفوس ثائرة وحانقة. وكان يلاحَظ بشكل كبير واضح ارتباك النظام ومحاولاته التودد إلى الناس من خلال اتخاذه بعض الإجراءات منها: تعميم توجيهات على عناصر الفروع الأمنية والشرطة وغيرها ألا يستفزوا الناس بحال من الأحوال ولو ارتكبوا أكبر المخالفات ما دون التعرض لعائلة الرئيس، فصار أولئك الوحوش بين عشية وضحاها حِمْلانًا وديعة. كما ازدادت المظاهر الأمنية والعناصر المسلحة بعتادها الكامل في الشوارع وعلى مفارق الطرق، ويظهر ارتباك الدولة أيضًا في محاولتها كسب وُدِّ الناس من خلال خفض سعر المازوت وغيره وإقرار زيادات بخسة في رواتب الموظفين... إلخ.

وأيضاً كانت جدران المساجد والمدارس والأبنية الحكومية عامة تشهد معارك ملتهبة بين الشباب المتعطش للحرية وبين رجال الأمن؛ حيث تحولت الجدران إلى ساحات للتعبير عن السخط الشعبي، فالشباب يملؤونها شعارات من مثل: (إجاك الدور يا دكتور -لا إله إلا الله والأسد عدو الله- يسقط بشار الأسد...)، ثم يأتي عناصر الأمن والشرطة لمحوها في النهار. وانتشرت أيضاً ظاهرة (الرجل البخاخ)، ولاحقت أجهزة النظام الأمنية محلات بيع الدهان والأصبغة وأحصت عدد عبوات (البخ).

ثانيًا: الانطلاقة:
بعد الأسبوع الثالث من خروج المظاهرة الأولى من مسجد خالد بن الوليد –رضي الله عنه– في مركز المدينة في (18- 3-2011م) اتفقت مجموعة من شباب الحي على تفجير الثورة في الحي، وكانت الخطة أن يقوم كلُّ واحد من هؤلاء الشباب بإقناع عشرة أشخاص من الذين يثق بهم من رفاقه وأصدقائه بالخروج في المظـاهرة علـى أن يتـم الاجتماع في مسجد عبد القادر الجيلاني؛ بحيث يكون عدد الهاتفين يقارب مئة ثائرٍ، وتُوكَل مهمة التصوير إلى أحدهم. طبعاً كان ذلك بالتنسيق مع شباب مجموعات أخرى في مسجد الأنوار في حي جورة العرايس ومسجد الجوري وغيرهما من مساجد الحي.

وأَدَع الحديث للشاب (ح. م) -وهو طالب جامعي من شباب الحي- ليحدثنا عن تفاصيل ما حدث في مسجد عبد القادر الجيلاني يومها، يقول:

(بدأت الأحداث من جامع الجيلاني؛ حيث تولى مهمة الصدع بالحق ثلة من الشباب من خارج الحي وبعضهم من أبناء الحي، وما إن انتهى الإمام من صلاة الجمعة (8- 4- 2011م)، حتى قام بعض هؤلاء الشباب ونادوا بأعلى صوتهم: (فاز من وحد الله... الله أكبر) كان بعضهم يضع لثامًا وبعضهم سافر الوجه، من أبرزهم الشهيد عبد الوكيل البويضاني، رحمه الله.

لقد كانت لحظات لا أنساها أبدًا ما حييت، لقد رأيت أناسًا يخرجون من المسجد حفاة مسرعين لا يلوون على أحد، وآخرين كانوا يرتجفون من الخوف! وعلت أصوات كبار السن بعبارات ملؤها الخوف والتثبيط: (شو بدنا بها الكلام، وبلا وجع راس).

كانت هناك رغبة عارمة في الخروج من أتون الظلم والذل؛ ولكن ذكريات الماضي الأليمة والمخيفة كانت تحبط الناس وتحد من آمالهم وخاصة كبار السن منهم.

يتابع الأخ (ح. م) قائلًا: (لا أستطيع أن أصف ذلك الشعور في تلك اللحظة الفارقة في حياة السورين جميعًا، فلما كبَّر الشباب انطلقتُ إلى بيتي مسرعًا لألبس حذائي الرياضي وأعود إليهم لأهتف معهم، يبتعد بيتي عن المسجد قرابة 100 متر فقط، ولكنني شعرت أن المسافة امتدت، وتطاول الزمن وأني في سباق معه، أريد أن أصل الساحة لأهتف مع الجموع هناك).

يتابع شاهدنا قائلًا: (لم يكن عددنا كبيرًا وقتها فلم يحضر جميع الشباب، وخرجنا إلى الشارع العام والناس يتحاشوننا وينظرون إلينا نظرات فيها الخوف، وكان منهم من يهتف معنا وهو يقف مكانه بعيداً عنا، كانت قلوبهم معنا ولكن رواسب الخوف والجبن في نفوسهم لم تزل مسيطرة. لم يكن حسم الموقف وقتها أمرًا سهلًا).

ثم يتابع قائلًا: (ثم انطلقنا إلى مركز الحي؛ حيث التقى جميع من خرج هاتفًا من المساجد).

ويروي لنا الأخ ( ع. م) أيضًا قصة انقداح شرارة الثورة في مسجد آخر في حي جوبر، فيقول: (بعد محاولتنا الناجحة في مسجد الجيلاني وبعض مساجد بابا عمرو اتجهنا في الأسبوع التالي (15 - 4 - 2011م) إلى مسجد أبي بكر الصديق في جوير، وبعد انتهاء الصلاة بدأ الشباب بالتكبير ولكن المفاجأة كانت في صمت الناس وإعراضهم حتى أن أحد كبار السن قال بالحرف الواحد: (لا تردُّوا عليهم هؤلاء من بابا عمرو وكلنا نعرفهم). لقد عشنا وقتها لحظات صعبة جـداً إلى أن انبرى من بيننـا الشـهيد البطـل طارق التركمـاني -رحمه الله- صارخًا في جموع الناس: لماذا لا تهتفون؟ لماذا لا تجيبون؟ أتنتظرون أن تغتصب نساؤكم حتى تخرجوا؟ فكانت صرخته الصادقة -التي ما لبث أن استشهد بعدها بأيام- شرارة الثورة هناك؛ إذ صدحت الحناجر بعدها بالتكبير والهتاف للحرية، وحصل مثل ذلك في مسجد قباء في حي الإنشاءات المجاور لبابا عمرو.

كانت تلك بعض صور الولادة العسيرة للثورة، ثم بدأ الشباب بتنظيم جهودهم وتقاسم الأدوار؛ فهناك من يجمع المال، وهناك من يجهز اللافتات، وهناك من يؤمِّن الغطاء الإعلامي والتواصل مع القنوات، ومنهم من يصور، وآخر يرفع المقاطع على شبكة الإنترنت... وهكذا.

مادة الثورة وأهدافها وآلياتها:
لقد شكل الشباب بكل شرائحهم وفئاتهم وانتماءاتهم الفكرية مادة الثورة في بابا عمرو وأداتها الفاعلة بامتياز كبير، بينما كان موقف كبار السن في بداية الأمر الاعتراض على أية حركة احتجاجية غير مأمونة العواقب مهما كانت، بل ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك؛ حيث قاموا بالتعنيف على الثوار وطردهم من المساجد كما حصل في مسجد قباء -مثلاً- ومسجد أبي بكر الصديق في جوبر وغيرهما، ولعل مردَّ ذلك في نظري إلى أن الشباب لم يعايش بطش وإجرام النظام كما عايشه الآباء والجدود؛ إذ ما زالت قصص وصور مجازر حماة وحلب وحمص وجسر الشغور وتدمر وغيرها من المدن السورية ماثلة في الأذهان لم تبارحها إلى حدَّ أنها قتلت كلَّ أملٍ في التخفيف من هذا الظلم فضلًا عن إزالته والانقلاب عليه وإسقاطه، كان الأمر ضربًا من المستحيل بالنسبة إليهم. أما الشباب فعلى الرغم من أنهم عاشوا سنوات طويلة يعانون من ممارسات الذل والقهر إلا أن ذلك لم يحدَّ من أشواقهم للحرية أو يزلزل من إيمانهم بإمكانية التغيير؛ خاصة بعدما رأوه من نجاح الثورات الشبابية في تونس ومصر وغيرهما.

أما بالنسبة لأهداف الثورة: فقد شـهدت حـالة من التفـاوت الظـاهري؛ ففي البـدايات كانت الأهـداف محـدودة؛ فأقصـى ما هتف به الناس هو إسقاط المحافظ والمطالبة بإطلاق معتقلي الرأي، ورفع المستوى المعيشي للناس، وكذلك الحد في صلاحيات الأجهزة الأمنية التي أرهقت البلاد والعباد، ثم ما لبثت مع ارتفاع وتيرة بطش النظام وقمعه للمظاهرات، وسفكه للدماء أن ارتفع سقف المطالب الجماهيرية إلى إسقاط النظام ثم محاكمته ثم إعدامه. قد يؤوِّل بعض الناس ذلك بأنه ردة فعل على عدم استجابة النظام لمطالب الشارع القريبة! قد يكون ذلك التأويل صحيحًا؛ ولكن في الحقيقة لم يكن خفض سقف المطالب بداية إلا حركة ذكية من الثوار -وهذا يسحب على ثوار بابا عمرو وحمص وسائر سورية- حتى لا يكون منهم استفزاز لرعونة النظام القمعي بداية كما هو متوارث عنه. لذلك كانت الأهداف تتصاعد مع ارتفاع وتيرة الإجرام إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه من حالة من الانفصام ما بين الشارع والغاصبين للحكم.

وأما عن آليات الثورة: فقد صدق على ثورة أهلنا في سورية عمومًا وفي حمص وبابا عمرو خصوصاً المثل القائل: (الحاجة أم الاختراع)؛ إذ انطلقت الثورة وما في جعبة شباب الثورة إلا إيمانهم بقضيتهم، لم يكن ثمة شيء لديهم، حتى الهتافات واللافتات كانت من البساطة بمكان، ثم ما لبثت أن تفجرت المواهب وتفتقت العقول عن أفكار وأساليب قاومت -على قلة إمكانياتها- قوة النظام الأسدي الإعلامية والعسكرية وقهرتها.

لقد اعتمد شباب بابا عمرو -بعد الله- على جهودهم الشخصية في تفجير الثورة والحث عليها؛ فكان الحديث مع الأصدقاء والأقارب الموثوق بهم بداية، ثم كتابة الشعارات على الجدران بكل العبارات والمعاني والألوان.

وكان التصوير بداية بالجوالات البسيطة الذي كان يرهق أعين الناظرين، وكذلك اللافتات كانت تُصنَع من أغصان الشجر والأقمشة المتوفرة بكل الأحجام والألون والأشكال، فيها الشعار والهتاف والمطلب السياسي والعبارة الساخرة والصورة المعبرة.

لقد حرص الثوار في بابا عمرو منذ اللحظة الأولى على تحطيم هيبة الطاغية بشار الأسد في النفوس فقاموا بتحطيم صورة والده الكبيرة التي كانت معلقة على جدار المؤسسة الاستهلاكية في حركة جميلة يحاكون فيها صورة ذلك الشاب الذي صعد على بوابة نادي الضباط في حمص وراح يركل صورة حافظ الأسد برجله، وكذلك قاموا بحرق صور بشار الأسد وأبيه بكثافة، وتفننوا بامتهان صور الطاغية وكل ما يرمز إليه، ورفعوا علم الاستقلال بدلًا من علم النظام للدلالة على قطع كل علاقة بالنظام الأسدي وتصريم كل ما يمتُّ له بسبب.

ثم تطور الأداء بشكل كبير بعدما ازدادت الخبرات؛ فتشكلت فرق العمل المتخصصة، فهناك الفريق الإعلامي الذي يتولى مسؤولية كتابة اللافتات التي تحكي الموقف الثوري والرأي السياسي، وتوثيق الأحداث بالكاميرا ذات الدقة العالية مع ذكر مكان وتاريخ الحدث بالصوت أو الكتابة، وتوثيق أسماء الشهداء وقصصهم، وتوثيق أي جريمة يقترفها النظام بكل تفاصيلها، وخاصة ما يقوم به من تعذيب المعتقلين الذين أخذوهم أحياء ثم تسلَّم جثثهم إلى أهلهم وقد شوهت ومُثِّل بها.

وأيضًا التواصل مع القنوات الفضائية (العربية والعالمية) من خلال البث المباشر ذي الدقة العالية الذي أذهل الناس جميعاً، وكذلك إدخال الصحافة العالمية إلى قلب الحي وقيامهم بـ (روبرتاجات) وتسجيل التقارير من أرض الميدان، كقناة سكاي نيوز والبي بي سي وغيرهما، وإنشاء صفحات على الفيسبوك لنقل أخبار الحي للعالم جميعًا[1]. كل ذلك وغيره كان يقوم به فئام من ثوار الحي آلو على أنفسهم أن يوصلوا صوت شعبهم إلى الدنيا جميعاً ولو كلفهم ذلك حياتهم.

وهناك الفريق الإغاثي الذي تولى مهمة توفير المساعدات وتوزيعها على المتضررين من قمع النظام وبطشه. لقد بدا أداء هذا الفريق احترافياً؛ فبعض الثوار يقومون بتوفير قوائم بأسماء الشهداء وأسرهم، وآخرون يحصون عدد الجرحى وغيرهم يتابعون عوائل السجناء، ثم تُرفَع القوائم إلى فريق التوزيع ليقوم بتوزيع ما تيسر من مساعدات على أكبر شريحة من المنكوبين. وإلى جانب ذلك كله هناك فريق لتوفير المواد الطبية وتأمين المستشفيات الميدانية وغير ذلك.

الاجتياحات العسكرية التي تعرضت لها بابا عمرو:
لقد تعرض حي بابا عمرو إلى أكثر من سبعة اجتياحات عسكرية متواصلة، مدعومة بالدبابات والطائرات المروحية في كل مرة، كان أولها في جمعة التحدي 6/5/2011م ولـمَّا تنته إلى لحظة كتابة هذه السطور. وفي كل مرة كان الجيش يستبيح أموال الناس وبيوتهم ويزهق أرواحهم؛ فلا تسأل عن النهب المنظم للبيوت واستهداف أي كائن حي يتحرك من خلال نشر عدد كبير من القناصة على المباني المرتفعة. تقول الأخت (س . م): (إن الساعات التي لم يسمع فيها صوت للرصاص منذ بداية اجتياحات الحي لا تتجاوز أصابع اليدين وإن المارَّ في شوراع الحي لَيَأخُذه العجب مما يراه من الدمار والتخريب؛ فهناك بيوت سويت بالأرض وبيوت نهبت بالكامل، وأخرى احتلتها عصابات الأسد بعدما طردت أهلها منها. ونحن كذلك خرجنا من بيتنا في وسط الحي إلى بيت أقارب لنا في الريف البعيد، وفي الاجتياح الأخير بعد عيد الأضحى المبارك دخلت عصابات الطائفيين المنزل ولم يتركوا أثاثًا ولا أجهزة كهربائية إلا دمروها، حتى ملابس الأطفال مزقوها؛ إنهم يعتمدون سياسة منظمة في التخريب، حسبنا الله ونعم الوكيل).

وجرى الاعتداء على بيوت الله بكل جرأة وصلف، ووضعوا في بعضها -كجامع الحمزة مثلاً- صورًا عاهرة وأتوا بقناة الدنيا (الموالية للنظام) لتصوِّر ذلك وتنسبَه زوراً وبهتاناً للمسلحين المزعومين في الحي.

يبلغ عدد الحواجز الأمنية والعسكرية في بابا عمرو 30 حاجزًا[2] تتوزع على أطراف الحي وفي وسطه على مفارق الطرق الرئيسية، ولا عمل لهذه الحواجز إلا إرهاب الناس وإرباك حركتهم وإطلاق النـار العشـوائي على المنـازل، ومن أسـوأ هذه الحـواجز -وكلها سيئة- حاجز المؤسسة الاستهلاكية وسط الحي والحاجز الموجود على مفرق قرية كفرعايا.

ونتيجة لهذا الإرهاب المنظم من الدولة تجاه أبناء هذا الحي فقد حدثت حالات نزوح كبيرة تشرَّدت خلالها عوائل كثيرة وتشتتوا في الأرياف المجاورة خشية على أعرضهم وأرواحهم.

قد يتساءل إنسان: كيف كان أبناء الحي يواجهون كل هذا الجبروت؟ لقد كان سلاح الناس –وبدون أي مبالغة– هو التكبير والتهليل والدعاء، يقسم أحد أبناء الحي على أن التكبير كان يقع على رؤوس عصابات الشبيحة وضباط الجيش الأسدي وجنودهم كالصواعق إلى درجة أنهم كانوا يرتجفون عند سماعهم صوت الحق؛ وخاصة عندما يوافق التكبيرَ آياتٌ من آيات الله كالرعد والبرق، عندها كانت تنخلع قلوبهم. إن إيمان الناس بربهم أولاً وبعدالة قضيتهم ثانياً جعلهم ينتصرون في كل منازلة لهم مع هذا النظام الإرهابي رغم شدة الألم والجراح.

وكذلك كان لجند كتيبة الفاروق والعناصر المنشقين المنتمين للجيش الحر بلاؤهم الكبير في التصدي لعصابات الأمن والشبيحة والجيش الموالي للنظام وتكبيدهم خسائر كبيرة في العتاد والرجال، ولو أن المقام مناسب لسردت عشرات القصص التي تحكي بطولات أبناء الحي الخارقة في مواجهة هذه العصابات.


حجم المعاناة والخراب في الحي:
إن حجم معاناة أبناء الحي كبيرة جدًا ومؤلمة؛ فهناك أكثر من 300 بيت تعرضت للاستهداف المباشر وكثير منها لم يعد صالحًا للسكن. ولا يوجد في الحي لا ماء ولا كهرباء ولا وقود للتدفئة علماً أن شتاء سورية معروف بقسوته وشدة البرودة والصقيع فيه، لقد عبَّر لي أحد أبناء الحي عن حالهم بقوله: (إن البهائم لا تستطيع العيش في بابا عمرو) من قسوة ما يعانون. والناس في الحي كلهم مشروع شهادة؛ فالقناصات منتشرة على كل الأبنية المرتفعة في الحي والأحياء المجاورة المطلة عليه؛ ترصد كل حركة للناس لتغتالهم.


الشهداء والجرحى:
لم تبخل بابا عمرو بالشهداء في سبيل الخلاص من نظام القمع الأسدي من بداية الثورة، بل جادت بخيرة شبابها، وكان أول الشهداء نايف العمر –رحمه الله– الذي استشهد في أول مظاهرة كبيرة يشهدها الحي في جمعة الصمود 8- 4- 2011م، ثم تتالت قوافل الشهداء إلى أن بلغ عددهم حتى لحظة كتابة هذا المقال 146 شهيدًا فيهم الرجال والنساء والأطفال.

وهناك عوائل جادت بعدد من أبنائها كعائلة الغنطاوي التي قدمت أول شهيد لها (عبد الله الغنطاوي) في جمعة التحدي 6- 5- 2011م، وفي 10 رمضـان أول مجـازر بابا عمرو اسشهد (محمود رضا الغنطاوي) وهو ابن عم عبد الله، ولحقه أخوه (إبراهيم رضا الغنطاوي) بتاريخ 2- 11- 2011م.

وكذلك عائلة البويضاني التي قدمت الشهيد (عبد الوكيل البويضاني) أول من صاح بـكلمة الله أكبر في مسجد الجيلاني، وابن أخيه الشهيد (خالد البويضاني) وعمه الشهيد (أبا هشام البويضاني).

ومن الشهداء أيضًا الشهيد طارق التركماني (مفجر الثورة في حي جوبر) والشهيد محمد الشيخ (بلبل الثورة في بابا عمرو)، وكثيرون غيرهم لا يتسع المقام لذكرهم، رحمهم الله جميعًا ورفع درجاتهم.


التحولات الاجتماعية والنفسية في ظل الثورة المباركة:
إن المتـأمل في هـذه الثـورة المبـاركة ليجـد فيها مصـداق قـوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]. وهناك مئات من القصص التي تحكي قصة هذا التحول العجيب في حياة الناس؛ إنها معجزة ربانية حقاً؛ فالناس قبل الثورة يختلفون بشكل كبير عنهم بعد الثورة، لقد استحالوا خلقًا آخر، لقد ذابت الفوارق بين الريف والمدينة بل تلاشت تمامًا، وروح الأخوة والتعاون بين الجميع باتت واضحة للمتابع، وهذه بعض الصور والمواقف التي تحكي بعض قصة هذا التحول:

يحدثنا الأخ (م .ع) من أبناء الحي قائلًا: مع اشتداد وتيرة القصف على الحي لم يعد بإمكاننا البقاء في بيتنا، فاضطررت لإخراج أهلي إلى مزرعة لأحد الأقارب، وفي طريقنا إلى هناك فاجأني كثير من الناس بأنهم قد أعدوا أنفسهم لاستقبال النازحين من الحي أيًا كانوا دونما تمييز بين قريب وغريب، وأنهم جهزوا المأوى والطعام والشراب تطوعًا لله تعالى، لقد فاضت دموعي لما رأيت الناس يبتدروننا كلٌّ منهم يريد أن يدخلنا بيته في إصرار عجيب، لقد استحييت أن أخبرهم أننا نقصد بيتاً بعينه.

ويحدثني السيد (م . م) من أبناء الحي المغتربين فيقول: لقد اتصلت بخالتي لأطيِّب خاطرها وأواسيها بعدما عاثوا في بيتهم إفسادًا وتخريبًا، فقلت لها: لا تحزنوا يا خالة، فالأمر إلى خير ويعوضكم الله خيرًا إن شاء الله، فإذا بها تنهرني وتقول: من قال: إننا جزعنا؟ والله! إنه لشرف لنا أنه أصابنا ما أصاب الناس جميعًا، لم نعد نشعر بالخجل من جيراننا وأقاربنا المنكوبين بعد اليوم، والحمد لله على كل حال.

ويروي لنا الشاب (ط . ن) قصة حصلت معه فيقول: كنت أسير في إحدى المظاهرات وكان إلى جانبي رجل مسن فقلت له: يا عم! قد نتعرض لإطلاق النار وأنت رجل مسن لا تستطيع الركض. فنظر إليَّ بغضب وقال: من قال: إنني أريد الهرب؟ الحمد لله أن مد في عمري لأشهد هذه الثورة وأسأله -سبحانه- أن يرزقني الشهادة في سبيله.

وأما قصص الأمهات اللاتي يدفعن بأبنائهن للنزول للتظاهر مع توصيتهم بتقوى الله وإخلاص النية له -سبحانه- فكثيرة جدًا لا يكاد يخلو منها بيت، ولله الحمد.

هذه القصص غيض من فيض، ولعل الله -سبحانه- ييسر في قادمات الأيام جمعها في سفر لتعطي صورة متكاملة عن حقيقة هذا التحول الرباني المعجز.

إن الثورة على الرغم من آلامها وعذاباتها إلا أن الناس في بابا عمرو وغيرها من أحياء ومدن سورية يرونها نعمة من الله عليهم، قربتهم من ربهم وتكفِّر كثيراً من الذنوب، وأحيت فيهم الإنسان الحر الكريم، وقتلت فيهم الخوف والجبن والاستخزاء؛ فلله الحمد من قبل ومن بعد.