بوركتِ يا غوطة دمشق،
بوركتَ يا ريف دمشق
مجاهد مأمون ديرانية
15-1-2012
هذه كلمة تأخرتُ في كتابتها كثيراً، فقد كان ينبغي أن أكتبها على رأس عشرة أيام من أيام الثورة المباركة، ولم أفعل، ثم وجبَت كتابتُها في كل يوم منذ ذلك اليوم، ولكن الأيام مرّت ولم أكتبها، ربما لأنني خشيت أن أظهر فيها متحيزاً إلى أهلي الأقربين، أو أن يُفلت مني القلمُ فأملأ الصحائف بالمديح والإطراء.
لا ريب أن كل سوري حرّ شريف من أدنى سوريا إلى أقصاها هو الأخ القريب والصديق الحبيب، لكنّ القرابات درجات والصداقات طبقات. لقد قرّبت هذه الثورةُ المباركة إلى قلبي الأهلَ الكرام في حوران بجميع مدنها وقراها، وفي اللاذقية وجاراتها وإدلب وأخواتها، وفي حمص وحماة وحلب وأريافها، والحسكة والرقة من القامشلي إلى الطبقة، والجزيرة من الدير إلى البوكمال، لكنْ يبقى الهوى والذكريات في دمشق وغوطتها وريفها… ومَن ذا يُلام في هواه وذكريات طفولته وصباه؟
لئن كان جدي الأعلى ميدانياً فإن الجدة ديرانية، فالأصل بين داريّا والميدان، ولئن سكن جدي القريب في المهاجرين فقد سكن أخوه في دوما، فالماضي القريب بين دوما ودمشق، ولئن أمضيت أكثر أيام صباي الجميلة في دمشق فقد أمضيت بعضاً من أقدمها وأحبّها إلى قلبي في مضايا… فبين هاتيك الربوع تتناثر صور الذكريات القديمة التي حملتُها من مواضي الأيام، وفيها تجتمع صور المكرمات والأمجاد الجديدة التي تحفل بها هذه الأيام.
لقد ركبَت هذه البقاع العظيمة الكريمة قطارَ الثورة في جمعة الثورة الثانية، “جمعة العزّة” في الخامس والعشرين من آذار، ثم لم تترجل منه في أي يوم منذ ذلك اليوم. في ذلك اليوم انضمّت إلى الثورة داريا والمعضمية ودوما وسقبا وكفربطنا والتل والكسوة ومضايا والزبداني، وفي ذلك اليوم قدمت الزبداني شهيداً وقدمت معضمية الشام ثلاثة شهداء، فكانوا أول شهداء دمشق وكانوا رأسَ قافلة طويلة من الشهداء ما يزالون يرتقون منها إلى المعالي منذ ذلك اليوم.
* * *
لقد كانت الغوطة -مُذ كانت- مسرحاً من مسارح الجمال ومطرحاً من مطارح الجلال، وكذلك عرفتُها منذ عرفتها، فإذا هي اليوم منبع من منابع الرجال ومصنع من مصانع الأبطال.
كم مرةً ضرب النظامُ المجرم دوما وأخواتها الشقيقات في غوطة دمشق، حرستا وسقبا وزملكا وكفربطنا وعربين وحمورية وجسرين، ثم لا هي تلين ولا هي تستكين، ولكنها أبداً بركان متفجر بنيران الثورة والغضب؟ كم مرةً ضرب الكسوةَ والتل والزبداني ومضايا والهامة وقدسيا؟ كم سقط فيها من الشهداء وكم اعتُقل فيها من الأبرياء، فهل زادتها الضربات إلا إقداماً وهل زادتها إلا عزيمة وإصراراً؟
كم مرةً ضُربت الضمير وقارة وكناكر وقطنا وعرطوز، ثم ما تزال تتوالد فيها أجيال للثورة من وراء أجيال؟ وداريا والمعضمية، أما شنّ عليهما نظام الاحتلال الحملةَ بعد الحملة من التنكيل والاعتقال حتى كاد لا يبقى فيهما رجال، فثَمّ خرجت الحرائرُ من الخدور وفارقن الدور إلى ساحات النّزال والسّجال، فكُنّ في الخلقة نساء وفي عجائب الأفعال أخوات الرجال؟
لقد أريتم الدنيا -يا أبطال غوطة دمشق ويا أبطال ريف دمشق- معنى البطولة والرجولة، وأظهرتم من الثبات والبسالة والنجدة وصدق البأس ما أذهل أرباب الشكيمة والإقدام.
بوركتِ يا أيتها الغوطة الأبيّة الكَمِيّة، بوركتَ يا ريف دمشق الأشمّ الأكرم. هنيئاً للثورة بكما، وما أسعدَ دمشقَ وما أعظم حظها إذ تحيط بها هذه البقاع الماجدات كما تحيط عقود اللآلئ برقاب الحسان الفاتنات. هذه البقاع الحافّات بدمشق هي اليوم حلقة العز والإباء والسّناء، وهي في الغد القريب حلقة الموت والفناء والجزاء، فإنها هي التي ستلتفّ على عنق النظام حتى تُزهق روحَه الخبيثة -بإذن الله- في يوم آتٍ من الأيام.