اطرقوا بابَ السماء

مجاهد مأمون ديرانية
25/12/2011

من المَشاهد المبكرة التي أدهشتني في هذه الثورة المباركة صورُ شهداء الثورة وهم يجودون بأنفسهم ويلفظون آخر أنفاسهم، وحولَهم إخوانُهم يلحّون عليهم لتكون كلمات الشهادة هي آخر ما يودّعون به الحياة. بعد ذلك صارت الجوامع هي قلاع الثورة، وصارت الشعارات الربّانية جزءاً لا يتجزأ من سمفونيتها، ثم صرنا نرى الناس حشوداً محتشدة في صفوف متراصة تؤدي الصلوات جماعات في ساحات الحرية في درعا وحمص وحماة وإدلب وغيرها… ولكننا رأينا أيضاً إلى جانب أولئك المصلين من وقف موقف المتفرج، ورأينا في بعض أفلام الثورة ثواراً استقبلوا مراسلة أجنبية في يوم من أيام رمضان وهم يشربون القهوة والشاي ويأكلون ويدخنون.

لم يدهشني أولئك الذين وقفوا بغير صلاة أو الذين جاهروا بالفطر في نهار رمضان، الآخرون هم الذين أدهشوني؛ من أين جاؤوا؟ ألم يلبث حزب البعث أولاً ثم عصابة الأسد ثانياً، ألم يلبثوا نصف قرن من الزمن وهم يحاربون الله ويجهدون لتقويض تديّن الناس ولصرف شعب سوريا المسلم عن الإسلام؟

ولكن لا، ليس للدهشة في مثل هذا المقام مكان. ما كان لعصابة طارئة على التاريخ أن تمسح تاريخ ألف عام ونصف ألف عام، ولا ينبغي لجماعة من مهازيل البشر أن يهزم مكرُها وعدَ الله ووعد رسول الله. لقد اصطفى الله مَن يحب من عباده لعمارة الشام التي يحب، كما قال نبينا وحبيبنا محمد عليه صلوات الله: “الشام صفوة الله عز وجل من بلاده وإليه يَحشر صفوتَه من عباده”.

الحمد لله الذي أبطل كيد الكائدين وردّ الأمة إلى الدين. إن قلبي ليفرح ويطمئن حين أرى الإيمان في وجوه الرجال إذا نظرت إلى وجوه الرجال، وحين أسمعه في الكلام الذي ينطقه ثوار الشام وأقرؤه في السطور التي يكتبون؛ اللهم لك الحمد. ويا أيها المؤمنون المجاهدون المرابطون في ساحات البطولات والمَكرمات في أرض الشام: لقد عدتم إلى الله فرفعكم الله على عدوه وعدوكم، فإنّ جند الله هم الأعلَون، وإنه ناصركم عما قريب بإذنه تعالى، فإن جنده هم المنصورون، فاعتصموا بالله وتوكلوا عليه، وضعوا فيه الأمل وأخلصوا له العمل، فإنه لا مُعينَ لكم سواه ولا ناصرَ إلاّه.

أما رأيتم كيف تخلى عنكم الآخرون وتباطؤوا عن نصرتكم؟ لقد خذلكم المجتمع الدولي فترككم لمصيركم، ولعله تمنى في سرّه أن لا يمر شهر إلا والنظام منتصر عليكم، لكن الله ربط على قلوبكم وثَبّت أقدامكم فصبرتم الشهرَ بعد الشهر حتى اضطَرَرتم أولئك القومَ إلى تغيير مواقفهم، وحتى انقلبوا على عدوكم من بعد ما ساعدوه، وهاجموه من بعد ما ساندوه، فإن يكونوا غيّروا موقفهم بأَخَرة فما صنعوا ذلك حباً بكم فإنهم لا يحبون، ولا شفقةً عليكم فإنهم لا يشفقون، وإنما هو تدبير الله لهذه الثورة المباركة، إنه قَدَر الله وأمر الله وفضل الله علينا، فله الحمد أولاً وله الحمد آخِراً.

ربما جاء الفرج على يد مراقبي جامعة العرب وربما سقط النظام بسبب تدخل خارجي، ولكن لا تظنوا أن هؤلاء أو أولئك هم مَن نصركم، فإنما هم أدواتٌ حرّكها الله وأسبابٌ سَبّبها ليدفع بها غيرَها من الأسباب، فإن الواحد فينا يمرض فيراجع الطبيب ويتناول الدواء، ويعلم أن الطبيب أداة تعالج بأمر الله وأن الشافي هو الله. ويحتاج الموظف فيراجع المدير ويطلب سلفة أو علاوة، ويعلم أن المدير أداة تنفق بأمر الله وأن الرازق هو الله. والشعب السوري يطالب العرب ويطالب تركيا ويطالب الغرب بالانتصار له الدفاع عنه، ولكنه يعلم أن قوى الأرض كلها أدوات تتحرك بأمر الله وأن الناصر هو الله.

* * *

يا أيها المؤمنون: لقد عرفتم الوجهة فلا تضلّوا السبيل بعد اليوم. إنكم تدركون الآن أن النظام البائد لم يترك في سوريا خيراً إلا وقَلَبه شراً، فأراد أن يستبدل بحرّية الناس عبودية، وبعزتهم ذلة، وبغناهم فقراً، وبفضائلهم رذائل، وبهداهم ضلالاً، وبقربهم من الله بعداً عنه وجهلاً به… فإن أردتم أن تغلبوه فانقضوا خطته جملة، استرجعوا حريتكم التي سلب، واستعيدوا مالكم الذي نهب، وأحيوا من عِزّكم ما ذهب، وتمسكوا بالفضائل ومكارم الأخلاق، وعودوا إلى الله، فليس شيءٌ يغيظ النظام أكثرَ من عودتكم إلى الله.

يا أيها المؤمنون: إن استبطأتم النصر فاستجلبوه بالتوبة والاستغفار، واستعجلوه بالابتهال والدعاء. لقد كان السلف الصالح من هذه الأمة إذا حُبس عنهم قَطْر السماء لجؤوا إلى التوبة والاستغفار، التوبة الحقيقية التي يندم المرء فيها على ما اقترف من ذنب وينقطع عنه ويعزم العزيمةَ الصادقة على أنه لا يعود إليه، ثم يجتمعون في صعيد واحد فيصلّون صلاة الاستسقاء ويَدْعون بأخلص الدعاء، فلا ينصرفون من موقفهم حتى تجود عليهم بالبركات السماء ولا يعودون إلا خائضين في الماء.

إن الله الذي أجرى السحاب هو الله الذي هزم الأحزاب، وكما يأتي الدعاء بالقَطْر من السماء فكذلك يأتي بالنصر على الأعداء؛ فاجعلوا هذا الأسبوع أسبوع الدعاء، واجعلوا جمعتكم الآتية جمعةً تطرقون فيها باب السماء. دعوا عنكم في هذه الجمعة كل هتاف وكل نشيد إلا هتافاً ونشيداً تدعون به الله وتستعينون فيه بالله، اطرقوا الباب وألحّوا بالطرق، فلعلكم توافقون ساعة إجابة، ثم اصنعوا ذلك في الأسابيع الآتيات، فإني لأرجو أن يتنزّل النصر قريباً إن ألححتم بالدعاء وثابرتم على الطاعات وتمسكتم بالتوبة والاستغفار، فإنه ما طُرق باب السماء بمثل هذا الصدق وبكل ذلك الإلحاح إلاّ أوشك أن يُفتَح للطارقين بابُ السماء.