حكم المكرَه على إطلاق النار على المتظاهرين
عبدالرحمن الجميلي
السؤال: يقول بعض الجنود السوريين: تأتينا الأوامر من قادة الجيش أو الفروع الأمنية بإطلاق النار على المتظاهرين، أو على الفارِّين من الجيش خشية المشاركة في ظلم الشعب وقتله، ونُهدَّد بالقتل وسفك الدم إن لم نفعل، وقد حدث هذا أمام أعينا، والسؤال: هل يباح لنا قتل الناس المتظاهرين حمايةً لأنفسنا من القتل؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ورضي الله تبارك وتعالى عن الصحابة والتابعين، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فإنَّ الله تبارك وتعالى حذَّر من قتل النفس المؤمنة أيّما تحذير، وهدد القاتل بالعذاب الشديد، والوعيد الأكيد، قال جل وعلا:" وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا". سورة النساء:93.
كيف لا يكون كذلك، وقد قرن الله سبحانه قتل النفس المعصومة بأكبر الذنوب، وهو الشرك بالله،قال الله تعالى:" وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ...".الفرقان : 68. وقال الله-جل وعلا- أيضاً " قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ". الأنعام: 151.
وقد جاءت النصوص الحديثية تحذر من القتل وإزهاق الأرواح، حتى اعتبر الرسول عليه الصلاة والسلام أن المسلم لا يزال بخير-ولو أذنب- ما لم يقع في جريمة القتل؛ وذلك لصعوبة أمره، ففي صحيح البخاري وغيره من حديث ابن عمر-رضي الله عنهما- قال:قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصِبْ دماً حراماً". بل قتلُ الرجل المسلم عظيمٌ عند الله تعالى؛ فهو أعظم من زوال الدنيا، فعن عبدالله بن عمرو-رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:"لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم". رواه الترمذي وغيره بإسناد صحيح.
ولا شك أن هذه النصوص كافية في ردع الإنسان عن التفكير في قتل نفس معصومة، فكيف الشروع في القتل وسفك الدماء، وهي صريحة في تحريمه واعتباره من كبائر الذنوب، أما السؤال الذي يدور بين الجنود في سورية فالجواب عنه من وجوه:
الوجه الأول: أن الذين يأمرون بالقتل وسفك الدماء من الحكومة السورية وأجهزتها الأمنية والعسكرية ليسوا حكاماً شرعيين في البلاد، وهم مع ذلك معادون لله ورسوله في أعمالهم وأقوالهم ومواقفهم، وقد ثبت كفرهم بالله ورسوله قولاً وعملاً، فمن سبٍّ للذات الإلهية، وأمر للجنود والأفراد بالسجود لقادتهم السياسيين، ومن استهزاء وسخرية بالمقدسات الإسلامية، فكيف بعد ذلك يسمع المسلم قولهم، ويستجيب لدعوتهم في سفك دماء الشعب المسلم؟ وكان عليه أن يقف في وجههم، ويردّهم عن غيِّهم، ويقلِّل من سوادهم.
الوجه الثاني: أن الفقهاء مجمعون على أن الشخص إذا أُكره من قبل حاكم أو ظالم أو غيره على قتل نفس معصومة، فإنه لا يحل له ولا يرخَّص له أن يستجيب له، ولو هدَّده بالقتل. وهذا قول جماهير علماء الأمة الإسلامية من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم. قال الإمام ابن العربي:"ولا خلاف بين الأمة أنه إذا أُكره على القتل أنه لا يحل له أن يفدي نفسه بقتل غيره، ويلزمه الصبر على البلاء الذي نزل به".
وذلك لأن هذه المسألة تخرج من باب الإكراه، فالقاعدة الفقهية تقول:"الضرر لا يزال بمثله". فإزالة الضرر لا يجوز أن تكون بإحداث ضرر مثله؛ لأن هذا ليس إزالة؛ ولهذا فلا يصح لشخص أُكره على القتل أن يدفع عن نفسه القتل بقتل نفس معصومة. ولهذا فالنصيحة لكل جندي مسلم في النظام السوري أن يحرص كلَّ الحرص ألا يؤذي أحداً من أبناء شعبه المظلومين والمقهورين، بل عليه أن يعمل على حماية الشعب والحفاظ على أموالهم ودمائهم وأرواحهم وأعراضهم، وليتذكر دائماً قوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق على صحته: " المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة ".
الوجه الثالث: بعد أن عرفنا أنه لا يجوز لأحد أن ينجِّي نفسه من القتل بقتل غيره إذا ما أُكره على ذلك بإجماع علماء الإسلام، فإنه قد يرد هذا التساؤل: هل القصاص ينزل على المكرِه والمكرَه؟
ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم من علماء المسلمين أنَّ المكرِه والمكرَه على قتل النفس المعصومة كليهما يستوجبان حكم القصاص، ما داما مكلَّفين؛ وذلك لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما قاتل من وجه، وقد مثَّل الشيخ محمد المختار الشنقيطي للآمر والمأمور بشخص أمسك حية فأنهشها للغير فقتلته: فالقاتل المباشر هو الحية(وهو يمثِّل المكرَه)، ولكن الذي قرَّب الحية وأوصلها كان سبباً حقيقياً ومؤثراً في إزهاق الروح؛ فلولا الله ثم هذا الإكراه والضغط والتهديد من الآمر لما حصل القتل...وعلى هذا فالقصاص نازل بالاثنين: الآمر والمأمور. والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.