بسم الله الرحمن الرحيم
مفهوم "الدولة" بين "الدولة الإسلامية" و"الدولة المدنية"
الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله ,,, وبعــد :-

مقدمـة :
تثور الشعوب المسلمة على الظلم والطغيان, فترتبط في ثوراتها بدينها وإسلامها وقيمها ومبادئها, ترتبط بصلاة الجمعة وخطبة الجمعة ويوم الجمعة الذي هو عيد المسلمين الأسبوعي, ترتبط في شعاراتها بالتكبير " الله أكبر" والتهليل " لا إله إلا الله ", ترتبط بالوضوء والصلاة, ترتبط في أهدافها بتحقيق العدل ومنع الظلم وإزالة الطغاة والكفر بالطاغوت, ترتبط بخاتمةٍ حسنةٍ " الشهادة في سبيل الله " فثورتهم مرتبطةٌ بمعانٍ دينيةٍ جليلةٍ ومبادئ إسلاميةٍ عظيمةٍ, وعندها يُسقط في أيدي أعداء الإسلام منْ اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين حيث يبلُغ بهم العجز مبلغاً فلا يستطيعوا أنْ يقمعوا هذه الثورات, ولا يقدروا أنْ يسحقوا هذا "التمرد الشعبي العظيم", فيلجئون إلى الدسِّ بالكيد والمكر الكُبَّار, وذلك بالتدسس من خلال فئات مشبوهة هم من القلة بمكان, بيد أنَّ لهم من المكر والكيد ما يستطيعوا أنْ يصلوا به إلى طائفةٍ من مراداتهم, ومن وسائل مكرهم وأساليب كيدهم خلط المفاهيم, وتزوير المصطلحات, وإنَّ من أعظم البلاء, وفادح الرزية اختلاط وتداخل المفاهيم الإسلامية الجليلة بالمفاهيم الكافرة والمنحرفة عن ديننا الإسلامي الحنيف, حيث أنَّه في غمرة البحث عن التخلص من رقِّ الطواغيت الجاثمة على صدر الأمة الإسلامية نجد بعض إخواننا من المسلمين لا يبالون بمن يأتي بَعْدُ, أيحكم بالشريعة أمْ يحكم بنظامٍ طاغوتيٍ آخـر, حيث كان المهم عندهم حينها إزالة الطاغوت الجاثم على صدور المسلمين الآن, ولذلك كان من الشعارات التي يُنادى بها أثناء الثورات: الشعب يريد إسقاط النظام .. وهذا مطلبٌ حق, ولكننا لم نسمع أبداً : الشعب يريد شريعة الرحمن, أو الحكم بالقرآن ونحوها.
بل الأدهى والأمرّ أنَّا سمعنا من ينادي بـ : الشعب يريد دولة مدنية؛وهذه طامةٌ كبرى, ومصيبةٌ عظمى, فالدعاة والمصلحون أفنوا أعمارهم ليعبدوا الناس لربهم,ولكن مازالت فلولٌ من المتخاذلين والمنهزمين أمام الحضارة المادية الغربية تنادي بكلام بائس لا يدركون معناه ولا يسبرون غور أبعاده, ولو فقهوه لعلموا أنَّهم قد يخرجون به عن ملة الإسلام - والعياذ بالله - , فهذا المصطلح "الدولة المدنية" والذي راج على جمهورٍ عريضٍ من الثائرين والمتظاهرين, فتلقفوه إليه داعين وبه مطالبين, غير أنَّ الكثير والكثير منهم لم يعلموا كنه حقيقة هذا المصطلح, بل ارتبط في أذهانهم بمعاني الرقي الحضاري والسمو الأخلاقي المحقق للعدالة والنابذ للظلم والاستبداد والطغيان, بينما حقيقة الأمر على خلاف ذلك فمصطلح "الدولة المدنية" مصطلحٌ غربيٌ, نشأ إثر صراعٍ مريرٍ بين الكنيسة والمجتمع في أوربا في حقبة عصور الظلام, فهو مصطلحٌ وافد يحمل في طياته مضادةً كبرى لعقيدة الإسلام, وشريعة الإسلام, حيث أنَّ الدولة المدنية الحديثة تنكر حق الله في التشريع، وتجعله حقاً مختصاً بالناس والشعوب، و هذا النوع من نظام الحكم يُسمّى في الإسلام حكم الطاغوت, وكما هو معلوم أنَّ كل حكم سوى حكم الله هو حكم الطاغوت.. وانطلاقاً من واجب النصح للأمة, والصدع بالحق لكل الخلق سأتحدث عن مفهوم "الدولة" بين "الدولة الإسلامية" و"الدولة المدنية" :

"الدولةالإسلامية":
تتميز التصورات الكلية في الإسلام بكمالها وشمولها واستغنائها عن سواها من النظم الأخرى, والإسلام نظامٌ لا يقبل الشركة, وخلط أيِّ نظام في الإسلام مع نظام آخر من غيره هو إخراج له عن حقيقته الإسلامية, إذْ حقيقة الإسلام = استسلامٌ وخضوع وإخلاص لله وحده لا شريك له.
ومن ذلك النظام السياسي الذي تشترط فيه الشريعة الإسلامية أنْ يقوم على أسسٍ محددة، منها قوله تعالى:{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}. ومنها قوله تعالى واصفا للمؤمنين: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}. وقوله:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ}. وقوله تعالى :{ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }. وقوله تعالى:{ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ }. وبيان ذلك = أنَّ الله عز وجل بعث للبشرية رسلاً ليأخذوا بأيدي الناس للاستسلام التام لشريعة ربهم, وسياسة الناس بسياسة الدين, قال تعالى:{ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَأَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ }، وقال تعالى:{ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا}, وأمر الله عز وجل بإرجاع كل كبيرة وصغيرة لحكمه سبحانه واتباع شريعته عز وجل قال تعالى :{ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ }, وقال تعالى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ }, وعنْ أبى حازم قال قاعدتُ أبا هريرة خمس سنين فسمعتهُ يُحَدِّثُ عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال « كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأنبياء كلما هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ وَإِنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِى وَسَتَكُونُ خُلَفَاءُ فَتَكْثُرُ ». قَالُوا فَمَا تَأْمُرُنَا قَالَ « فُوا بِبَيْعَةِ الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ وَأَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ ». متفقٌ عليه. ومن أحكام هذه الشريعة التي أُمرنا بإتباعها, ونهينا عن متابعة ما يُضادها من الأهواء = ما يتعلق بشئون الدولة ونظام الحكم " النظام السياسي"، وغيرها من النظم كالنظام الاقتصادي والقضائي ونظام الجهاد والحرب والسلم, فهذه النظم أحكامها مستمدة مِن نصوص شرعية يلزم تطبيقها وتنفيذها، ولا تتم إلا بسلطانٍ ودولةٍ تقود المجتمعات والشعوب وفق شريعة الله تبارك وتعالى، قائمةٍ على تحقيق العدل الشامل ومنع الفساد والإفساد في الأرض؛ ولذا قال عثمان رضي الله عنه : " إنَّ الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ".
ومما لا شك فيه أنَّكل تشريع يستمد كماله مِن كمال مُشرِّعه, ولما كان الله سبحانه وتعالى له الكمال المطلق في ذاته، وأسمائه, وصفاته، وأفعاله, وتشريعاته؛ فقد سلمت التشريعات الإلهية من كل خطأ، ولم ينشأ عن تطبيقها أي قصورٍ أو خلل، ولم تتحمل البشرية بتطبيقها للتشريعات الإلهية أي تبعاتٍ أو مشاقة؛ وذلك إنَّما يرجع إلى ربانية هذه التشريعات، وأنَّه سبحانه الخبير بأحوال خلقه وما يصلحهم, كما قال الله تعالى : { أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }. والمشرع يجب أنْ يكون عليمًا خبيرًا،لطيفًا رحيمًا، قادرًا مقتدرًا، ولما كانت هذه الصفات منتفية عن أيِّ أحدٍ مِن خلقه سبحانه؛ كان التشريع حقًا خالصًا له تبارك وتعالى.
ومما يُستدل به على نقص قدرة البشر على التشريع:
1-كونه مخلوقٌ عاجزٌ، فإذا كان لا يملك لنفسه قدرةً على الإيجاد والخلق؛ فكيف تُتصور له قدرةٌ على تشريع ما يصلحه ويصلح غيره, قال تعالى:{ أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السماء والأرض أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُم ْصَادِقِينَ } .
2- ما اتفق عليه أصحاب العقول والفطر السليمة أنّ َالإنسان محدود العلم ضعيف الإرادة، تغلب عليه ظروفه المحيطة به فتتحكم في إرادته،وتؤثر في اتخاذه حكمه وقراره؛ لذا لم تسلم التشريعات البشرية على مر العصور من الأهواء والأخطاء، ولا أدلَّ على ذلك من أنَّ التشريعات البشرية تتغير من آنٍ لآخر لما يكتشفه الإنسان عند التطبيق من الأخطاء التي تشقى بها البشرية دهورًا طويلة، ولا يفطن إليها إلا بعد أنْ تشقيهم وتضيق عليهم. والله سبحانه وتعالى شرع للناس هذه الشرائع رحمةً ورأفةً بهم، ووقاهم شرور التجارب الفاشلة؛ فأنزل إليهم منهجه القويم ليستقيموا عليه في الدنيا، وما ترك الإسلام شيئًا إلا وبيَّنه بيانًا شافيًا في القرآن الكريم والسنة المطهرة، قال تعالى :{ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ }, وقال تعالى:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا}.
3-مقتضى التسليم لدين الله عز وجل الذي ارتضاه للعالمين يفرض عليهم توحيد الله والانقياد لشرعه، والاستسلام لحكمه، والخضوع لأمره ونهيه، والإخلاص له عز وجل فيذلك كله, قال تعالى:{ إِنَّ الدِّيـنَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ },
لذلك - وغيره كثير - كان مَن نصب نفسه لسن القوانين، وتشريع الدساتير المخالفة لشرع الله طاغوتًا متجاوزًا حده في أمر الله وطاعته؛ لأنه نازعالله في حقٍ من حقوقه سبحانه وتعالى، وصار المتحاكمون إلى غير شرع الله عز وجل إنَّما يتحاكمون إلى الطاغوت؛ لأنَّهم استبدلوا بشرع الله الصالح لهم والضامن لسعادتهم في الدارين شرع العجزة والضّعَفة والجهلة, قال تعالى:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يزعمون أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِن ْقَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا }, وهذا إنكارٌ من الله سبحانه وتعالى على مَن يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسولـه صلى الله عليه وسلم وعلى الأنبياء الأولين، وهو مع ذلك يريد أنْ يتحاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, قال تعالى :{ فَلا وَرَبِّكَ لايُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا },يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية : ( يقسِم الله بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكِّم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم بهفهو الحق الذي يجب الانقياد له ظاهرًا وباطنًا؛ ولهذا قال:{ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، أي : إذاحكموك يطيعونك في بواطنهم؛ فلا يجدون في أنفسهم حرجًا مما قضيت به وينقادون له في الظاهر والباطن، فيسلموا لذلك تسليمًا كليًا، من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة ).
إنَّنا عندما نتكلم عن الدولة في الإسلام، والدولة في المدنية الحديثة فإنَّما نتكلم عن نظامين مختلفين تمامًا، أولهما: استسلامٌ وانقيادٌ لله الملك العلى الكبير,والثاني: نظامٌ بشريٌ وضعه الباحثون عن استرقاق الشعوب ونهب ثرواتهم, وكلا النظامين وُجد في الواقع, وطُبق في الحياة العملية للشعوب، فليس الحديث هنا حديثًا نظريًا لاحقيقة له في الواقع، فالنظام الإسلامي الرباني قد سبق للبشرية أنْ عاشت فيكنفه سنينًا طويلة بعدله وأمنه واستقراره بما لم تحظ بمثله في ظل أي من النظم الوضعية الحديثة رغم جحود المخالفين من معتنقي المادية العلمانية. خصائص وميِّزات الدولة الإسلامية :
أولها /حاكميّة الشريعة :
الدولة الإسلامية دولةٌ تستمد نظامها وأحكامها من الدين الإسلامي, فأحكام الشريعة الإسلامية تتناول عقائد الأمة, وعباداتها, ومعاملاتها، وقيمها, وأخلاقها،وقضائها، وأحوالها الاجتماعية والأسرية.. الخ, وجحود هذه الأحكام المتعلقة بالفرد أو الأمة أو جحود بعضها يُعد خروجًا عن الإسلام كله. فأهم المبادئ المميزة للدولة الإسلامية : أنَّ السيادة العليا والتشريع المطلق خاضعٌ لسيادة الله وسلطانه, فشريعة الإسلام شريعةٌ شاملة لكل احتياجات حياة البشر، عقيدةً, وعبادةً,وأخلاقًا, ومعاملات, وحكماً، تنظم كافة العلاقات بين الناس، وهذه المعاني مفقودة تمامًا في النظم الوضعية التي ترفض العبودية لله لتجعل الإنسان يعبد هواه, قال تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ}.فأين الإسلام مِن هذا الطغيان والهوى ؟!.

ثانيها / أهداف الدولة الإسلامية هي أهداف الإسلام ذاته، قال الله تعالى:{ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ }, ويكون ذلك بحفظ الدين = ببثه ونشره, وإشاعته في الناس, وتجذيره في قلوب المؤمنين, وترسيخه في حياة المسلمين, وذلك بالدعوة إلى الله عز وجل,ونشر الدعوة الإسلامية إلى العالـم أجمـع, وتعليم الناس الخير, والأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, ونشر الفقه في الدين, وتوطيد المعاني الإيمانية والمبادئ الإسلامية في حياة الناس..

ثالثها / اختيار الحاكم : الأمة تختار حاكمها بإرادتها وبواسطة العدول من أهل الحل والعقد من العلماء والقادة ذوي الصلاح والخبرة في أمور الحكم والقيادة. والحاكم فيها هو وكيلٌ عن الأمة ينفذ فيهم شرع الله الثابت الذي لا يتغير ولايتبدل، وفق مقتضى قواعد الشريعة وأحكامها الصالحة لكل زمانٍ ومكان، فهي نيابةٌ لا تبيح لحاكمٍ أو برلمان أو غيرهما أنْ يضع قانوناً أو يشرع تشريعًا مخالفاً لما ورد فيه نصٌ أو إجماعٌ في شرع الله, قال تعالى:{ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ }، وقال تعالى:{ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.كما أنَّ للأمة الحق في عزل الحاكم إذا تبين خروجه عن القيام بواجب الإمامة, وتحقيق مقاصد الولاية, بشروطٍ وضوابط محكمة لا نظير لها في أيِّ نظامٍ أرضيٍ مهما بلغ.
رابعها / محاسبة الحاكم ومراقبة أدائه : الدولة في الإسلام دولةٌ يأمن فيها الخائف, ويُنتصف فيها للمظلوم, ويُقام فيها العدل. ولذا تُوجب على الشعب محاسبة الحاكم ومراقبة أدائه، وتعد ذلك من النصيحة الواجبة على المسلم لحاكمه, فعن تميمٍ الدَّاريِّ أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم- قال « الدِّينُ النَّصِيحَةُ » قُلْنَا لِمَنْ قَالَ « لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ » خرَّجه مسلم. فالدولة الإسلامية تقرُّ حق الأمة في مراقبة ومحاسبة السلطة الحاكمة.
خامسها / عالمية الدولة الإسلامية : الدولة الإسلامية دولةٌ عالميةٌ ترفض التعصب للقوميات العِرْقِية, والوطنيات الأرضية, فهي دولةٌ عالمية وليست دولةً إقليميةً ولا عنصريةً ولا قوميةً محدودةً بحدود المكان أو القوم أو الجنس أو العنصر، ولا مكان فيها لامتيازات تقوم على أساس من هذه الأسس، وبإمكان أي إنسان أنْ يعتنق الإسلام وله كامل حقوق المسلمين كما أنَّ عليه ما عليهم من الواجبات. أما مَن لا يعتنق عقيدة الإسلام وهو في حدود دولة الإسلام فإنَّه لا يُكره على ترك دينه, وله أنْ يعيش ويقيم فيها في ظل نظامها مادام يخضع لأحكام الإسلام.

" الدولة المدنية ":
إنَّ كثيراً من الناس يظن أنَّه بتطبيق "الدولة المدنية" ستُحل كل أزمات المسلمين في العصر الحاضر من الاستبداد السياسي إلى التخلف التقني، إلى الفقر والبطالة وتدني الخدمات، وأنَّ كل ذلك سيزول بمجرد أنْ نتحول إلى دول مدنية, وهذا من الظنِّ الخاطئ, والوهم المجافي للحقيقة, وبيان ذلــك :

نبذة تاريخية :
إنَّ أيَّ دارسٍ للتاريخ الأوربي الحديث يعرف بيسرٍ دلالات هذه المصطلحات ( الدولة الدينية ), (الدولة المدنية), ( الدولة الثيوقراطية ), ( الدولة الديمقراطية ), وكيفية نشوئها, وتاريخ قيامها.
فلقد تسلطت الكنيسة على قلوب الناس وعقولهم، وعاملتهم وكأنَّما هي الإله أو الرب، فتُدخل في الرحمة مَن يطيعها، وتطرد من الرحمة مَن يتمرد على أوامرها، فكأنَّها المتصرفة في الجنة والنار تُدخل فيهما مَن تشاء، وتُخرج منهما مَن تشاء, وذلك لمَّا كانت الكنيسة هي مركز المدينة الأوروبية والمسيطرة عليها, ولها من الهيمنة والاستبداد الطاغوتي على أمم أوربا ما لا يكاد يوصف.
وعندها ثارت أمم أوربا على الكنيسة وطغيانها لتنفكَّ من هيمنة الكنيسة, أو بالأحرى ينفكَّ المجتمع الأوروبي من الدين، وفي ظل تلك الظروف نشأت الدولة المدنية بعد أنْ حققت بمفكريها ورجالاتها النصر النهائي على (الكنيسة ورجال الدين)، وانتزعت السيادة منهم. وعلى ذلك قامت حضارة أوروبا المعاصرة، ونتج عن ذلك بروز مفهوم (المدنية) على أنه عكس مفهوم (الدينية)، ومن هذا التصور ظهرت عبارات : الدولة المدنية، والقانون المدني، والثقافة المدنية، في مقابل : الدولة الدينية، والقانون الديني، والثقافة الدينية، وهكذا انتقلت المصطلحات إلى مجتمعاتنا رغم التباين الكبير بين دين النصرانية ودين الإسلام.
إنَّ الدولة في الحضارة الأوربية الغربية يمكن وصفها بالمدنية أو الدينية، وهذا الوصف له أصوله الفلسفية، وخلفياته التاريخية الخاصة بالحضارة التي نشأت فيها تلك المصطلحات. فالدولة المدنية في التصور الغربي هي نقيض الدولة الدينية، وكلاهما يعكسان إشكالية كان يعيشها المجتمع الغربي في فترة مضت، ولا علاقة للمفهومين بالنظام السياسي في الإسلام البتة.
الدولة الدينية في الحضارة الغربية تعني تحديداً سلطة الكنيسة، وأنَّ الحاكم إنَّما يعبر عن إرادة الله عز وجل, وذلك بما يقذفه الله في قلب البابا أو الحاكم؛ وعليه فلا يحق لأحدٍ مراجعته، وعلى الشعب التسليم بما يصدر عنه من قرارات. فحقيقتها: الحكم بمقتضى التفويض الإلهي للحاكمين مما يضفي عليهم صفة العصمة والقداسة، فهي تعني حكماً بموجب الحق الإلهي, وهي بهذا تستبعد سلطة الشعب في محاسبة الحاكم ومراقبة أدائه. والدولة المدنية نقيض ذلك تماماً فهي تؤكد سلطة الشعب أو سلطة الإنسان، وترفض أي سلطة خارج ذلك بما في ذلك سلطة الدين أو الكنيسة.
ومن يصف الدولة في الإسلام بأنَّها دولة دينية (ثيوقراطية) مشبّهاً لها بالدولة الدينية التي نشأت في أوروبا يقع في الحقيقة في خطأٍ عظيم، فهو مع افتراض حسن نيته يسيء إلى مفهوم الدولة في الإسلام بعرضه على غير حقيقته وتلبيسه بسواه, فالدولة الدينية في أوروبا دولةٌ سيئة السمعة, ارتبطت في تاريخها بالاستبداد والتسلط وظلم الناس, وفيها من المثالب والعيوب والآفات ما فيها, فمصطلح (الدولة الثيوقراطية) يعني نظام حكمٍ يستند على أفكارٍ دينيةٍ مستمدةٍ من النصرانية. وهذا النظام كان له وجود في العصور الوسطى في أوروبا، بينما الدولة في الإسلام بخلاف ذلك تماماً. وليس من المنهج العلمي في شيء إسقاط هذا المعنى على الدولة الإسلامية, فالدولة الثيوقراطية التي يتحدثون عنها بالصفات التي يذكرونها لا تُعرف إلاَّ في بلاد الغرب النصراني الذين نشأ فيهم هذا المصطلح؛ حيث تسلط علماء اللاهوت على كل شيء حتى على قلوب الناس بزعم تمثيلهم للإرادة الإلهية؛ فهذه خبرةٌ نصرانية لا علاقة لها بالإسلام من قريب أو بعيد.

حقيقة الدولة المدنية :
إنَّ تحرير المصطلحات, ومراعاة مرجعياتها المعرفية ضرورةٌ يقتضيها البحث العلمي المؤصل, الرامي لإصابة عين الحقيقة أو كبد الحقيقة كما يُقال, وعليه فـ ( الدولة المدنية ) مصطلح أوربي النشأة والتكوين والتاريخ والدلالة، ولا يعنينا أمرها من قريبٍ ولا بعيد؛ لأنَّ الإسلام لم يعرف حكم طبقة (رجال الدين), كما لم يعرف يوماً (صكوك الغفران), كما لم يعرف الصراع بين الدولة المدنية والكنيسة, أو بين الدين والدولة إجمالاً؛ لأنَّ الإسلام كدين وتاريخ وحضارة يختلف عن النصرانية كدين وتاريخ وحضارة، مما يعزز لنا -بالبديهية المحضة- اختلاف المصطلحات الفكرية والسياسية والمنهجية بين كلتا المنظومتين. ومما يؤكد ذلك أنَّه بالبحث في كتب التراث الإسلامي التي تحدثت عن الأحكام السلطانية أو السياسة الشرعية لا نجد لهذا المصطلح وجوداً مع أنَّ مفرداته: «الدولة» و «المدنية» هي من مفردات لغتنا العربية، مما يتبين معه أنَّ المصطلح مستوردٌ من بيئةٍ غير بيئتنا, فلابد أنْ نعيَ معانيها كما هي في الثقافة التي أنشأتها.
فمصطلح الدولة المدنية الحديثة في مصادرها والثقافة التي أنشأتها, تعني : الدولة البعيدة عن أي تأثير ديني, كما تعني إقصاء الدين عن الحياة بعامة، أو السياسة على وجه الخصوص, وتعني المساواة بين الكافر والمسلم، والحرية المطلقة, كما أنها تنكر حق الله في التشريع، وتجعله حقاً مختصاً بالناس،ويُسمّى هذا النوع من الحكم في الإسلام حكم الطاغوت, فكل حكمٍ سوى حكم الله = طاغوت. فهي بهذا المعنى دولة علمانية مارقة.

خصائص وميزات الدولة المدنية :
إنَّ الدولة في المدنية الغربية الحديثة ترتكز على دعائم ثلاث، هي:
1-العلمانية. 2-الديمقراطية. 3-القومية أو الوطنية.
أولاً : العلمانية : سواءً كانت علمانيةً كليةً شاملةً = تعني عزل الدين عن الحياة كلها, وعدم الالتزام بأيِّ عقيدةٍ دينية, ولا تقف عند حدود شريعة أو دين, لا في السياسة ولا في الاقتصاد ولا في الأخلاق ولا غيرها من نُظم ومجالات الحياة. أو كانت علمانيةً جزئيةً = تعني فصل الدين عن السياسة.
فالدولة المدنية في الفضاء المعرفي الغربي تعني تنظيم المجتمع وحكمه بالتوافق بين أبنائه بعيداً عن أي سلطةٍ دينيةٍ أو غيرها، أيْ أنَّ شرط (العلمانية) أساسيٌ في الحكومة المدنية, فشرط الدولة المدنية الأساسي تنحية الدين عن السياسة. ومن هنا كان من أبرز مطالب العلمانيين إقامة (الدولة المدنية) أو (العلمانية) بعد إقصاء الإسلام عن الدساتير والقوانين ومجالات الدولة ومؤسساتها.
فكلمة "العلمانية" والتي تعني العَالَم أو الدنيا هي كلمةٌ في مقابل الكنيسة، حيث إنَّ نشوء فكرة العلمانية كان للخروج عن سلطان الكنيسة وقساوستها المتجبرين, وكان مننتيجته أيضاً أنْ حصرت العلمانية سلطان الكنيسة داخل جدرانها، وأطلقت العنان للعقول البشرية لتضع أنظمة الحياة المختلفة وفق ما تراه مناسباً لها، ودون التفات إلى موافقة أو مخالفة هذه الأنظمة للدين.

ثانياً : الديمقراطية: الديمقراطية والعلمانية وجهان لعملةٍ واحدة : فالديمقراطية : هي حكم الشعب, وسيادة الخلق, حيث السيادة العليا, والتشريع المطلق للمجالس التشريعية, ومن فيها من نوابٍ عن الشعب, فهي منابذةٌ صريحةٌ لحكم الله, ومنازعةٌ لسيادة الله وسلطانه. فحقيقة الديمقراطية = دينٌ كفريٌّ مبتدع, يحوي بين طياته أنماطاً من الكفر والشرك والردة, كالتشريع ووضع القوانين وسن الدساتير الوضعية الوضيعة, والتحاكم إلى الطاغوت, والحكم بغير ما أنزل الله من القوانين الوضعية والدساتير البشرية في الدماء والأموال والفروج, وتعطيل الشريعة عن أنْ تكون حاكمةً بين المسلمين في دمائهم وأموالهم وفروجهم, والكراهية المطلقة لإقامة الدين في حياة الناس جميعها, وغير ذلك من نواقض الإسلام. فالديمقراطية دينٌ آخـر سوى الإسلام مباينٌ كل المباينة للإسلام, فهي كفرٌ بالله العظيم, وشركٌ بربِّ السماوات والأرضيين, ومناقضةٌ لملِّةِ التوحيد ودين المرسلين.
وليست الديمقراطية من الشورى الإسلامية في شيء, فالشورى الإسلامية أمَرنا الله تعالى بها، وجعلها من أهم صفات المؤمنين، قال الله تعالى:{ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}،وقال تعالى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}, فمبدأ الشورى الإسلامية يجب تحقيقه في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، كما يجب رفض كل مظاهر الحكم الجبري، والاستبداد والتوريث في الحكم، ويجب تقرير حق الأمة عن طريق أهل الحل والعقد فيها في اختيار وتولية ومحاسبة من يحكمها.
والفرق بين الشورى الربانية وبين الديمقراطية الوضعية ليس في طريقة الانتخابات أو استطلاع الرأي العام،وإنَّما الفرق في المنطلق العقدي؛ فالديمقراطية الوضعية تجعل الحاكم في كل شيء هو الشعب إمَّا مباشرةً عن طريق الاستفتاء أو عبر النواب المنتخبين في المجالس البرلمانية؛ فيصوتون حتى على المحرمات في الإسلام. أما الشورى في الإسلام فالحكم فيها لله وحده، فما أوجبه الشرع أو نهى عنه فلا يملك أحدٌ تغييره، وإنما البحث والتصويت في كل ما كان داخلاً في دائرة المباح في جميع مناحي الحياة.
إنَّ الميلاد التاريخي للديمقراطية كان نتيجة صراع الدولة ضد الكنيسة, " الحكم المدني ضد الحكم الديني ", "الحكم باسم الشعب والبشر ضد الحكم باسم الله والدين" ، ومن هنا تولدت الوسائل والنظم التي تحكم إرادة الشعوب لمجتمعاتها.

ثالثاً : القومية أو الوطنية : الدولة المدنية الغربية تقوم على أساس التعصب للقوميات العِرْقِية والوطنيات الأرضية, فهي دولة عنصرية قومية محدودة بحدود المكان أو القوم أو الجنس أو العنصر، تقوم على مبدأ استعلاء الوطن وأبنائه على غيرهم,وتجعل الولاء والبراء للوطن فقط لا لغيره؛ ونتج عن ذلك المساواة المطلقة بين مواطني الدولة, والتي تعني إلغاء الفروق من حيث الدين أو الجنس وغير ذلك, وبناءً على ذلك فلا فرق بين مسلمٍ وكافر, وذكرٍ وأنثى, وذلك مضادةٌ صريحةٌ لأحكام الشريعة الإسلامية, قال الله تعالى:{ أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ }, وقال تعالى:{ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}, وقال تعالى:{ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى}, وقال تعالى:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}, ومن المعلوم أنَّ الشريعة الإسلامية فرَّقت في العديد من الأحكام بين المسلم والكافر, والرجل والمرأة مما لا مجال لبسطه ههنا.
مواقف الناس تجاه الدولة المدنية :
تنقسم اتجاهات الناس تجاه هذا المصطلح " الدولة المدنية " إلى اتجاهاتٍ ثلاثةٍ :
الاتجاه الأول: وهو يمثل مَنْ قَبِل هذا المصطلح كما جاء من الغرب:
وهذا الاتجاه يمكن تقسيمه إلى فئتين: فئة قبلت اللفظ ومفرداته لكن لم تصل به إلى غايته بحيث وضعت الدولة المدنية في مقابل ما يسمونه بالإسلام السياسي، وهو ما يعني أن علاقة هذا المصطلح بالإسلام - في فهمهم - ليست علاقة توافق، وإنما هي علاقة تعارض.
والحقيقة أنَّه ليس هناك ما يمكن أنْ يُسمى إسلاماً سياسياً وإسلاماً غير سياسي؛ فتلك مسميات ما أنزل الله تعالى بها من سلطان؛ فالإسلام هو الدين الذي رضيه رب العباد للعباد، بما فيه من عقائد وعبادات وتشريعات ومعاملات، فتقسيم الإسلام إلى سياسي وغير سياسي ونحو ذلك من المصطلحات، وقبول ما يزعمون أنَّه إسلامٌ غير سياسي وينعتونه بالإسلام المعتدل، ورفض ما يسمونه بالإسلام السياسي وينعتونه بالإسلام المتشدد، هو مُناظِرٌ لفعل المشركين من قبل: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ( هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ جَزَّؤوهُ أَجْزَاءً، فَآمَنُوا بِبَعْضِهِ، وَكَفَرُوا بِبَعْضِهِ). فالدولة المدنية في فهمهم تعني استقلال الإنسان بوضع التشريعات التي تحكم أمور الحياة، وحصر الدين في المفهوم العلماني الذي يقصر الدين على الشعائر التعبدية في معناها الضيق.
أما الفئة الثانية فقد وصلت باللفظ إلى غايته وصرحت بأنَّ الدولة المدنية هي الدولة العلمانية, فيصرحون تصريحاً واضحاً دون مواربة أو تلاعب بالألفاظ أنَّ الدولة المدنية تعني الدولة العلمانية.
الاتجاه الثاني: وهو يمثل من حاول المواءمة بين الدولة المدنية في مفهومها الغربي وبين الإسلام, فيحاول أنْ يوائم بين الأمرين فيقبل شيئاً من هؤلاء وشيئاً من هؤلاء. ويرى أصحاب هذا الاتجاه أنَّ المسألة هينة وأنَّها مجرد اصطلاح، والاصطلاح لا مُشَاحَّةَ فيه كما يذكر أهل العلم، وعلى ذلك فهم يقررون أنَّ الدولة في الإسلام مدنية ليست دينية، بينما دستورها من القرآن والسنة, وهذا الطرح يبين أنَّ المرجعية الدينية ليست من صفات الدولة المدنية ولا من خصائصها أو أركانها، وإلاَّ لما احتيج أنْ يُقال دولة مدنية بمرجعية إسلامية, أو ذات هويةٍ إسلامية.
وهذا فيه محاولةٌ للتوفيق بين الأفكار المعاصرة وبين مقررات الشريعة, ولكنَّ هذا الكلام - في الحقيقة – يحمل التناقض في ثناياه؛ إذ كيف نقول عنها إنَّها "مدنية" أيْ: لا دينية, ثم نقول في الوقت نفسه إنَّ دستورها هو الكتاب والسنة؟! فمعنى كونها لا دينية أنها لا ترتبط بالدين، وكون دستورها الكتاب والسنة أنها ترتبط بالدين، وهذا تناقض. وهذه المشكلة يقع فيها من يحاول التوفيق بين المختلفات في الظاهر، من غير إزالة أسباب الخلاف الحقيقية.
والحقيقة أن المشكلة لا تكمن في التسمية أو الاصطلاح؛ فقد كان بالإمكان أن تُسمى الدولة في الإسلام دولة مدنية أو غير ذلك من الأسماء، لو لم تكن تلك المصطلحات ذات استعمالٍ مستقرٍ مناقضٍ للشريعة، ومن ثَمَّ يصير استعمال هذا المصطلح لوصف الدولة في الإسلام سبباً في اللبس وخلط الأمور؛ لأنَّ هذا الاصطلاح لم يعد اصطلاحاً مجرداً وإنَّما صار اصطلاحاً مُحَمَّلاً بالدلالات التي حَمَلَها من البيئة التي قدم منها.
فإذا كان بعض المتكلمين بهذا المصطلح والآخذين به يقولون بمرجعية الشريعة؛ فما الذي يحملهم على الإصرار على استعمال مصطلح أقل ما يقال فيه أنَّه مصطلحٌ مشبوه، يدعو استعماله إلى تفرقة الأمة لا إلى جمعها، كما يمثل نوعاً من التبعية الثقافية للغرب، في الوقت الذي لا يوجد فيه أيُّ مسوغٍ مقبول للإصرار على هذا الاستعمال.
ومما هو مقبول في العقل السليم أنَّ الكلمة ذات المعنى الصحيح إذا كانت تحتمل معنى فاسداً فإنه يُعْدَلُ عنها إلى كلمةٍ لا تحتمل ذلك المعنى الفاسد.
والاتجاه الحق : هو رفض هذا المصطلح لما اشتمل عليه من مفاسد ولعدم الحاجة إليه, فالدولة المدنية التي يجري الحديث عنها هي دولة علمانية، حيث أنَّه من المعروف أن الدولة المدنية عند الغرب هي الدولة (اللادينية)، أي الدولة العلمانية. ولنستعمل عوضاً عن ذلك المصطلحات النقية كمصطلح الدولة الإسلامية، أو مصطلح الدولة الشرعية, أو الدولة الراشدة، أو الصالحة، أو العادلة, أو أي مصطلح لا يحمل تلك المعاني الفاسدة.

خاتمةٌ :
التصور الإسلامي والتاريخ الإسلامي يختلفان تماماً عن التصور والتاريخ الأوربيين، فدين الإسلام دينٌ شاملٌ مهيمنٌ على جميع نواحي الحياة, "فالمدينة" إسلاميّاً هي التي خرجت من رحم القيم والسلوكيات الإسلامية وليس العكس؛ فهي إحدى صور تشكلِّ حياة المسلمين، وهكذا كانت حضارة الإسلام وليدة هذا الدين، ولذلك صاحب تغيير الرسول صلى الله عليه وسلم لاسم (يثرب) إلى (المدينة) إعادة تشكيل المجتمع الجديد وفق القيم الإسلامية،
فلا حضارة أرقى, ولا أخلاق أسمى في تحقيق العدل ومنع الظلم, بل في كافة النواحي والمجالات من حضارة ونظام ودولة ومجتمع المدينة النبوية على ساكنها أشرف الصلاة والتسليم, في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وعهد الخلفاء الراشدين من بعده, ومن بعدهم من خلفاء المسلمين ممن ساروا على هديهم واقتفوا أثرهم.
وفي الختام: ندعو كافة المسلمين إلى مراجعة دينهم, وعدم السماح لكائن من كان أن يلتف عليهم, ويمرر على حين غفلة من الشعوب أثناء ثورتها على الظلم والطغيان مخططاتٍ إجرامية هي أيضاً من أعظم الظلم والطغيان.
قال تعالى:} إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{