هذه القصة موجودة وموثقة في كتب التاريخ، وما يهمنا منها هو دلالتها.

سأروي لكم قصة التابعي الجليل سعيد بن جبير مع الحجاج بن يوسف الثقفي.

وأقول للذي لا يعرف من هو الحجاج بن يوسف الثقفي:

هو والي بني أمية على العراق، وهو الذي أخضع العراقيين لسلطان بني أمية بعد أن كانوا متألبين ضد سياستهم وخارجين عليهم، فأعمل فيهم القتل الذريع، وأشاع الرعب في أرجاء البلاد، ولم يسلم منه عبد الله بن الزبير (حفيد سيدنا أبي بكر الصديق- ابن السيدة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين)، إذ قصفه بالمنجنيق وهو لائذ بالكعبة الشريفة في بيت الله الحرام!...
لم يستسلم أهل العراق للحجاج، بل اجتمعوا لقتاله تحت راية عبد الرحمن بن الأشعث، و كان من بين من انضموا لراية ابن الأشعث التابعي الجليل العالم الكبير سيد علماء التابعين : سعيد بن جبير


شاءت إرادة الله تعالى أن ينتصر الحجاج، فازداد قوة وتسلطاً على خصومه،..

وبدأ بالعلماء الذين ثاروا ضده يذيقهم ألوان العذاب.. وكان من بينهم التابعي الجليل سعيد بن جبير..

وقد جرى بين الحجاج بن يوسف وبين سعيد بن جبير الحوار التالي قبل أن يأمر بقتله:

سأل الحجاج سعيداً: ما اسمك؟
أجابه: سعيد بن جبير.
فقال: بل شقيّ بن كُسير
فقال سعيد: أهلي كانوا أعلم باسمي منك!.

قال الحجاج: ما تقول فيّ؟
أجاب: أنت اعلم بنفسك.
قال: بل أريد علمك أنت.
قال سعيد: إذن يسوؤك ولا يسرّك.
قال: لا بد أن أسمع منك.

قال: إني لأعلم أنك مخالف لكتاب الله تعالى وسنة رسوله.. تقدم على الأمور تريد بها الهيبة، وهي تُقحمك في الهلكة، وتدفعك إلى النار..
قال الحجاج مغضباً: لأقتلنّك..

أجابه سعيد: إذن تفسد عليّ دنياي، وأفسد عليك آخرتك.
قال: اختر لنفسك أيّ قِتلة تشاء..
قال: بل اخترها انت لنفسك يا حجاج.. فو الله ما تقتلني قِتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة..

اغتاظ الحجاج وقال: عليّ بالسيف.
فتبسّم سعيد، فسأله الحجاج مستنكراً: لماذا تتبسم؟

قال: عجبت من جرأتك على الله وحِلم الله عليك!!
صاح الحجاج: اقتله يا غلام..

فاستقبل سعيد القبلة وقال: (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين).

قال الحجاج: احرفوه عن القبلة.
فقال سعيد: (فأينما تولّوا فثمّ وجه الله).

دمدم الحجاج: كبّوه على الأرض..
فقال سعيد: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى).

صرخ الحجاج بحدة: اذبحوا عدو الله، فما رأيت رجلاً أقوى استحضاراً منه لآيات القرآن.

فرفع سعيد كفيه، وقال متضرعاً: اللهم لا تسلّط الحجاج على أحد بعدي...

• * *
لم يمض على مصرع سعيد بن جبير سوى خمسة عشر يوماً حتى أصابت الحجاج حمّى شديدة، فكان يغفو الإغفاءة القصيرة، ويستيقظ إثرها مذعوراً، وهو يصيح:
هذا سعيد بن جبير يريد أن يخنقني..
هذا سعيد بن جبير يقول لي: فيم قتلتني!!

ثم تأخذه نوبة من البكاء، ويردد بألم:
ما لي ولسعيد بن جبير!! ردّوا عني سعيد بن جبير..

يروى أن أحد الناس رأى الحجاج في المنام بعد أن مات، فسأله:
ما فعل الله بك فيمن قتلتهم يا حجاج؟
فقال: قتلني الله بكل امرئ قَتلة واحدةً.. وقتلني بسعيد بن جبير سبعين قتلة!

يقول لله تعالى في كتابه الكريم: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون)..

فائدة:
قال الذهبي في سيره: الحجاج * أهلكه الله في رمضان سنة خمس وتسعين كهلا، وكان ظلوما، جبارا، ناصبيا، خبيثا، سفاكا للدماء.
وكان ذا شجاعة وإقدام ومكر ودهاء، وفصاحة وبلاغة، وتعظيم للقرآن.
قد سقت من سوء سيرته في تاريخي الكبير، وحصاره لابن الزبير بالكعبة، ورميه إياها بالمنجنيق، وإذلاله لاهل الحرمين، ثم ولايته على العراق والمشرق كله عشرين سنة، وحروب ابن الاشعث له، وتأخيره للصلوات إلى أن استأصله الله. فنسبه ولا نحبه، بل نبغضه في الله. فإن ذلك من أوثق عرى الايمان. وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبه. وأمره إلى الله.
وله توحيد في الجملة، ونظراء من ظلمة الجبابرة والامراء. انتهى كلامه
.

تنبيه:
للحجاج حسنات مغمروة في بحر ذنوبه ما أدقها من وصف للذهبي رحمه الله. القضية في القصة هي بأن الحجاج قد قتل العالم سعيد بن جبير وغيره من العلماء الذين خرجوا مع ابن الأشعث.وثبات ابن جبير وقوته في رده على الحجاج وقوله الحق بوجه الظالم دون خوف كمثل بعض علمائنا أو دون رياء كمثل آخرين أو لف وخداع ودوران من أجل الدين كمثل آخرين.هو من مهمات هذه القصة التي حفظها التاريخ لنا وهي صحيحة.


دعاء:
اللهم اجعلنا كسعيد بن جب
ير سبيلنا وغايتنا الحق
.آمين.