الأربعاء 24 آب 2011
في الطريق إلى يوم الحسم
مجاهد مأمون ديرانية
-1-
سألني بعض الإخوة الكرام: لماذا انقطعت عن نشر أي مقالة جديدة بعد الرباعية الأخيرة (حماة: المعركة الفاصلة – حماة تهزم النظام بالضربة القاضية – الفصل الأخير: ماذا بعد حماة؟ – الأحداث المتسارعة تقرع باب النهاية)؟ السبب هو أنه لا جديد عندي؛ ما زالت نظرتي كما هي وتوقعاتي على حالها، إلا أن تسارع الأحداث يبدو أبطأ مما توقعت، فإما أن المؤشرات كانت غيرَ صحيحة أو أن طارئاً طرأ فأخّر تدفق الأحداث. وبما أن المؤشرات صحيحة والله أعلم، فسوف أبحث الاحتمال الثاني.
أولاً اسمحوا لي أن أؤكد خلاصةَ ما وصلنا إليه من قبل، وهو أن الحكم على النظام بالإعدام قد صدر بصيغته النهائية وأننا نعيش الآن مرحلة التنفيذ. أريد أن ألفت انتباهكم إلى التسريب الذي انتشر خلال اليومين الماضيين بشكل واسع متحدثاً عن بعض خفايا لقاء وزير الخارجية التركي بالقيادة السورية، وأضمّ إليه تصريح أردوغان الذي سمعناه قبل عدة أيام مشبّهاً الوضع في سوريا بالوضع في ليبيا. هذان الخبران يتفقان مع خبر ثالث نشرته جريدة “حرييت ديلي نيوز” التركية -نقلاً عن مصدر دبلوماسي تركي- قبل زيارة أحمد أوغلو بيوم واحد ووصل إلينا متأخراً، ويقول إن الرسالة التي سيحملها وزير الخارجية إلى دمشق تتضمن تأكيداً للأسد بأنه سيلقى مصير القذافي إذا لم يوقف قتل شعبه.
نحن نتعامل هنا مع كلام الساسة الذين يتخاطبون ويتحدثون ويصرّحون بلغتهم الدبلوماسية، وهي ليست اللغة العادية التي يتحدث الناس بها فيما بينهم. عندما تسمع جماعة من اليابانيين يتحدثون معاً فإنك ترجع إلى معجم اللغة اليابانية لفهم حديثهم، فهذه اللغة ليست لغتك ولن تعرفها بلا قاموس. بالطريقة نفسها أستطيع القول إن اللغة الدبلوماسية لا تُفهَم بلا مراجعة قاموس دبلوماسي، ولو أننا عرضنا التصريحات التركيةَ الأخيرة على القاموس الدبلوماسي فسوف تُدهشنا خشونةُ الخطاب وقسوته غير المعهودة في ذلك القاموس، لذلك لا أستغرب أبداً ولا أستبعد أن يكون ما قيل في الأخبار المسرَّبة عن لقاء أوغلو وبشار صحيحاً: “طوال ست ساعات خلال لقائه مع أوغلو بدا بشار مضطرباً ترتعد يداه ورجلاه، حيث فوجئ بالرد التركي الذي هدده بخطوات مؤلمة إن لم يحصل تغير حقيقي وجوهري في سياسة النظام السوري”.
ثم راقبوا المسرح العالمي تجدوا أن التطورات السياسية المهمة لم تنقطع، فقبل يومين اجتمع ملكا الأردن والسعودية، واليوم أذيع خبر عن اجتماع طارئ ستعقده لجنة المتابعة في الجامعة العربية خلال يومين لبحث المسألة السورية، وأيضاً قرأنا أن مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى جيفرى فلتمان زار القاهرة لإجراء مشاورات مع الحكومة وجامعة الدول العربية، وقال خلال اجتماعه مع أمين عام جامعة الدول العربية الدكتور نبيل العربي إن الوقت حان للرئيس الأسد ليستقيل قبل أن تنحدر سوريا إلى الفوضى (هل ترون رابطاً بين الخبرين الأخيرين؟ ربما). اليوم أيضاً أصدر الاتحاد الأوربي قائمة عقوبات جديدة، وشكل مجلس حقوق الإنسان لجنة دولية للتحقيق بانتهاكات حقوق الإنسان بسوريا، وقال دبلوماسي بريطاني في وزارة الخارجية في لندن إن المجتمع الدولي يريد من اللجنة الدولية أن تحول بشار الأسد وأربعة عشر قيادياً سياسياً وعسكرياً وأمنياً يشكلون عصب نظامه إلى محكمة الجنايات الدولية.
صدقوني: إن كل ما نسمعه في هذه الأيام -من أميركا وأوربا وتركيا والسعودية وغيرها- ليس كلاماً عادياً. إذا قرأناه مترجَماً من لغة الدبلوماسية إلى لغتنا العادية فهو ليس أقل من إعلان حرب.
-2-
البعض يقول إن كل ما ستنجلي عنه العاصفة الدولية الأخيرة هو مزيد من العقوبات على النظام ورموز النظام. يا سبحان الله! هل يصدّق عاقل أن يخصّص مجلسُ الأمن جلسةً خاصة لبحث المشكلة السورية، وتعلن أميركا ومعها حلفاؤها الأوربيون عن أشد المواقف السياسية حتى الآن، وتتوالى المواقف العربية والإقليمية مترافِقةً مع سحب السفراء وتبادل الزيارات وعقد الاجتماعات على أعلى المستويات… هل يمكن أن يكون ذلك كله في سبيل فرض عقوبات على النظام السوري؟ ألم يفرضوا عليه العقوبات من قبل دون الحاجة إلى كل هذا الحشد وهذا الضجيج؟
لا، إنهم يحتاجون إلى التدخل وبسرعة، ولا بد أن يتأكدوا من إبعاد الأسد وعائلته وعصابته عن حكم سوريا قبل فوات الأوان. لكن ما معنى “فوات الأوان”؟ ولماذا لا يقفون على الحياد ويراقبون ما سوف يحصل من بعيد؟ سأقول لكم:
إن هذا غير ممكن من ناحيتين، فهم يهتمون دائماً بالبديل، وهم يقبضون على مصالحهم كما يصنع القرد الذي يتنقّل قافزاً عبر الأشجار، فلا يترك غصناً في يده قبل أن يقبض على الغصن الجديد، وكذلك هم يفعلون، لذلك لا بد أن يعرفوا البديل وأن يتواصلوا معه في وقت مبكر. هذا أولاً، وثانياً: إنهم يخافون كثيراً من الفوضى التي يمكن أن تصاحب سقوطاً عشوائياً للنظام، لأن حالةً خارجةً عن السيطرة يمكن أن تتولد عندئذ وتنشأ عنها مخاطرُ غير محدودة، ولا وقايةَ من هذه المخاطر إلا بالانتقال من الحالة القديمة إلى الحالة الجديدة انتقالاً مراقَباً ومسيطَراً عليه، تماماً مثل التفاعل النووي في مفاعلات الطاقة. إنكم تعلمون أن التفاعل الذي يصنع انفجار القنبلة النووية والتفاعل الذي تنتج عنه الطاقة النووية في محطات الطاقة هو واحد بالأساس، أي أنه في الحالتين انشطار ذرات اليورانيوم أو البلوتونيوم في تفاعل متسلسل. الفرق الوحيد بين الحالتين هو أن التفاعل في معامل الطاقة النووية يبقى تحت السيطرة فلا يتحول إلى انفجار، ولو خرج عن السيطرة فإنه يتحول إلى كارثة (كما حصل في تشيرنوبل قبل ربع قرن).
إن القوى الدولية لم تعد تمانع في انتقال السلطة في سوريا، ولكنها حريصة على انتقال آمن تحت السيطرة يَحُول دون مضاعفات تهدد مصالحها، وهي ستبذل جهدها لتمنع نشوء حالة فوضى تهدد تلك المصالح.
-3-
والآن سوف يتساءل كثيرون: لماذا يريدون إسقاط النظام؟ ألم يدعموه من قبل ويرجوا له البقاء؟
بلى، لقد دعموه طوال ثلاثة شهور من عمر الثورة على الأقل، وربما أكثر قليلاً، وكانوا يرجون أن يتجاوز الأزمة ويبقى. لقد رتبوا أمورهم في الماضي وضمنوا مصالحهم من خلال نظام الأسد، كلهم كانوا راضين عنه ومنتفعين من بقائه، إسرائيل التي ضمنت الأمن والسلام باتفاق غير معلَن، وأميركا التي سخّر النظامُ مواردَه الأمنية كلها لخدمة مشروعها في “مكافحة الإرهاب”، والأوربيون الذين حصلوا على عقود النفط، والإيرانيون الذين حصلوا على النفوذ والعمق الإستراتيجي، والأتراك الذين أغلقوا ملفات مزعجة (لواء الإسكندرون والعلويين والأكراد) وأمّنوا الحدود، وكل العرب الذين وصلوا مع هذا النظام المزعج إلى حالة مرضية من السكون والتوازن.
هؤلاء جميعاً دعموا النظام: الإيرانيون كانوا الأحرصَ على بقائه فأمدّوه بالمال والرجال والسلاح والعتاد، وكذلك فعل حلفاؤهم وأتباعهم في العراق ولبنان (وهذا كله صار اليوم مكشوفاً معروفاً وموثقاً في أدلة صارت بين أيدي لجنة حقوق الإنسان). الباقون دعموا النظامَ كلٌّ بطريقته: بعضهم بالمال، وبعضهم بالعلاقات، وبعضهم بالرأي والمشورة، والباقون بمجرد الصمت.
لقد بذلوا جهدهم وراحوا ينظرون وينتظرون، حتى إذا رأوا أن الثورة في تصاعد وأن الشعب يزداد إصراراً على إصرار وأنه قد آلى أن يُسقط النظام، حين رأوا ذلك وصاروا منه على يقين أدركوا أن النظام لا يمكن أن يبقى ما لم يرضَ الشعب الثائر، وأدركوا أن الشعب لن يسكت قبل الحصول على حريته وكرامته، فعندئذ بدؤوا بالضغط “الحقيقي” على النظام لإصلاح نفسه لكي ينجح في البقاء.
العالم كله (إلا قليلاً) أدرك أن النظام السوري لن يبقى إلا بالإصلاح، والنظام قرر أن يبقى بلا إصلاح، والشعب قرر أنه لن يبقى لا بإصلاح ولا بغير إصلاح… وصدر حكم التاريخ وحكم الله من عليائه: إن قرار الشعب هو الذي سيمضي، وسوف يزول النظام. فثَمّ أعمى الله بصيرةَ النظام فمضى في الغيّ والإجرام، وألهم الثوارَ الصبر والثبات وأمدّهم ببركات رمضان، وكانت نتيجة اجتماع الأمرين أن تغير موقف العالم، فانتقل من تأييد النظام ومحاولة إصلاحه وإنقاذه إلى التخلي عنه والسعي إلى إسقاطه.
أنتم غيرتم مسار التاريخ يا أيها الثوار الأبطال. لو أنكم تخليتم عن ثورتكم لتخلى العالم عن قضيتكم، ولكنكم صبرتم وثبتم وثابرتم وصابرتم فانحنى العالم خاشعاً بين أيديكم، علم أنكم أنتم الغالبون بإذن الله وأن أعداءكم هم المغلوبون، فانحاز من فئة المغلوبين إلى فئة الغالبين، ونفض من الفريق الخاسر يدَيه وأقبل عليكم، أنتم يا أيها الرابحون بإذن الله ويا أيها الفائزون.
-4-
يقول بعض الناس: كيف ذلك والثورة ضعفت مؤخراً؟ سامحكم الله! الثورة ضعفت؟ أما أنا فلا أرى إلا أن الثقة في الثورة هي التي ضعفت، أما الثورة نفسها فماضية في تصاعد كأنما هي ترتقي هضبةً ذروتُها النصرُ المبين إن شاء الله، وإنّ ما بيننا وبين الذروة لَيتناقص يوماً بعد يوم. إننا نقترب في كل يوم من النصر يوماً بإذن الله، ولا تسألوني كم هي الأيام أصلاً وكم أكلنا منها لنعرف كم بقي في تقويم الانتظار، فإني لا أعلم الغيب، ولكني أعلم أن المسافة بيننا وبين ساعة الحسم تتناقص على الدوام، وأننا نأكل من عمر النظام كلَّ يوم يوماً وأنه لم يبقَ له -بإذن الله- الكثير.
ومِن أين يعلم مَن يقول إن الثورة تضعف أنها تضعف حقاً؟ أيرصد أحداثها أم يحصي مظاهراتها؟ أنا أصنع ذلك كل يوم، ولم أرَ مواقع الثورة نقصت في يوم من أيام رمضان عن مئة موقع. لا أعدّ المظاهرات ولكني أحصي المواقع، فإدلب مثلاً موقعٌ ولو تعددت فيها المظاهرات في أحيائها أو تكررت في ليلها ونهارها، وقيسوا عليها المواقع الأخرى جميعاً، وإن شئتم إحصاءً تقريبياً فلا أظن أن يوماً من أيام رمضان انحسر نهارُه وليله عن أقلّ من ثلاثمئة مظاهرة. ثم تقولون إن الثورة ضعفت؟ هذا والنظام يزداد في كل يوم شراسة ووحشية ويركم إجراماً فوق إجرام، فكيف لو ترك الناس وما يريدون؟ أذكر أني قرأت مرة في صفحة الثورة تعليقاً لطيفاً، يوم استولى المهرّجون على ساحة الأمويين في دمشق فعربدوا فيها ورقصوا على جراح الأمة احتفالاً بسنة أخرى أمضاها الوحش الكاسر في شرب دماء أبناء البلاد، يومَها كتبوا في صفحة الثورة جملة جميلة يقولون فيها: أعيرونا ساحة الأمويين يوماً لنريكم ماذا نصنع مقارنة بما تصنعون.
لو أن من يتحدث عن ضَعف الثورة أبصر وأنصف لما قال ما قال. إن ثوار سوريا ما زالوا يثيرون دهشة الدنيا إلى اليوم بصمودهم الأسطوري، ولولا ذلك لما وقف العالم معنا ولبقي في صف النظام. ليست هذه المقالة صفحة من التاريخ لأجمع لكم فيها أخبار المظاهرات والبطولات التي تشهدها شوارع سوريا في كل يوم، ولكن اسمحوا لي فقط أن أنقل لكم صورة مصغَّرة من حرستا، بلدة البطولة والصمود هي وجارتها الكبرى دوما وسائر بلدات ومدن غوطة دمشق، صورة وصلتني من “تجمع أحرار دمشق وريفها للتغيير السلمي” تصف أحداث أمس الأول أنقلها باختصار: حاصر الحرس الجمهوري حرستا منذ ليلة الإثنين، ومع الفجر انتشر عناصره في أحياء المدينة وبدؤوا حملة مداهمات للبيوت واعتقالات شملت مئتي شخص على الأقل، وكالعادة كسروا أثاث المنازل وسرقوا الذهب والمال والأغراض الثمينة، كما أحرقوا بعض منازل المطلوبين واعتقلوا أقارب مَن لم يجدوه منهم، وخربوا الممتلكات الخاصة وسرقوا الأغذية من المتاجر، وكانوا يطلقون الرصاص الحي على أي شيء يتحرك. واستمر إطلاق الرصاص الحي والقنابل الصوتية طوال فترة الاقتحام لإرهاب الناس، ثم انسحبوا أخيراً عند الظهر.
ما سبق هو وصف نموذجي لما يحصل في كل اقتحام للمدن الآمنة، فلعلّه لا يثير العجب، لكن ما يأتي بعده سيثير العجب إلى غايته: انسحب الجيش من المدينة ظهراً فخرج أحرار حرستا بعد صلاة الظهر في مظاهرة حاشدة، ثم خرجوا في مظاهرة أخرى كبيرة بعد صلاة العصر، وزاد عدد المتظاهرين على ألف شخص. وأثناء فضّ المظاهرة وصل وفد الأمم المتحدة لتقصّي الحقائق، فرفع الشباب لافتات باللغة الإنكليزية تقول إن الأمن يستعمل سيارات الإسعاف لقتل المتظاهرين ويصوّب الرصاص الحي مباشرة إلى رؤوس وصدور المتظاهرين العزّل، وتحدّث بعض المتظاهرين مع اللجنة وأخذوها إلى أحد المنازل التي أُحرقت بعد اقتحامها. وبعد صلاة التراويح خرجت مظاهرة حاشدة انطلقت من عدة مساجد في المدينة وجابت شوارعها، وبلغ عدد المتظاهرين نحو أربعة آلاف متظاهر، ورفع المتظاهرون لافتات تطالب بإسقاط النظام ومحاكمته وتدعو للإفراج عن المعتقلين.
هل تبدو لكم هذه الحكايةُ حكايةَ شعب ضَعُفَت ثورته؟ أمَا إن المتشائمين والمثبّطين لَيَظلمون الثورة أكثرَ ممّا يظلمها أعداؤها!
-5-
والآن سأحاول أن أجيب عن السؤال الأخير: لماذا تباطأت الأحداث؟
أنا لا أملك معلومات أكيدة أبني عليها جوابي، لكن التفكير بأسلوب منطقي يدلني على أن عائقاً ما قد أعاق الأحداث المتسارعة وتسبب في تأخير البدء بخطة الحسم. لعلكم تذكرون مسلسل التطورات الدولية والإقليمية والعربية والخليجية في حلقاته الثلاثين، وقد عرضته عليكم في الرسالتين التاسعة والعشرين والثلاثين من هذه الرسائل، وهو مسلسل متدفّق يوحي بأن أمراً كبيراً كان يجري الإعدادُ له إعداداً جادّاً وحثيثاً، وفجأة تباطأ تدفّق الأحداث بشكل ملحوظ. لماذا؟ اعتماداً على الحدس ومن باب التوقع -وليس اعتماداً على أي خبر موثوق- أقول إن السبب هو المعارضة السورية.
أرجو أن تمشوا معي في استطراد صغير ثم أعود إلى الموضوع. هل خطر ببالكم في أي يوم أن تتخيلوا كيف تكون العلاقات بين الدول؟ أنا أتصور الدول مثل الشركات؛ كيانات كبيرة يتعامل بعضها مع بعض على أسس الربح والخسارة والصراع على النفوذ. هذا مثال يوضّح المسألة: في كل بلد من البلدان توجد شركات لمنتجات الألبان تورّد للناس الحليبَ واللبن والجبن وغيرها من المنتجات المشابهة. نحن نعلم أن كلاً منها تُنافس الأخريات على حصص المبيعات في السوق، أي على “النفوذ” التسويقي، وكذلك تتنافس الدول. نحن نعلم أنه لا يمكن أن تساعد شركةٌ شركةً أخرى منافسة إلا إذا قبضت ثمناً أكبر من الذي تدفعه، وكذلك تتعاون الدول. نحن نعلم أن من المستحيلات أن ترسل إحدى الشركات هبةً مالية لشركة أخرى من باب الودّ والمحبة أو فعل الخير، بل لا بد أن يكون لها -لو صنعت ذلك- هدف يعود عليها بالربح، وكذلك تصنع الدول.
أطلقوا لأخيلتكم العنان وسوف تجدون أوجهَ شَبَهٍ كثيرةً بين الدول والشركات، وسوف تفهمون حقيقة العلاقات بين الدول من خلال هذا التشبيه البسيط، لكن دعونا الآن ننتهي إلى شَبَه أخير هو بيت القصيد في استطرادي: لو أرادت شركةٌ أن تعقد صفقةً مع شركة أخرى لتوريد منتج من المنتجات مثلاً، فهل يذهب مديرها إلى موقع الشركة الأخرى فيبحث عن بعض العمال ليوقع معهم العقد؟ بالطبع لن يفعل ذلك، بل سيبحث عن الشخص “المفوَّض” ليوقع معه العقد، إما المدير العام أو مدير المشتريات أو أي شخص معتمَد من قِبَل مجلس إدارة الشركة.
هذا هو ما أريد توضيحه. الشركات لا تتفاوض ولا يتعاقد بعضها مع بعض إلا من خلال ممثّلين مفوَّضين، والدول لا يتصل بعضُها ببعض ولا يفاوض بعضُها بعضاً أو يتفق بعضها مع بعض إلا من خلال ممثّلين مفوَّضين أيضاً. في الأحوال العادية، أحوال السلم والاستقرار، يقوم بهذه المهمة الوزراء أو السفراء مثلاً، ولكننا نعيش في حالة انتقالية في هذه الأيام، فالمجتمع الدولي سحب البساط من تحت النظام السوري وجرده من الشرعية، وهو يتحرك باتجاه الدولة السورية القادمة، أفلا ترون ضرورة وجود من يمثل هذه الدولة وينطق باسمها في هذه المرحلة الانتقالية الحاسمة؟ إذا فهمتم المسألة على هذا النحو فسوف تدركون أهمية وجود هيئة تنفيذية أو مجلس وطني أو أي جهة مرجعية تنطق باسم الثورة وتمثلها أمام المجتمع الدولي والقوى العالمية، وهذا هو تماماً ما حاولت بيانه في الرسائل الماضية عندما تحدثت عن مؤتمر الإنقاذ ودور الأستاذ هيثم المالح الذي كنت أظنه حاسماً وضرورياً، لكن يبدو لي الآن أن الأستاذ المالح لم يعد له ذلك الدور. لا أعلم متى تقرر تجاوزه والعمل بعيداً عنه، ولكن يبدو أن هذا حصل في أعقاب الأداء الفاشل لمؤتمر الإنقاذ الذي نُشر عنه الكثير. على أية حال سوف تكشف لنا الأيام خفايا وأسرار هذه الفترة من تاريخ الثورة، أما الآن فدعونا نركز على أهمية وجود هيئة أو مجلس لتمثيل الثورة أمام المحافل الدولية، وسوف تدركون حجم المشكلة في تأخر ولادة مثل هذه الهيئة أو المجلس إلى اليوم.
قد يبدو ما سأقوله الآن قاسياً بعض الشيء، لكني لا أستطيع منع نفسي من التصريح بخيبة الأمل في ما يسمى “معارضة سورية”. من خلال متابعاتي المطولة -التي حرصت فيها على معرفة كل صغيرة وكبيرة مما يدور في مؤتمرات المعارضة- فإنني أقول لهم بالصوت العالي: إنكم مخيبون للأمل.
إخوانُكم في الداخل يعملون في أصعب الظروف ويتحركون في عين الخطر ومع ذلك نجحوا في جمع مئة وتسعٍ من التنسيقيات المحلية في كيان واحد سمّوه “الهيئة العامة للثورة السورية”، وأنتم أقل من عشرة فصائل ولم تنجحوا في جمع كلمتكم في كيان واحد إلى اليوم؛ هذا وأنتم تتحركون بحرّية فتسافرون في الطائرات الفارهة وتعقدون الاجتماعات في الفنادق الفاخرة، أما إخوانكم الذين حققوا معجزة الاتحاد في الداخل فيتحركون على أقدامهم أو على الدراجات النارية ويخاطرون بعبور حواجز الأمن ويجتمعون تحت الخطر والتهديد بالاعتقال.
أقولها مرة أخرى: فعلاً إنكم مخيبون للأمل.
اسمعوها مني كلمة صريحة ولو ثَقُلت في مسامعكم: إنكم آثمون بتقديم مصالحكم على مصلحة الثورة، وفي رقابكم تتعلق كل ضحية جديدة تسقط على أرض الشام سببُها تأخركم في جمع صفكم وتوحيد كلمتكم. أنتم تتنافسون على مكاسبَ مادية وإخوانُكم في سوريا يضحون بأرواحهم، أنتم تضيعون الأيام في سبيل إضافة كلمة أو حذف كلمة من إعلان التأسيس وهم يدفعون العشرات من الشهداء في كل يوم. ويلكم من حساب الشعب وويلكم من حساب الله! أم تظنون -وأنتم تتنافسون على المناصب والمكاسب- أنها ستدوم لكم؟ إنْ أنتم إلا وسيط مؤقت، كذلك الحزام المتحرك الذي ينقل الحقائب بين الطائرة وقاعة المسافرين، أو كالمُعَدِّيَة التي تنقل الركاب بين طرفَي البر ليجتازوا برزخاً من الماء. أنتم مهمتكم أن تمثلوا الثورة في هذه الأيام الفاصلة من تاريخها، وبعد ذلك سيعود كل واحد إلى قواعده ويستلم الشعب ملفّ مستقبله ليقرر مصيره ويختار قادته، فإما أنتم أو غيركم، فلا تتعبوا أنفسكم وتصرّموا الوقت الطويل في أخذ ورد لن يأتيا بفائدة ذات شأن!
-6-
اشتدت الحملة على اللاذقية بعد كتابة المقالات الماضية فيما بدا أنه حملة تطهير عرقي، ولا سيما في منطقة الرمل. وقد سمعت أو قرأت توقعات يقول أصحابها إن تلك الحملة ربما كانت جزءاً من مخطط لإنشاء كيان مستقل يمتد من جبال العلويين إلى الساحل لاحتضان عصابة النظام في حالة سقوطه.
أنا شخصياً أستبعد أن يفكر النظام الأسدي -العائلة والعصابة- بنقل الدولة إلى جبال العلويين، فهو يريد سوريا كلها وسوف يقاتل حتى النهاية لتبقى في يده، وإذا اضطر إلى خوض معركة كبرى فسوف تكون ساحتها هي دمشق وليس أي مكان آخر. هذه النقطة الأخيرة أشرت إليها باختصار حينما نشرت خلاصة للرسالة الثلاثين ووعدت بتفصيلها في رسالة لاحقة، لكني لم أفعل. سامحوني على التأخير فإن الواجبات تتمدد حتى تضيق عنها الأوقات، وادْعوا لي بالبركة في الوقت حتى أستطيع إنجاز كل ما أريد إنجازه، فهذا رمضان شهر الدعاء وشهر الإجابة، لعلي أوافيكم قريباً بإذن الله بالمقالة التي كتبت جزءاً منها وبقي جزء، مقالة “ثورة دمشق”.
إن الثورة مصرّة على وحدة التراب السوري كله، هذا واحد من الأصول الأربعة الكبرى التي أصرّت عليها منذ أيامها الأولى وما تزال. إن الشعب الثائر لن يتنازل عن اللاذقية وبانياس وجبلة وطرطوس ولو استمر في ثورته عشر سنين أو عشرين. ثم إن سوريا الحرة لا يمكن أن تقبل حرمانها من البحر، ودولة علوية بهذا التصور يمكن أن تصل ما بين حدودَي تركيا ولبنان وتحجز الساحل كله.
أخيراً فإن تركيا لا يمكن أن توافق على ولادة دولة علوية مستقلة على الأرض السورية لأنها ستفتح باباً لا قِبَل لها بإغلاقه، فسوف يتحرك علويّو تركيا مطالبين بدولة لهم أو بالانضمام إلى الدولة العلوية السورية، وعلى إثرهم سيتحرك الأكراد أيضاً، وسوف تنفجر تركيا انفجاراً كبيراً. لا، إنهم أعقل من أن يسمحوا بمصير كهذا المصير، ولن يقبلوا بأن يُفتح هذا الباب أصلاً ولن يسمحوا بأي جيب علوي مستقل في سوريا مهما تكن الظروف.
-7-
نقطة أخيرة أثارتها أحداث ليبيا الأخيرة. لاحظنا كلنا أن انهيار طرابلس كان أمراً مباغتاً تماماً وسريعاً جداً، مما دفع بعض الناس إلى التساؤل: هل استعجل حلف الأطلسي بإنهاء الحرب في ليبيا ليتفرغ لسوريا؟
هذا السؤال يحمل في طياته افتراضاً ضمنياً بأن الحلفَ قادمٌ إلى سوريا لتنفيذ مهمة عسكرية، وأن التوقيت هو محل البحث. لكن أليس التدخل العسكري الغربي خطاً أحمر اختطَّتْهُ الثورةُ لنفسها منذ أيامها الأولى وثبَتَت عليه إلى اليوم؟ معنى ذلك أن الحلف لن يتدخل عسكرياً في سوريا أبداً بإذن الله، هذا ما أظنه أنا على الأقل إلى درجة تقارب اليقين، باستثناء حالة واحدة أحسب أن الثورة يمكن أن توافق عليها، وهي فرض حظر طيران لو بلغ الجنونُ والإجرام بالنظام أن يحرّك الطائرات الحربيةَ لقصف المدن. هذا الاحتمال واردٌ في مرحلة ما من مراحل سقوط النظام، ربما كمحاولة أخيرة يائسة لإنقاذ نفسه أو من باب الانتقام، ولو أنه حصل فلا مناص من الاستعانة بقوة خارجية لفرض حظر طيران لإنقاذ مدن سوريا من كارثة كبيرة لا سمح الله.
إذن فإن أي تدخل عسكري بري غربي لا يبدو متوقعاً أبداً، لكن ربما تتحرك تركيا عسكرياً بطريقة ما تحت مظلة الحلف، أليست هي جزءاً منه في نهاية المطاف؟ وخيرٌ من ذلك كله أن تُرتَّب خياناتٌ كبيرة داخل النظام تُسقطه سقوطاً سريعاً، وقد ضربت في مقالاتي السابقة مثلاً لهذه الخيانات بما حصل في العراق يوم تخلى أعوان صدام وضباطه الكبار عنه وباعوه بثمن بخس فانهار نظامه في طرفة عين، ثم شاهدنا مثالاً آخر أمس في ليبيا حينما أمر قائد كتائب حماية طرابلس، اللواء البراني إشكال، أمر ضباطه وجنوده بإلقاء السلاح وتسهيل دخول الثوار لطرابلس دون مقاومة. لا أستبعد أبداً أن يكون هذا هو مصير النظام في سوريا وأن يكون هذا هو ما تعمل القوى الدولية على ترتيبه حالياً، وكما قلت في رسالتي الماضية: راقبوا المؤشر الخامس من مؤشرات انهيار النظام (تصدع النظام وانشقاقات أو تصفيات على أعلى المستويات). هذا المؤشر ما زال متوقفاً عن العمل، ولو أنه تحرك بصورة حاسمة فإنه سيدل على اقتراب النهاية اقتراباً مثيراً، بل ربما لا أجد الوقت لأطلّ عليكم برسالة بين تحركه وانهيار النظام! افتحوا أعينكم.
-8-
بعد نشر الرسائل الأخيرة التي كتبت فيها توقعاتي للمرحلة المقبلة صرت تحت الاختبار: هل تصحّ التوقعات أم تخيب؟ وربما قال أحدهم: أرأيت؟ لم يحصل الأمر كما ذكرت. أريد أن أنبه إلى أن الذين يشتغلون بالتوقعات -سواء أكانت اقتصادية أو سياسية أو حتى توقعات عن الطقس- لا يعلمون الغيب، ولو كانوا كذلك لصار المحللون الاقتصاديون من أكبر أثرياء الدنيا لأنهم سيعرفون ما يرتفع وما ينخفض من أسعار الخامات والبورصات فيبيعون ويشترون، والحقيقة أنهم ليسوا أثرياء على الإطلاق. من قديم قرأت أن الخبير الاقتصادي هو الذي يشرح لك لماذا ارتفعت أسعار الذهب أو النفط بعد ارتفاعها، وليس هو الذي يتنبأ بارتفاعها. المهم في عمليات التحليل أن تُبنى على منهجية سليمة، وقد تخطئ بعد ذلك أو تصيب.
ليس شيءٌ من ذلك يهمني، الذي يهمني فعلاً هو أمر واحد: لا تتخلوا عن التفاؤل، لا تسقطوا في هاوية اليأس، لا تفقدوا الثقة بالله ولا تيأسوا من رحمته. نحن الآن في رمضان، شهر القرآن، سيمر كل واحد منكم ولو مرة واحدة على الأقل بقصة إبراهيم لمّا بشرته الملائكة بإسحاق، سأل مستغرباً: كيف تبشرونني بالولد وقد بلغت من كِبَر السن ما بلغت؟ فردّوا عليه بذلك الرد الحاسم: {قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين}. إن إبراهيم بشر ولو كان نبياً ولو كان من أولي العزم من الأنبياء، وطبيعي أن يعتريَه ما يعتري البشر من ألم وفرح وضيق وانشراح ويأس وأمل، ولعله كان قد مال إلى اليأس في تلك النقطة تحديداً بعدما أمضى سنين طويلة من عمره وهو يدعو الله أن يرزقه الولد الصالح، ولكن سؤال الملائكة الاستنكاري ردّه إلى رشده رداً سريعاً، فهتف من فوره: {ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالّون؟}
أنا لا أتحدث عن أمر قادم في رسائلي إلا قلت “ربما” أو “يغلب على الظن”، إلا أمراً واحداً، هو نصر الله. هذا هو الأمر الوحيد الذي لست منه في شكّ مقدارَ شعرة، لأنه وعد الله. أليس الله وعد مَن يغيّرون أنفسهم بأن يغير حالهم؟ وأنتم -يا شعب سوريا المؤمن الحر الأبيّ- غيرتم أنفسكم فانتفضتم ورفضتم الظلم والهوان. ألستم جند الله، خرجتم من بيوت الله فهتفتم لله واستُشهدتم في سبيل الله؟ أليس الله وعد جنده أن يكفيهم عدوهم وأن ينصرهم؟
بلى، ولكنكم تستعجلون.
في الطريق إلى يوم الحسم
مجاهد مأمون ديرانية
-1-
سألني بعض الإخوة الكرام: لماذا انقطعت عن نشر أي مقالة جديدة بعد الرباعية الأخيرة (حماة: المعركة الفاصلة – حماة تهزم النظام بالضربة القاضية – الفصل الأخير: ماذا بعد حماة؟ – الأحداث المتسارعة تقرع باب النهاية)؟ السبب هو أنه لا جديد عندي؛ ما زالت نظرتي كما هي وتوقعاتي على حالها، إلا أن تسارع الأحداث يبدو أبطأ مما توقعت، فإما أن المؤشرات كانت غيرَ صحيحة أو أن طارئاً طرأ فأخّر تدفق الأحداث. وبما أن المؤشرات صحيحة والله أعلم، فسوف أبحث الاحتمال الثاني.
أولاً اسمحوا لي أن أؤكد خلاصةَ ما وصلنا إليه من قبل، وهو أن الحكم على النظام بالإعدام قد صدر بصيغته النهائية وأننا نعيش الآن مرحلة التنفيذ. أريد أن ألفت انتباهكم إلى التسريب الذي انتشر خلال اليومين الماضيين بشكل واسع متحدثاً عن بعض خفايا لقاء وزير الخارجية التركي بالقيادة السورية، وأضمّ إليه تصريح أردوغان الذي سمعناه قبل عدة أيام مشبّهاً الوضع في سوريا بالوضع في ليبيا. هذان الخبران يتفقان مع خبر ثالث نشرته جريدة “حرييت ديلي نيوز” التركية -نقلاً عن مصدر دبلوماسي تركي- قبل زيارة أحمد أوغلو بيوم واحد ووصل إلينا متأخراً، ويقول إن الرسالة التي سيحملها وزير الخارجية إلى دمشق تتضمن تأكيداً للأسد بأنه سيلقى مصير القذافي إذا لم يوقف قتل شعبه.
نحن نتعامل هنا مع كلام الساسة الذين يتخاطبون ويتحدثون ويصرّحون بلغتهم الدبلوماسية، وهي ليست اللغة العادية التي يتحدث الناس بها فيما بينهم. عندما تسمع جماعة من اليابانيين يتحدثون معاً فإنك ترجع إلى معجم اللغة اليابانية لفهم حديثهم، فهذه اللغة ليست لغتك ولن تعرفها بلا قاموس. بالطريقة نفسها أستطيع القول إن اللغة الدبلوماسية لا تُفهَم بلا مراجعة قاموس دبلوماسي، ولو أننا عرضنا التصريحات التركيةَ الأخيرة على القاموس الدبلوماسي فسوف تُدهشنا خشونةُ الخطاب وقسوته غير المعهودة في ذلك القاموس، لذلك لا أستغرب أبداً ولا أستبعد أن يكون ما قيل في الأخبار المسرَّبة عن لقاء أوغلو وبشار صحيحاً: “طوال ست ساعات خلال لقائه مع أوغلو بدا بشار مضطرباً ترتعد يداه ورجلاه، حيث فوجئ بالرد التركي الذي هدده بخطوات مؤلمة إن لم يحصل تغير حقيقي وجوهري في سياسة النظام السوري”.
ثم راقبوا المسرح العالمي تجدوا أن التطورات السياسية المهمة لم تنقطع، فقبل يومين اجتمع ملكا الأردن والسعودية، واليوم أذيع خبر عن اجتماع طارئ ستعقده لجنة المتابعة في الجامعة العربية خلال يومين لبحث المسألة السورية، وأيضاً قرأنا أن مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى جيفرى فلتمان زار القاهرة لإجراء مشاورات مع الحكومة وجامعة الدول العربية، وقال خلال اجتماعه مع أمين عام جامعة الدول العربية الدكتور نبيل العربي إن الوقت حان للرئيس الأسد ليستقيل قبل أن تنحدر سوريا إلى الفوضى (هل ترون رابطاً بين الخبرين الأخيرين؟ ربما). اليوم أيضاً أصدر الاتحاد الأوربي قائمة عقوبات جديدة، وشكل مجلس حقوق الإنسان لجنة دولية للتحقيق بانتهاكات حقوق الإنسان بسوريا، وقال دبلوماسي بريطاني في وزارة الخارجية في لندن إن المجتمع الدولي يريد من اللجنة الدولية أن تحول بشار الأسد وأربعة عشر قيادياً سياسياً وعسكرياً وأمنياً يشكلون عصب نظامه إلى محكمة الجنايات الدولية.
صدقوني: إن كل ما نسمعه في هذه الأيام -من أميركا وأوربا وتركيا والسعودية وغيرها- ليس كلاماً عادياً. إذا قرأناه مترجَماً من لغة الدبلوماسية إلى لغتنا العادية فهو ليس أقل من إعلان حرب.
-2-
البعض يقول إن كل ما ستنجلي عنه العاصفة الدولية الأخيرة هو مزيد من العقوبات على النظام ورموز النظام. يا سبحان الله! هل يصدّق عاقل أن يخصّص مجلسُ الأمن جلسةً خاصة لبحث المشكلة السورية، وتعلن أميركا ومعها حلفاؤها الأوربيون عن أشد المواقف السياسية حتى الآن، وتتوالى المواقف العربية والإقليمية مترافِقةً مع سحب السفراء وتبادل الزيارات وعقد الاجتماعات على أعلى المستويات… هل يمكن أن يكون ذلك كله في سبيل فرض عقوبات على النظام السوري؟ ألم يفرضوا عليه العقوبات من قبل دون الحاجة إلى كل هذا الحشد وهذا الضجيج؟
لا، إنهم يحتاجون إلى التدخل وبسرعة، ولا بد أن يتأكدوا من إبعاد الأسد وعائلته وعصابته عن حكم سوريا قبل فوات الأوان. لكن ما معنى “فوات الأوان”؟ ولماذا لا يقفون على الحياد ويراقبون ما سوف يحصل من بعيد؟ سأقول لكم:
إن هذا غير ممكن من ناحيتين، فهم يهتمون دائماً بالبديل، وهم يقبضون على مصالحهم كما يصنع القرد الذي يتنقّل قافزاً عبر الأشجار، فلا يترك غصناً في يده قبل أن يقبض على الغصن الجديد، وكذلك هم يفعلون، لذلك لا بد أن يعرفوا البديل وأن يتواصلوا معه في وقت مبكر. هذا أولاً، وثانياً: إنهم يخافون كثيراً من الفوضى التي يمكن أن تصاحب سقوطاً عشوائياً للنظام، لأن حالةً خارجةً عن السيطرة يمكن أن تتولد عندئذ وتنشأ عنها مخاطرُ غير محدودة، ولا وقايةَ من هذه المخاطر إلا بالانتقال من الحالة القديمة إلى الحالة الجديدة انتقالاً مراقَباً ومسيطَراً عليه، تماماً مثل التفاعل النووي في مفاعلات الطاقة. إنكم تعلمون أن التفاعل الذي يصنع انفجار القنبلة النووية والتفاعل الذي تنتج عنه الطاقة النووية في محطات الطاقة هو واحد بالأساس، أي أنه في الحالتين انشطار ذرات اليورانيوم أو البلوتونيوم في تفاعل متسلسل. الفرق الوحيد بين الحالتين هو أن التفاعل في معامل الطاقة النووية يبقى تحت السيطرة فلا يتحول إلى انفجار، ولو خرج عن السيطرة فإنه يتحول إلى كارثة (كما حصل في تشيرنوبل قبل ربع قرن).
إن القوى الدولية لم تعد تمانع في انتقال السلطة في سوريا، ولكنها حريصة على انتقال آمن تحت السيطرة يَحُول دون مضاعفات تهدد مصالحها، وهي ستبذل جهدها لتمنع نشوء حالة فوضى تهدد تلك المصالح.
-3-
والآن سوف يتساءل كثيرون: لماذا يريدون إسقاط النظام؟ ألم يدعموه من قبل ويرجوا له البقاء؟
بلى، لقد دعموه طوال ثلاثة شهور من عمر الثورة على الأقل، وربما أكثر قليلاً، وكانوا يرجون أن يتجاوز الأزمة ويبقى. لقد رتبوا أمورهم في الماضي وضمنوا مصالحهم من خلال نظام الأسد، كلهم كانوا راضين عنه ومنتفعين من بقائه، إسرائيل التي ضمنت الأمن والسلام باتفاق غير معلَن، وأميركا التي سخّر النظامُ مواردَه الأمنية كلها لخدمة مشروعها في “مكافحة الإرهاب”، والأوربيون الذين حصلوا على عقود النفط، والإيرانيون الذين حصلوا على النفوذ والعمق الإستراتيجي، والأتراك الذين أغلقوا ملفات مزعجة (لواء الإسكندرون والعلويين والأكراد) وأمّنوا الحدود، وكل العرب الذين وصلوا مع هذا النظام المزعج إلى حالة مرضية من السكون والتوازن.
هؤلاء جميعاً دعموا النظام: الإيرانيون كانوا الأحرصَ على بقائه فأمدّوه بالمال والرجال والسلاح والعتاد، وكذلك فعل حلفاؤهم وأتباعهم في العراق ولبنان (وهذا كله صار اليوم مكشوفاً معروفاً وموثقاً في أدلة صارت بين أيدي لجنة حقوق الإنسان). الباقون دعموا النظامَ كلٌّ بطريقته: بعضهم بالمال، وبعضهم بالعلاقات، وبعضهم بالرأي والمشورة، والباقون بمجرد الصمت.
لقد بذلوا جهدهم وراحوا ينظرون وينتظرون، حتى إذا رأوا أن الثورة في تصاعد وأن الشعب يزداد إصراراً على إصرار وأنه قد آلى أن يُسقط النظام، حين رأوا ذلك وصاروا منه على يقين أدركوا أن النظام لا يمكن أن يبقى ما لم يرضَ الشعب الثائر، وأدركوا أن الشعب لن يسكت قبل الحصول على حريته وكرامته، فعندئذ بدؤوا بالضغط “الحقيقي” على النظام لإصلاح نفسه لكي ينجح في البقاء.
العالم كله (إلا قليلاً) أدرك أن النظام السوري لن يبقى إلا بالإصلاح، والنظام قرر أن يبقى بلا إصلاح، والشعب قرر أنه لن يبقى لا بإصلاح ولا بغير إصلاح… وصدر حكم التاريخ وحكم الله من عليائه: إن قرار الشعب هو الذي سيمضي، وسوف يزول النظام. فثَمّ أعمى الله بصيرةَ النظام فمضى في الغيّ والإجرام، وألهم الثوارَ الصبر والثبات وأمدّهم ببركات رمضان، وكانت نتيجة اجتماع الأمرين أن تغير موقف العالم، فانتقل من تأييد النظام ومحاولة إصلاحه وإنقاذه إلى التخلي عنه والسعي إلى إسقاطه.
أنتم غيرتم مسار التاريخ يا أيها الثوار الأبطال. لو أنكم تخليتم عن ثورتكم لتخلى العالم عن قضيتكم، ولكنكم صبرتم وثبتم وثابرتم وصابرتم فانحنى العالم خاشعاً بين أيديكم، علم أنكم أنتم الغالبون بإذن الله وأن أعداءكم هم المغلوبون، فانحاز من فئة المغلوبين إلى فئة الغالبين، ونفض من الفريق الخاسر يدَيه وأقبل عليكم، أنتم يا أيها الرابحون بإذن الله ويا أيها الفائزون.
-4-
يقول بعض الناس: كيف ذلك والثورة ضعفت مؤخراً؟ سامحكم الله! الثورة ضعفت؟ أما أنا فلا أرى إلا أن الثقة في الثورة هي التي ضعفت، أما الثورة نفسها فماضية في تصاعد كأنما هي ترتقي هضبةً ذروتُها النصرُ المبين إن شاء الله، وإنّ ما بيننا وبين الذروة لَيتناقص يوماً بعد يوم. إننا نقترب في كل يوم من النصر يوماً بإذن الله، ولا تسألوني كم هي الأيام أصلاً وكم أكلنا منها لنعرف كم بقي في تقويم الانتظار، فإني لا أعلم الغيب، ولكني أعلم أن المسافة بيننا وبين ساعة الحسم تتناقص على الدوام، وأننا نأكل من عمر النظام كلَّ يوم يوماً وأنه لم يبقَ له -بإذن الله- الكثير.
ومِن أين يعلم مَن يقول إن الثورة تضعف أنها تضعف حقاً؟ أيرصد أحداثها أم يحصي مظاهراتها؟ أنا أصنع ذلك كل يوم، ولم أرَ مواقع الثورة نقصت في يوم من أيام رمضان عن مئة موقع. لا أعدّ المظاهرات ولكني أحصي المواقع، فإدلب مثلاً موقعٌ ولو تعددت فيها المظاهرات في أحيائها أو تكررت في ليلها ونهارها، وقيسوا عليها المواقع الأخرى جميعاً، وإن شئتم إحصاءً تقريبياً فلا أظن أن يوماً من أيام رمضان انحسر نهارُه وليله عن أقلّ من ثلاثمئة مظاهرة. ثم تقولون إن الثورة ضعفت؟ هذا والنظام يزداد في كل يوم شراسة ووحشية ويركم إجراماً فوق إجرام، فكيف لو ترك الناس وما يريدون؟ أذكر أني قرأت مرة في صفحة الثورة تعليقاً لطيفاً، يوم استولى المهرّجون على ساحة الأمويين في دمشق فعربدوا فيها ورقصوا على جراح الأمة احتفالاً بسنة أخرى أمضاها الوحش الكاسر في شرب دماء أبناء البلاد، يومَها كتبوا في صفحة الثورة جملة جميلة يقولون فيها: أعيرونا ساحة الأمويين يوماً لنريكم ماذا نصنع مقارنة بما تصنعون.
لو أن من يتحدث عن ضَعف الثورة أبصر وأنصف لما قال ما قال. إن ثوار سوريا ما زالوا يثيرون دهشة الدنيا إلى اليوم بصمودهم الأسطوري، ولولا ذلك لما وقف العالم معنا ولبقي في صف النظام. ليست هذه المقالة صفحة من التاريخ لأجمع لكم فيها أخبار المظاهرات والبطولات التي تشهدها شوارع سوريا في كل يوم، ولكن اسمحوا لي فقط أن أنقل لكم صورة مصغَّرة من حرستا، بلدة البطولة والصمود هي وجارتها الكبرى دوما وسائر بلدات ومدن غوطة دمشق، صورة وصلتني من “تجمع أحرار دمشق وريفها للتغيير السلمي” تصف أحداث أمس الأول أنقلها باختصار: حاصر الحرس الجمهوري حرستا منذ ليلة الإثنين، ومع الفجر انتشر عناصره في أحياء المدينة وبدؤوا حملة مداهمات للبيوت واعتقالات شملت مئتي شخص على الأقل، وكالعادة كسروا أثاث المنازل وسرقوا الذهب والمال والأغراض الثمينة، كما أحرقوا بعض منازل المطلوبين واعتقلوا أقارب مَن لم يجدوه منهم، وخربوا الممتلكات الخاصة وسرقوا الأغذية من المتاجر، وكانوا يطلقون الرصاص الحي على أي شيء يتحرك. واستمر إطلاق الرصاص الحي والقنابل الصوتية طوال فترة الاقتحام لإرهاب الناس، ثم انسحبوا أخيراً عند الظهر.
ما سبق هو وصف نموذجي لما يحصل في كل اقتحام للمدن الآمنة، فلعلّه لا يثير العجب، لكن ما يأتي بعده سيثير العجب إلى غايته: انسحب الجيش من المدينة ظهراً فخرج أحرار حرستا بعد صلاة الظهر في مظاهرة حاشدة، ثم خرجوا في مظاهرة أخرى كبيرة بعد صلاة العصر، وزاد عدد المتظاهرين على ألف شخص. وأثناء فضّ المظاهرة وصل وفد الأمم المتحدة لتقصّي الحقائق، فرفع الشباب لافتات باللغة الإنكليزية تقول إن الأمن يستعمل سيارات الإسعاف لقتل المتظاهرين ويصوّب الرصاص الحي مباشرة إلى رؤوس وصدور المتظاهرين العزّل، وتحدّث بعض المتظاهرين مع اللجنة وأخذوها إلى أحد المنازل التي أُحرقت بعد اقتحامها. وبعد صلاة التراويح خرجت مظاهرة حاشدة انطلقت من عدة مساجد في المدينة وجابت شوارعها، وبلغ عدد المتظاهرين نحو أربعة آلاف متظاهر، ورفع المتظاهرون لافتات تطالب بإسقاط النظام ومحاكمته وتدعو للإفراج عن المعتقلين.
هل تبدو لكم هذه الحكايةُ حكايةَ شعب ضَعُفَت ثورته؟ أمَا إن المتشائمين والمثبّطين لَيَظلمون الثورة أكثرَ ممّا يظلمها أعداؤها!
-5-
والآن سأحاول أن أجيب عن السؤال الأخير: لماذا تباطأت الأحداث؟
أنا لا أملك معلومات أكيدة أبني عليها جوابي، لكن التفكير بأسلوب منطقي يدلني على أن عائقاً ما قد أعاق الأحداث المتسارعة وتسبب في تأخير البدء بخطة الحسم. لعلكم تذكرون مسلسل التطورات الدولية والإقليمية والعربية والخليجية في حلقاته الثلاثين، وقد عرضته عليكم في الرسالتين التاسعة والعشرين والثلاثين من هذه الرسائل، وهو مسلسل متدفّق يوحي بأن أمراً كبيراً كان يجري الإعدادُ له إعداداً جادّاً وحثيثاً، وفجأة تباطأ تدفّق الأحداث بشكل ملحوظ. لماذا؟ اعتماداً على الحدس ومن باب التوقع -وليس اعتماداً على أي خبر موثوق- أقول إن السبب هو المعارضة السورية.
أرجو أن تمشوا معي في استطراد صغير ثم أعود إلى الموضوع. هل خطر ببالكم في أي يوم أن تتخيلوا كيف تكون العلاقات بين الدول؟ أنا أتصور الدول مثل الشركات؛ كيانات كبيرة يتعامل بعضها مع بعض على أسس الربح والخسارة والصراع على النفوذ. هذا مثال يوضّح المسألة: في كل بلد من البلدان توجد شركات لمنتجات الألبان تورّد للناس الحليبَ واللبن والجبن وغيرها من المنتجات المشابهة. نحن نعلم أن كلاً منها تُنافس الأخريات على حصص المبيعات في السوق، أي على “النفوذ” التسويقي، وكذلك تتنافس الدول. نحن نعلم أنه لا يمكن أن تساعد شركةٌ شركةً أخرى منافسة إلا إذا قبضت ثمناً أكبر من الذي تدفعه، وكذلك تتعاون الدول. نحن نعلم أن من المستحيلات أن ترسل إحدى الشركات هبةً مالية لشركة أخرى من باب الودّ والمحبة أو فعل الخير، بل لا بد أن يكون لها -لو صنعت ذلك- هدف يعود عليها بالربح، وكذلك تصنع الدول.
أطلقوا لأخيلتكم العنان وسوف تجدون أوجهَ شَبَهٍ كثيرةً بين الدول والشركات، وسوف تفهمون حقيقة العلاقات بين الدول من خلال هذا التشبيه البسيط، لكن دعونا الآن ننتهي إلى شَبَه أخير هو بيت القصيد في استطرادي: لو أرادت شركةٌ أن تعقد صفقةً مع شركة أخرى لتوريد منتج من المنتجات مثلاً، فهل يذهب مديرها إلى موقع الشركة الأخرى فيبحث عن بعض العمال ليوقع معهم العقد؟ بالطبع لن يفعل ذلك، بل سيبحث عن الشخص “المفوَّض” ليوقع معه العقد، إما المدير العام أو مدير المشتريات أو أي شخص معتمَد من قِبَل مجلس إدارة الشركة.
هذا هو ما أريد توضيحه. الشركات لا تتفاوض ولا يتعاقد بعضها مع بعض إلا من خلال ممثّلين مفوَّضين، والدول لا يتصل بعضُها ببعض ولا يفاوض بعضُها بعضاً أو يتفق بعضها مع بعض إلا من خلال ممثّلين مفوَّضين أيضاً. في الأحوال العادية، أحوال السلم والاستقرار، يقوم بهذه المهمة الوزراء أو السفراء مثلاً، ولكننا نعيش في حالة انتقالية في هذه الأيام، فالمجتمع الدولي سحب البساط من تحت النظام السوري وجرده من الشرعية، وهو يتحرك باتجاه الدولة السورية القادمة، أفلا ترون ضرورة وجود من يمثل هذه الدولة وينطق باسمها في هذه المرحلة الانتقالية الحاسمة؟ إذا فهمتم المسألة على هذا النحو فسوف تدركون أهمية وجود هيئة تنفيذية أو مجلس وطني أو أي جهة مرجعية تنطق باسم الثورة وتمثلها أمام المجتمع الدولي والقوى العالمية، وهذا هو تماماً ما حاولت بيانه في الرسائل الماضية عندما تحدثت عن مؤتمر الإنقاذ ودور الأستاذ هيثم المالح الذي كنت أظنه حاسماً وضرورياً، لكن يبدو لي الآن أن الأستاذ المالح لم يعد له ذلك الدور. لا أعلم متى تقرر تجاوزه والعمل بعيداً عنه، ولكن يبدو أن هذا حصل في أعقاب الأداء الفاشل لمؤتمر الإنقاذ الذي نُشر عنه الكثير. على أية حال سوف تكشف لنا الأيام خفايا وأسرار هذه الفترة من تاريخ الثورة، أما الآن فدعونا نركز على أهمية وجود هيئة أو مجلس لتمثيل الثورة أمام المحافل الدولية، وسوف تدركون حجم المشكلة في تأخر ولادة مثل هذه الهيئة أو المجلس إلى اليوم.
قد يبدو ما سأقوله الآن قاسياً بعض الشيء، لكني لا أستطيع منع نفسي من التصريح بخيبة الأمل في ما يسمى “معارضة سورية”. من خلال متابعاتي المطولة -التي حرصت فيها على معرفة كل صغيرة وكبيرة مما يدور في مؤتمرات المعارضة- فإنني أقول لهم بالصوت العالي: إنكم مخيبون للأمل.
إخوانُكم في الداخل يعملون في أصعب الظروف ويتحركون في عين الخطر ومع ذلك نجحوا في جمع مئة وتسعٍ من التنسيقيات المحلية في كيان واحد سمّوه “الهيئة العامة للثورة السورية”، وأنتم أقل من عشرة فصائل ولم تنجحوا في جمع كلمتكم في كيان واحد إلى اليوم؛ هذا وأنتم تتحركون بحرّية فتسافرون في الطائرات الفارهة وتعقدون الاجتماعات في الفنادق الفاخرة، أما إخوانكم الذين حققوا معجزة الاتحاد في الداخل فيتحركون على أقدامهم أو على الدراجات النارية ويخاطرون بعبور حواجز الأمن ويجتمعون تحت الخطر والتهديد بالاعتقال.
أقولها مرة أخرى: فعلاً إنكم مخيبون للأمل.
اسمعوها مني كلمة صريحة ولو ثَقُلت في مسامعكم: إنكم آثمون بتقديم مصالحكم على مصلحة الثورة، وفي رقابكم تتعلق كل ضحية جديدة تسقط على أرض الشام سببُها تأخركم في جمع صفكم وتوحيد كلمتكم. أنتم تتنافسون على مكاسبَ مادية وإخوانُكم في سوريا يضحون بأرواحهم، أنتم تضيعون الأيام في سبيل إضافة كلمة أو حذف كلمة من إعلان التأسيس وهم يدفعون العشرات من الشهداء في كل يوم. ويلكم من حساب الشعب وويلكم من حساب الله! أم تظنون -وأنتم تتنافسون على المناصب والمكاسب- أنها ستدوم لكم؟ إنْ أنتم إلا وسيط مؤقت، كذلك الحزام المتحرك الذي ينقل الحقائب بين الطائرة وقاعة المسافرين، أو كالمُعَدِّيَة التي تنقل الركاب بين طرفَي البر ليجتازوا برزخاً من الماء. أنتم مهمتكم أن تمثلوا الثورة في هذه الأيام الفاصلة من تاريخها، وبعد ذلك سيعود كل واحد إلى قواعده ويستلم الشعب ملفّ مستقبله ليقرر مصيره ويختار قادته، فإما أنتم أو غيركم، فلا تتعبوا أنفسكم وتصرّموا الوقت الطويل في أخذ ورد لن يأتيا بفائدة ذات شأن!
-6-
اشتدت الحملة على اللاذقية بعد كتابة المقالات الماضية فيما بدا أنه حملة تطهير عرقي، ولا سيما في منطقة الرمل. وقد سمعت أو قرأت توقعات يقول أصحابها إن تلك الحملة ربما كانت جزءاً من مخطط لإنشاء كيان مستقل يمتد من جبال العلويين إلى الساحل لاحتضان عصابة النظام في حالة سقوطه.
أنا شخصياً أستبعد أن يفكر النظام الأسدي -العائلة والعصابة- بنقل الدولة إلى جبال العلويين، فهو يريد سوريا كلها وسوف يقاتل حتى النهاية لتبقى في يده، وإذا اضطر إلى خوض معركة كبرى فسوف تكون ساحتها هي دمشق وليس أي مكان آخر. هذه النقطة الأخيرة أشرت إليها باختصار حينما نشرت خلاصة للرسالة الثلاثين ووعدت بتفصيلها في رسالة لاحقة، لكني لم أفعل. سامحوني على التأخير فإن الواجبات تتمدد حتى تضيق عنها الأوقات، وادْعوا لي بالبركة في الوقت حتى أستطيع إنجاز كل ما أريد إنجازه، فهذا رمضان شهر الدعاء وشهر الإجابة، لعلي أوافيكم قريباً بإذن الله بالمقالة التي كتبت جزءاً منها وبقي جزء، مقالة “ثورة دمشق”.
إن الثورة مصرّة على وحدة التراب السوري كله، هذا واحد من الأصول الأربعة الكبرى التي أصرّت عليها منذ أيامها الأولى وما تزال. إن الشعب الثائر لن يتنازل عن اللاذقية وبانياس وجبلة وطرطوس ولو استمر في ثورته عشر سنين أو عشرين. ثم إن سوريا الحرة لا يمكن أن تقبل حرمانها من البحر، ودولة علوية بهذا التصور يمكن أن تصل ما بين حدودَي تركيا ولبنان وتحجز الساحل كله.
أخيراً فإن تركيا لا يمكن أن توافق على ولادة دولة علوية مستقلة على الأرض السورية لأنها ستفتح باباً لا قِبَل لها بإغلاقه، فسوف يتحرك علويّو تركيا مطالبين بدولة لهم أو بالانضمام إلى الدولة العلوية السورية، وعلى إثرهم سيتحرك الأكراد أيضاً، وسوف تنفجر تركيا انفجاراً كبيراً. لا، إنهم أعقل من أن يسمحوا بمصير كهذا المصير، ولن يقبلوا بأن يُفتح هذا الباب أصلاً ولن يسمحوا بأي جيب علوي مستقل في سوريا مهما تكن الظروف.
-7-
نقطة أخيرة أثارتها أحداث ليبيا الأخيرة. لاحظنا كلنا أن انهيار طرابلس كان أمراً مباغتاً تماماً وسريعاً جداً، مما دفع بعض الناس إلى التساؤل: هل استعجل حلف الأطلسي بإنهاء الحرب في ليبيا ليتفرغ لسوريا؟
هذا السؤال يحمل في طياته افتراضاً ضمنياً بأن الحلفَ قادمٌ إلى سوريا لتنفيذ مهمة عسكرية، وأن التوقيت هو محل البحث. لكن أليس التدخل العسكري الغربي خطاً أحمر اختطَّتْهُ الثورةُ لنفسها منذ أيامها الأولى وثبَتَت عليه إلى اليوم؟ معنى ذلك أن الحلف لن يتدخل عسكرياً في سوريا أبداً بإذن الله، هذا ما أظنه أنا على الأقل إلى درجة تقارب اليقين، باستثناء حالة واحدة أحسب أن الثورة يمكن أن توافق عليها، وهي فرض حظر طيران لو بلغ الجنونُ والإجرام بالنظام أن يحرّك الطائرات الحربيةَ لقصف المدن. هذا الاحتمال واردٌ في مرحلة ما من مراحل سقوط النظام، ربما كمحاولة أخيرة يائسة لإنقاذ نفسه أو من باب الانتقام، ولو أنه حصل فلا مناص من الاستعانة بقوة خارجية لفرض حظر طيران لإنقاذ مدن سوريا من كارثة كبيرة لا سمح الله.
إذن فإن أي تدخل عسكري بري غربي لا يبدو متوقعاً أبداً، لكن ربما تتحرك تركيا عسكرياً بطريقة ما تحت مظلة الحلف، أليست هي جزءاً منه في نهاية المطاف؟ وخيرٌ من ذلك كله أن تُرتَّب خياناتٌ كبيرة داخل النظام تُسقطه سقوطاً سريعاً، وقد ضربت في مقالاتي السابقة مثلاً لهذه الخيانات بما حصل في العراق يوم تخلى أعوان صدام وضباطه الكبار عنه وباعوه بثمن بخس فانهار نظامه في طرفة عين، ثم شاهدنا مثالاً آخر أمس في ليبيا حينما أمر قائد كتائب حماية طرابلس، اللواء البراني إشكال، أمر ضباطه وجنوده بإلقاء السلاح وتسهيل دخول الثوار لطرابلس دون مقاومة. لا أستبعد أبداً أن يكون هذا هو مصير النظام في سوريا وأن يكون هذا هو ما تعمل القوى الدولية على ترتيبه حالياً، وكما قلت في رسالتي الماضية: راقبوا المؤشر الخامس من مؤشرات انهيار النظام (تصدع النظام وانشقاقات أو تصفيات على أعلى المستويات). هذا المؤشر ما زال متوقفاً عن العمل، ولو أنه تحرك بصورة حاسمة فإنه سيدل على اقتراب النهاية اقتراباً مثيراً، بل ربما لا أجد الوقت لأطلّ عليكم برسالة بين تحركه وانهيار النظام! افتحوا أعينكم.
-8-
بعد نشر الرسائل الأخيرة التي كتبت فيها توقعاتي للمرحلة المقبلة صرت تحت الاختبار: هل تصحّ التوقعات أم تخيب؟ وربما قال أحدهم: أرأيت؟ لم يحصل الأمر كما ذكرت. أريد أن أنبه إلى أن الذين يشتغلون بالتوقعات -سواء أكانت اقتصادية أو سياسية أو حتى توقعات عن الطقس- لا يعلمون الغيب، ولو كانوا كذلك لصار المحللون الاقتصاديون من أكبر أثرياء الدنيا لأنهم سيعرفون ما يرتفع وما ينخفض من أسعار الخامات والبورصات فيبيعون ويشترون، والحقيقة أنهم ليسوا أثرياء على الإطلاق. من قديم قرأت أن الخبير الاقتصادي هو الذي يشرح لك لماذا ارتفعت أسعار الذهب أو النفط بعد ارتفاعها، وليس هو الذي يتنبأ بارتفاعها. المهم في عمليات التحليل أن تُبنى على منهجية سليمة، وقد تخطئ بعد ذلك أو تصيب.
ليس شيءٌ من ذلك يهمني، الذي يهمني فعلاً هو أمر واحد: لا تتخلوا عن التفاؤل، لا تسقطوا في هاوية اليأس، لا تفقدوا الثقة بالله ولا تيأسوا من رحمته. نحن الآن في رمضان، شهر القرآن، سيمر كل واحد منكم ولو مرة واحدة على الأقل بقصة إبراهيم لمّا بشرته الملائكة بإسحاق، سأل مستغرباً: كيف تبشرونني بالولد وقد بلغت من كِبَر السن ما بلغت؟ فردّوا عليه بذلك الرد الحاسم: {قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين}. إن إبراهيم بشر ولو كان نبياً ولو كان من أولي العزم من الأنبياء، وطبيعي أن يعتريَه ما يعتري البشر من ألم وفرح وضيق وانشراح ويأس وأمل، ولعله كان قد مال إلى اليأس في تلك النقطة تحديداً بعدما أمضى سنين طويلة من عمره وهو يدعو الله أن يرزقه الولد الصالح، ولكن سؤال الملائكة الاستنكاري ردّه إلى رشده رداً سريعاً، فهتف من فوره: {ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالّون؟}
أنا لا أتحدث عن أمر قادم في رسائلي إلا قلت “ربما” أو “يغلب على الظن”، إلا أمراً واحداً، هو نصر الله. هذا هو الأمر الوحيد الذي لست منه في شكّ مقدارَ شعرة، لأنه وعد الله. أليس الله وعد مَن يغيّرون أنفسهم بأن يغير حالهم؟ وأنتم -يا شعب سوريا المؤمن الحر الأبيّ- غيرتم أنفسكم فانتفضتم ورفضتم الظلم والهوان. ألستم جند الله، خرجتم من بيوت الله فهتفتم لله واستُشهدتم في سبيل الله؟ أليس الله وعد جنده أن يكفيهم عدوهم وأن ينصرهم؟
بلى، ولكنكم تستعجلون.